السجين حرّ، ولكنه ليس مستقلا.. بينما "العبد" فاقد للحرية والاستقلال، ذلك أن المسجون حرّ داخل زنزانته، لأنه يستطيع أن يفكر بحرية فيما بعد فترة السجن، ويستطيع أن يخترع لنفسه عالما خاصا يجعله يعيش "حريته" داخل الحيّز الذي حدده له السجان، أما العبد فمحروم حتى من مجرد التفكير في الانعتاق. إن ثورة التحرير المباركة، التي نحتفل هذه الأيام بمرور نصف قرن على ثمرتها الكبرى، المتمثلة في استرجاع السيادة الوطنية، قد حققت لنا الحرية ولكنها لم توفر لنا الاستقلال، ومع أن خمسين (50) سنة قد انسلخت من عمر الدولة الوطنية إلاّ أن الواقع ما زال يعاني اختلالات كثيرة على مستوى الممارسات الحرة، كما على مستوى المناشط المستقلة. فإذا تجاوزنا النقاش النظري حول المفاهيم اللغوية والفلسفية لمعنى الحرية والإستقلال وتناولنا - في حديثنا هذا - المضامين والمحتويات والمقاصد فإن محطات كثيرة سوف تستوقفنا للمراجعة والتأكد من فرضية "الشعب الحر" والأمة المستقلة التي دفعت زهاء 07 ملايين شهيد بين 1830-1962 لكي يتحرر قرارها وتستقل إرادتها عن المحتل استقلالا كاملا. فالحرية في المفهوم السياسي الميداني تعني الحق في تشكيل الأحزاب والترشح، كما تعني كذلك حقوق المشاركة والمعارضة وحرية التنقل والاتصال والتواصل مع المحيط الداخلي والخارجي.. بما يحقق مبدأ تكافؤ الفرص في مضامين الحرية الممنوحة لكل مواطن دون تذرع، بما كان يتذرع به الاستعمار، فيحرم غير المعمرين من حقوق كثيرة ويسلبهم كل الحريات الفردية والجماعية السياسية منها والاقتصادية والثقافية حتى يتحول أبناء الوطن إلى "عبيد" في معسكرات الاحتلال ليس لهم من هوامش الحرية إلاّ أربعا: - حرية الزواج والإنجاب كما تتناسل جميع الكائنات الحية بغريزة حب البقاء. - حرية النوم استعدادا لعمل شاق.. بعيدا عن أوجاع رأس المستعمر. - حرية الجهل والفقر والمرض.. - حرية الموت المهين والدفن المهين للمحرومين من كل حرية. أمام هذا الواقع المهين.. عاش الشعب الجزائري 132 عام يتطلع إلى الحرية التي يسترد بها كرامته وتعطيه الحق في أن يتصرف، في ممتلكاته وأرضه، كمجتمع إنساني وليس كقطيع يضمن له "راعيه" الحق في التناسل والبقاء ليستخدمه في استكمال أدوات الرفاهية التي يريدها المستعمر، فكان يقاوم من أجل إقرار المبادئ التي قام عليها ميثاق الحق الإنساني العالمي. وقد تحقق - بفضل ثورة التحرير المباركة - هذا الحلم، وتحررت الجزائر عسكريا وتاريخيا، وعشنا، في ظل "الحرية التاريخية" خمسين (50) عاما نتحدث فيها عن "سيادة الشعب" وعن "الشعب الحر" ونسينا أن السيادة الحرة لا يمكن تجسيدها إلاّ إذا أسسنا لركنين هما حجرا الأساس لكل "سيادة" منشودة تكون في مستوى تضحيات الشهداء، وهما: - الحرية التطبيقية: التي تعطي لكل مواطن الحق في صناعة القرار. - والاستقلال العملي: الذي يشعر كل مواطن، في ظله، بأن حياته مستقلة عن التابع والمتبوع. وعلى هذين الركنين تقوم حياة الأفراد (الأحرار المستقلين) كما تتأسس عليهما الدولة القوية التي لا تخاف من أصحاب الفكر الحر ولا تزج بأصحاب الرأي الحر في السجون والمعتقلات، فالدولة المستقلة ليست بحاجة إلى "كفالة" خارجية تضمن لها غذاءها ودواءها وكساءها.. لأنها مكتفية ذاتيا بمواردها، وقادرة على أن تتحرر من كل تبعية لغوية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أو عسكرية. وقادرة على أن تعلن استقلالها الكامل عن كل أنواع التبعيات. هذه هي أركان الدولة الحرة المستقلة. فهل نحن اليوم - بعد خمسين (50) عاما من إسترجاع السيادة - نملك قرارنا السياسي 100٪؟ وهل نستطيع إعلان الاستقلالية الاقتصادية عمن جثم على صدورنا 132 سنة؟ أم أننا مازلنا تابعين له - بنسب مئوية متفاوتة - لغويا وسياسيا واقتصاديا.. بل حتى جغرافيا وتاريخيا في بعض المفاصل الحساسة؟؟ قد يُعذر الجنين في رحم أمه كونه حرّا ولكنه غير مستقل، بدليل أن حياته مرتبطة بالحبل السري الذي يمده بالغذاء والأوكسجين عبر كل خفقة قلب لأمه، وهو في ظلمات ثلاث، ولكن عذره يسقط مع بداية الانفصال والخروج إلى الوجود؟ فمن استقل يجب أن يتحرر.. والعكس صحيح!؟ هذا مثال لشرح المصطلحين فقط أما الخوض في المضامين والمقاصد فله حديث لاحق. [email protected]