لم تمنع الخبطة التي تلقاها الفدائي محمد بن صدوق - إثر اعتقاله على يد عناصر الحرس الجمهوري(*) - من شعوره بسعادة غامرة: سعادة القيام بالواجب التي تجعله لا يأبه كثيرا لما يناله بسببه بعد ذلك. كان قد نقل فورا إلى محافظة الشرطة "بكولومب" حيث خضع لتفتيش دقيق، عثر خلاله على القرينة التي نسي التخلص منها، بينما كان يركب القطار في طريقه إلى الملعب بعد ظهر 26 مايو 1957: الرسم البياني الذي كان وضعه لمصفاة النفط "بروان". هذه القرينة جعلته يستغل المهلة القصيرة قبيل الشروع في استنطاقه، لينسج حولها روايته لحادثة ملعب كولومب ودوافعها. كان همه الأول في ذلك محاولة إبعاد علاقته المباشرة بجبهة التحرير الوطني، لا سيما تجنب الكشف عن وجود "فرع خاص" (مسلح) لها في إطار استراتيجية نقل المعركة إلى أرض العدو، وفتح جبهة ثانية بفرنسا ذاتها. مشجب.. سليمان! استلهم روايته من فيلم "الرجل الثالث" (1) باختلاق شريك ثالث في العملية أسماه سليمان.. الذي كان في نقاش مستمر معه حول الوضع في الجزائر، وحالة البؤس الغالب على عامة الشعب، وتفاقم ذلك بفعل القمع الوحشي منذ بداية الثورة. وذات يوم كان النقاش مع سليمان يدور حول منشور لجبهة التحرير، يتناول الدور الخياني لبعض الجزائريين الذين باعوا أنفسهم لسلطات الاحتلال، ويدعو المواطنين إلى الانتباه لمخاطر الخونة والتنديد بهم.. وهنا تحمس محمد الطالب وقال لصديقه: لو صادفت في طريقي خائنا مثل علي شكال لقتلته! وهكذا تولدت فكرة العملية! وتقدم الفدائي ذلك كمبادرة فردية ومشاركة شخصية، كما يفعل كثير من الجزائريين كل حسب قدراته: هناك من يحمل السلاح في الجبال، وهناك من يقوم بأعمال التخريب، وهناك من يشارك في الإضرابات، وهناك من يدعم الثورة ماديا ومعنويا... إلخ. اختلق بن صدوق سليمان ليلصق به كل شيء! فهو الذي استفزه عندما عبر له عن استعداده لتصفية شكال! فقد رد عليه بما معناه: هذا شأن كبير عليك! ابدأ أولا بما تستطيع! كان الصديقان حينئذ يمران بجانب محطة بنزين فقال سليمان: قل لي فقط من أين يأتي بنزين هذه المحطة؟! هذا التحدي أوصل محمدا إلى مصفاة "روان"، ليبرهن على جديته! هذا عن الرسم البياني. فماذا عن المسدس؟ قال إن سليمان اشتراه من "برباس" ب120 فرنك، وهو الذي زوده كذلك بالمعلومات حول الهدف، وبأرقام السيارات التي يستعملها. لكن من هو سليمان؟ إنه جزائري يعمل في معمل "بيانكور" لشركة "رونو"، كان تعرف عليه بتلمسان أثناء الخدمة العسكرية الإجبارية. كل هذه الرواية لينفي انتماءه إلى الجبهة، بعد التأكيد على أن ليس له سوابق نضالية، ولم يسبق أن اعتقل لانتمائه السياسي.. ويمكن اختزال نشاطه المدني في الكشافة والموسيقى! انطلقت خرافة سليمان على العدالة، فأرسلت إلى تلمسان لجنة تحقيق بحثا عنه! عاد المحققون بثلاثة أسماء من دفعة بن صدوق لكن عثروا على صورتين فقط.. فأصر المتهم على أن الصورة الناقصة هي التي يمكن أن تكون صورة سليمان شريكه الذي لابد من إحضاره، ليتقاسم معه جزءاً فعله! مقايضة.. القاضي بيراز كان قاضي التحقيق بيراز مأمورا بطيّ ملف بن صدوق بسرعة، وتقديم رأسه إلى المقصلة للمثل والعبرة قبل العطلة الصيفية، بالنظر إلى جرأة العملية وآثارها السياسية والنفسية، بل انعكاساتها الأكيدة على مشروع "القوة الثالثة". وتزامن ذلك مع تصاعد موجة