كالعادة تحتلّ كتب ياسمينة خضرا قائمة الكتب الأكثر مبيعا، وعلى غير العادة نقرأه هذه المرة كاتبا للقصّة القصيرة. يسبح عكس الجميع، نازلا من سماوات الرواية إلى أرض القصّة، لا استسهالا لهذا الفن، أواتخاذها استراحة كاتب بين روايتين، وإنّما لكي يعيد لها بعض مجدها الضائع، ويؤكد مرة أخرى أنه كاتب قادر على الإمتاع والإدهاش.. عندما بدأت قراءة كتاب ياسمينة خضرا الأخير، الصادر عام 2012 عن منشورات القصبة، توقعت أن أجد من بين القصص الإثنى عشر التي ضمّها الكتاب، وهي وادقازن، العار، أبواب السماء، صانع السلام، فجر القدر، نجمة في الضباب، الليلة الطويلة للتائب، ياماها الرجل الذي يضحك،القائد، غياب، حلم مراكش، والمبهم.. قصّة تحمل نفس عنوان المجموعة، كما هي عادة كتب القصّة القصيرة، أو على الأقل أن أجد في المتن ما يحيل على العبارة التي اختارها عنوانا للكتاب.. بل لم أعثر على الكلمتين المشكلتين للعنوان، وهما الأغاني المتوحشة les chants cannibales ما يعني أن العنوان ذو محمول شعري وبعد إيحائي، مثله مثل عنوان "أزهار الشر" لبودلير تماما. لا يعكس بالضرورة حقيقة أو واقعا ما، وليس أكثر من مجاز شعري له ما يبرّره في جرعة الشعرية والغنائية العالية التي كتبت بها القصص. هذا العنوان نجد له ما يماثله في الريبرتوار الروائي الطويل لياسمينة خضرا، على غرار "سنونوات كابول" و"بم تحلم الذئاب؟" و"خريف الأوهام" و"خراف الآلهة".. وهي عناوين تعتمد على الشعرية والمفارقة، لكنها على الرغم من أهميتها عادة ما تطرح مشكلات على مستوى الترجمة، ما يفسّر التفاوت والدقّة المفقودة في ترجمة عناوين روايات الكاتب بين مترجم وآخر، وبين المشرق والمغرب. وهو ربما ما حدا بياسمينة خضرا، في وقت سابق إلى إبداء عدم رضاه عن الترجمات الجزائرية لرواياته. شخصيا لا أعتقد أن "غناء المتوحشين" هي الترجمة الأنسب للكتاب بالنظر إلى ما يفهم من السياقات القصصية، ذلك أن الكاتب يشدّد على المصائر التراجيدية للمهمّشين والمسحوقين، وهو نفسه ما يفسر إثباته لعتبة نصية افتتاحية مقتبسة من كتاب فرانتز فانون "معذّبوالأرض"، جاء فيها "أنّ كل جيل عليه أن يكتشف بشكل ما رسالته، وعليه أن يؤديها أويخونها.." تعتبر قصة "المبهم" القصّة المفتاحية الأقرب لتفسير اختيار الكاتب لعنوان المجموعة "غناء المتوحشين"، ذلك أنها تروي حكاية فاضل الشاعر المرفوض والمهمّش، إذ يعاني من سوء الفهم من قبل المجتمع، بدءا بزوجته و أقربائه، مثلما يعاني من القمع والملاحقة والرقابة، "يرى نفسه في لحظة ما في زنزانة أشبه ما تكون بالقبر، يدور حول نفسه مثل وحش كاسر.." مع ذلك، فأنا أستعبد "غناء المتوحشين"، ومن السهولة بمكان نفي عذوبة الغناء عمن صفتهم الوحشية ولذلك أميل إلى أن أفهم "الأغاني المتوحشة" على أنها تلك الكلمات التي تأكل صاحبها معنويا ومن الداخل، بتواطؤ مع الآخرين الذين يشكّلون الجحيم في نظر سارتر.. أوعلى سبيل الاستعارة البلاغية ، حسبما جاء في القرآن "أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه"، في إشارة إلى سلوكيات الغيبة والنميمة. لكنه ليس حسيّا مثلما يفعل أكلة لحوم البشر حقيقة، ممن قرأنا وسمعنا عنهم.. عادة ما كنت أجد نفسي أثير استغراب تلاميذي، في دروس التربية التشكيلية، و أنا أحاول أن أشرح لهم الأسس الجمالية لأسلوب "المدرسة الوحشية le fauvisme وكيف تجلّى هذا الأسلوب الشرس في استعمال الخطوط السوداء والألوان الصارخة عند هنري ماتيس وبيكاسو بدء.. لذلك لا أجد تفسيرا لهذا الكلام سوى أنني أحاول المقارنة بين أسلوب الفنانين الوحشيين، وبين أسلوب ياسمينة خضرا وهو يعبّر عن الحالة الإنسانية في تناقضاتها بألوانها المتضادة، وحالاتها القصوى بأسلوب لا يحسنه إلا هو، يجمع بين الواقع والفنتازيا، وبين الخيال والسحر، وبين الخرافة والصوفية المرابطية.. أنا انظر إلى "الوحشية" كحالة جمالية وثقافية تكتسب معنى إيجابيا ،مثلها مثل البوهيمية والصعلكة بوصفها التمرّد على السائد الفكري والاجتماعي، والخروج على الأعراف والتقاليد البالية، ولأمر ما كان شاعر العربية الكبير أبو العلاء المعري يقول عن نفسه بأنه "إنسي الولادة وحشيّ الغريزة". أحمد عبدالكريم