الغضب وسط المستوطنين لاسيما العاصميين منه إثر عمليات فدائية ناجحة مثل عمليتي الأعمدة الكهربائية والكورنيش (2).. فراحوا يلحون في الطلب أن تتشدد العدالة - العسكرية - أكثر في أحكامها، مع تنفيذ أحكام الإعدام خاصة فوراً، كمظهر من مظاهر التعبير عن إرادة فرنسا في الجزائر! لكن ها هو سليمان (الوهمي) يشكل حجرا في حذاء القاضي بيراز! كان المتهم محبوسا بسجن "فران" (3)، في زنزانة محصنة تقع قبالة مكتب الحراس! لكنه كان يقضي نهاره في باريس، بين مكاتب المحققين من رجال الأمن والقضاء.. وقد كلف بالدفاع عنه المحامي "بيار ستيب" المعروف بدفاعه عن الوطنيين الجزائريين، لا سيما في محاكمات "المنظمة الخاصة" الشهيرة مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. ولتفادي حجر سليمان - الذي بات كابحا جديا للإسراع بالمحاكمة - اضطر القاضي بيراز إلى الاستعانة ب"المكتب الثاني" (المخابرات) للجيش الفرنسي الذي أخرج من الملف العسكري للمتهم تلك الرسالة لتي عاتب فيها صديقه مصطفى سريدي المجند في عنابة إثر احتجاجه على الخبز اليابس في رمضان. كما سبقت الإشارة. استعمل القاضي هذه الوثيقة في عملية ابتزاز سافرة: أن يتجاهل الوثيقة - التي تنفي خلو ملفه من السوابق - مقابل تخلي المتهم عن شرط استحضار سليمان لمحاكمته! استشارة بن صدوق محاميه، فنصح بالقبول، وهكذا تمت الصفقة! كان القاضي - المأمور - يريد تقديم المتهم إلى المحاكمة في يونيو 1957، فكان لذلك يستقبله صباح مساء طوال أيام الأسبوع ما عدا السبت والأحد. لكن العجلة من الشيطان دائما! في 7 يونيو تسلم المتهم من المحضر استدعاء، للمثول أمام المحكمة الإثنين القادم. العجلة من الشيطان.. دائما! وصادف أن زاره "ستيب" عقب ذلك رفقة زوجته - المحامية - فأراهما الاستدعاء، ففوجئا بذلك. تلقفا منه الوثيقة لقفا، وقفلا راجعين على جناح السرعة! لقد وقع القاضي في خطأ إجرائي: تبليغ المتهم دون محاميه. أو قبل. وقد مكن هذا الخطأ المحامي، من تأجيل المحاكمة ستة أشهر كاملة، استغلها لإعداد دفاعه بجمع ما أمكن من المعلومات والشهود لصالح موكله. بدأت المحاكمة يوم الإثنين 9 ديسمبر 1957، واستغرقت ثلاثة أيام، وكان لها صدى كبير بفضل حضور شخصيات بارزة سواء كشهود نفي أو إثبات. فقد شهد لصالح المتهم الفيلسوف جان بول سارتر، والجنرال "توجار" صاحب التحقيق - الناقص - في مجازر 8 مايو 1945، والباحثة جرمان تيون، والصحافي روبار بارا.. والعديد من رجال الفكر والأساتذة، فضلا عن عدد من الزملاء الفرنسيين كانوا تعرفوا عليه في منطقة "لالزاس". وشهد عليه بالمقابل عدد من أساطين الاستعمار، مثل جورج بيدو، وجاك سوستال الوالي العام السابق، فضلا عن الوالي السابق نيجلان - الذي اقترن اسمه بتزوير الانتخابات ما بين 1948 و1951 - الذي أناب عنه زوجته، لتلاوة رسالته أمام المحكمة. ولاستعطاف هيئة المحكمة والتأثير في الرأي العام الفرنسي خاصة، استنجد الطرف المدني بالآنسة "جيزال لولوش" التي كانت فقدت ساقيها، في العملية الفدائية التي استهدفت كازينو "سانت أوجان" في 9 يونيو من نفس السنة. طبعا أشاد سوستال وهو يدين فعل الفدائي بن صدوق بدور علي شكال "الصديق الوفي لفرنسا".. لا سيما خلال جولة مطلع السنة بالولايات المتحدةالأمريكية، هذه الجولة التي استغرقت شهرا كاملا، قبل أن تختتم في أروقة الجمعية العامة للأمم المتحدة بالدفاع عن الموقف الفرنسي من القضية الجزائرية. فحسب سوستال أن شكال "ساهم إلى حد كبير في تنوير الرأي العام الأمريكي، حتى لا ينخدع بالأفكار البسيطة الرائجة حول موضوع الجزائر"! وكان هدف إشراك "الأمير شكال" خاصة، أن يساهم في نفي تمثيل جبهة التحرير الوطني للشعب الجزائري، أو التعبير عنه، أو الحديث باسمه.. فهو باعتباره رئيس المجلس العمالي لوهران أجدر بتمثيل هذا الشعب! سارتر: تصفية شكال.. عمل بطولي وإذا كان أمثال بيدو ونيجلان وسوستال قد ألحوا على ضرورة قطع رأس المتهم، فإن شهود النفي دافعوا عنه بشرف، كما يؤكد ذلك موقف الفيسلوف سارتر.. فقد بدأ شهادته لصالحه قائلا: "إن البشرية جمعاء تعتبر خائنا من يتآمر على وطنه".. ووصف تصفية شكال بالعمل البطولي الذي يحظى بتعاطف جميع الذين يكافحون في سبيل الحرية والاستقلال". وختم مرافعته قائلا "لو أن فرنسيا كان مكان بن صدوق في نفس الظروف لرفع إلى عِلِّيين.. ذلك أن قيمة الرجال إنما تقاس بمدى استعدادهم للتضحية في سبيل شعوبهم". وأحال رئيس المحكمة الكلمة إلى المتهم فقال باعتزاز وفخر كلمات موجزة: إن الواجب الوطني أملى عليه ما فعل، رغم أسفه على ذلك. وأنه طبعا مستعد لتحمل نتائج القيام بواجبه. طالب وكيل الجمهورية في ختام الجلسة بتسليط أقصى عقوبة على الجاني المفترض، أي الإعدام، لكن هيئة المحكمة أخذت الظروف المخففة بعين الاعتبار، فحكمت بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة. تأثر المحامي ستيب لهذا الحكم الذي كان قاسيا في نظره.. لكن المحكوم عليه سارع بالتهوين عليه قائلا: "يكفي أنك أنقذتني من الموت.. لأنني سأخرج من سجني بعد سنتين أو ثلاث"! كان بن صدوق متفائلا قليلا، لأن سجنه دام خمس سنوات كاملة. بدأت هذه الرحلة الطويلة عبر السجون الفرنسية "بفران"، لتنتهي "بلامبيز" (تازولت) في مايو 1962، أي بعد وقف القتال بنحو شهرين. درس.. ماسينيون في "فران" - حيث مكث 6 أشهر بعد محاكمته - زارهم ذات يوم المستشرق لويس ماسينيون، وتحدث إليه شخصيا بضع دقائق.. كان يتحدث عربية فصحى بلكنة سورية فلقي صعوبة في فهمه.. وما لبث أن قاطعه قائلا: "من فضلك حدثني بالفرنسية! فوجئ الزائر بهذه الملاحظة، فنظر فيه مليا ثم ودعه. هذا الموقف جعله يراجع نفسه، فيقبل على تعليم العربية التي كان مستواه فيها بسيطا، يقتصر على معرفة الحروف التي كان تعلمها بالكتاب في صغره، مع سورتين أو ثلاث من القرآن الكريم.. كما تعلم في سجنه مبادئ المحاسبة، وشيئا من الإنجليزية. كان سجين المؤبد والأشغال الشاقة يعاني في زنزانته الفردية عزلة خانقة، لا تكفي للتغلب عليها لا الدراسة ولا المطالعة، ولا حتى الأشغال الشاقة، ذاتها! وللهروب من هذه العزلة بدا له ذات يوم أن يقترح على إدارة السجن مساعدتها في المحاسبة! لم تر مانعا في ذلك، لكنها فضلت أن تأتيه بالعمل إلى زنزانته! ولنفس الغرض طالب بحقه في صلاة الجمعة.. فسارع الإدارة بتلبية طلبه، لكن بإقامة الصلاة في زنزانته مرة أخرى! في هذه الحالة من الضيق المعنوي، يجد السجين المعزول متنفسا في الأعمال الشاقة التي مارسها في سجن "روان" بورشة رفقة سجينين فرنسيين، صدرت في حقهما أحكام ثقيلة.. كانت الورشة تقوم بصناعة كراس متنوعة من القصب الخاص، لتلبية طلبات من خارج السجن مقابل منحة زهيدة، تنفق في شراء التبغ ومواد النظافة.. وغيرها. قسما.. في سجن تولوز! وينقل إلينا الشاهد صورة طريفة من سجن "تولوز" الذي نقل إليه بعد نحو سنة في "روان".. لقد وجد أن السجن بأيدي سجناء جبهة التحرير عمليا! يعيشون فيه نوعا من الاستقلال قبل الأوان! ومن مشاهد ذلك رفع علم الجزائر وإنشاد قسما - في حالة الاستعداد - كل صباح! سمع بن صدوق أول مرة نشيد قسما وعباراته الثورية، فأخذته الرهبة وراحت الدموع تنسكب من عينيه دون أن يشعر. علم بالمناسبة، أن الشيد الوطني جاءت به من الجزائر إلى السجن آخر دفعة من المحكوم عليهم بالإعدام سابقا، وأكثرهم كانوا بسجن البرواڤية. لم تدم فترة الشاهد طويلا بسجن "تولوز"، لنقله معاقبا إلى "فوا" (عمالة أرياج)، بعد شن إضراب عن الطعام، اشتبه في أنه كان من المحرضين عليه. ويقول عن تلك العقوبة الجسدية أنه لم يسبق أن عانى مثلها، ما جعله يفقد في أسبوع 10 كلغ من وزنه، لكن بعد هذه الشدة بدأت الانفراج: لقد زارته هناك شقيقته رفقة زوجها، وأهدياه مذياعا.. ثم حصل بعد ذلك على حق مطالعة صحيفة "لوموند".. التي كان يعتمدها لأعداد معرض أسبوعي للأنباء يتلوه على مسامع رفاقه بالعربية.. وتعزز الانفراج في أواخر 1961 بإخراجه من عزلته، ونقله إلى زنزانة يتقاسمها مع ثلاثة رفاق من جبهة التحرير. وفي منتصف مايو 1962 بعد قرابة شهرين من وقف القتال بالجزائر تم جمع عدد من السجناء "بماتز"، لنقلهم جوا إلى سجن تازولت (باتنة). كان بن صدوق من بين هولاء.. وقد استقبل في هذا السجن - ذي السمعة السيئة - من رفاقه بحفاوة بالغة، لما كان من صدى كبير للعملية التي نفذها قبل 5 سنوات، والمحاكمة المثيرة التي أعقبتها. وكانت فرحته كبيرة بلقاء والدته التي جاءت لزيارته هناك، مدفوعة بعاطفة الأمومة، دون أن تكون متأكدة من وجود ابنها في "لامبيز". وفي 22 مايو غادر "تازولت" إلى عنابة عبر قسنطينة.. وقد استقبل بالمدينة القديمة - مسقط رأسه ومقر إقامة عائلته - استقبال الأبطال، وحمل على الأكتاف حتى مسجد سيدي بومروان العتيق. غير أن إشعاع البطولة ما لبث أن تبدد! بل كاد يتحول إلى لعنة بعد 48 ساعة فقط! فقد تلقى "أمرا بالحضور" إلى مقر الولاية الثانية بأعالي القل، حيث وجد العقيد صالح بوبنيدر واثنين من نوابه، عبد المجيد كحل الراس والطاهر العنابي (بودربالة).. كما وجد آخرين أمثال أحمد قايد والشاذلي بن جديد.. بعد أيام اكتشف أنه شبه سجين، أسوة بهذين الأخيرين! استفسر صديقه عبد الله فاضل عن السبب، فأسر إليه بأن قيادة الولاية تعتبره شخصا مهما، لذا حرصت على أن تعرف ميوله، وما إذا كان سينضم إلى خصومها (تحالف بومدين وبن بلة) أم لا. وقد اضطر بن صدوق إلى تبديد مخاوف قيادة الولاية بإعلان قبوله "مهمة متواضعة": بعث الحركة الكشفية على الشريط الحدودي من تبسة.. إلى عنابة.. لتكون هذه الحركة على موعد مع احتفالات الاستقلال الوشيك. (انتهى) (*) طالع الحلقتين الثانية والثالثة في عددين من "الفجر". (1) "الرجل الثالث" كان مجرد جثه، استغلها الحلفاء لنقل رسالة مضللة للألمان، تتضمن خطة لإنزال بحري مزعوم بالسواحل اليونانية، تمهيدا للإنزال الحقيقي بالشواطئ الإيطالية. (2) أسفرت العمليتان في 3 و9 يونيو عن عشرات القتلى والجرحى. (3) جنوب شرق باريس - عمالة "فال دومارن" (94).