لقد قاوم الجزائريون الغزاة الفرنسيين منذ أن وطئت أقدام أوائل جنودهم أرض سيدي فرج في غبش فجر 05 جويلية من سنة 1830 غير أن المقاومة الوطنية كانت مبعثرة ومتفرقة حتى في ... الأفكار. ذلك أن الأتراك الذين كانوا يحكمون ”أيالة الجزائر” منذ 1516 خذلوا الجزائريين وتفاهموا مع الغزاة الفرنسيين فسلموهم السلطة مقابل أخذ الأموال والنجاة بجلودهم باستثناء ”الباي أحمد القسنطيني” الشجاع، فإن البايات الأتراك وعلى رأسهم ”الداي حسين” الحاكم الأول للجزائر كانوا خونة، برهنوا على أنهم غزاة أجانب بل قراصنة حكموا الجزائر بالحديد والنار وسلبوا خيرات شعبها دون أن يحسوا أبدا بهذه الأرض الرّؤوم. ”فراغ السلطة” في بداية الغزو الفرنسي كان السّبب الرئيس في تشتت المقاومة الجزائرية، كانت الخلاقات قبلية و”طرقية” لأن الجزائريين لم يعرفوا بعضهم البعض. إن كان الأمير عبد القادر قد اختلف مع الشيخ بومعزة القريب منه في ”الثقافة الصّوفية” والمنطقة أي الغرب الجزائري فكيف له أن يتفاهم مع ” الباي أحمد” قائد المقاومة في الشرق الجزائري؟ ” ثورات عديدة قامت ضد المحتلين الفرنسيين لكنها لم تنجح فقبرت في حمّامات من الدم، بسطت فرنسا سلطتها الإستعمارية على الجزائر شرقا وغربا، شمالا وجنوبا بحلول القرن العشرين، لكنها لم تهنأ أبدا. إن لم تكن هناك ثورات كبيرة منظمة، فقد كانت الإنتفاضة على صغر حجمها عديدة، كان الحكام الإستعماريون يسمونها بتمردات ”الصعاليك” لكن المقاومين كانوا يحاربون دوما تحت ظل هدف واحد ألا وهو كسر شوكة الفرنسيين الغزاة. فراغ السلطة والفراغ الثقافي في جويلية 1830، لم يترك الأتراك ”فراغا شاملا في السلطة فحسب، وإنما تركوا أيضا” فراغا صحراويا في الثقافة والفكر”. فعلى مدار ثلاثة قرون من الحكم الإستعماري كما قال الدكتور زبو القاسم، لم يشجع الدايات والبايات سوى حفظ القرآن وبعض مبادئ الحساب والفلك في الكتاتيب والمساجد خلال حكمهم الطويل، لم يبرز أي شاعر أو كاتب باللغة العربية كان الانحطاط الثقافي مرعبا وإن ازدهر الشعر الملحون باللغتين العربية والأمازيغية فلأنه كان صوت الشعب الوحيد. ذلك أن الكثير من هذا الشعر كان شعرا ثوريا يعبر عن وحشية الحكم التركي ويرافق الإنتفاضات الشعبية التي قامت ضد تسلطهم وبطشهم في استغلال الجزائريين وإرهاقهم، بالضرائب حتى ولو كانوا فقراء لايجيدون إلا النزر القليل لسد رمقهم. من الناحية اللغوية، ظل الأتراك يتكلمون اللغة التركية في معاملاتهم ”المهمة” سوء أكانت سياسية أو تجارية. لم ينزلوا إلى اللغة العربية إلا في حالات تهم ”الرعايا الجزائريّين” كتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم أو في بعض المعاهدات الدولية والمراسلات الدبلوماسية كون اللغة العربية وقتها كانت أكثر تطورا وانتشارا من اللغة التركية. فلاغرو أن يرجع الجزائريون إلى مصدر الأمير عبد القادر في البحث عن جذور الدّولة الجزائرية. كان أكثر المقاومين الجزائريين ثقافة كما أن بقاءه على قيد الحياة حتى سنة 1883، مكنه من تأليف العديد الكتب التي بث فيها أفكاره عن الأمة الجزائرية. ثم إن احتكاكه بالفكر الأوروبي في سجن ”أمبواز” بفرنسا، ثم بعد سنة 1860 التي أنقذ فيها ”مسيحيو دمشق”، هذا الإحتكاك منحه شهرة عالمية فتراسل مع الرئيس الأمريكي ”لينكولن” والثائر ”الشيشاني” الإمام شاميل ناهيك الكتاب والصحافيين ”الغربيين” الذين التقاهم. إن لم يكتب الأمير عبد القادر مؤلفات سياسية فكرية عن ”الدولة” - الأمّة” ، فقد ترك لنا في ”مذكراته ورسائله خاصة الأفكار الأولى المهمة عن ”وجود الأمة الجزائرية”، قبل الغزو الفرنسي. كان الأمير عبد القادر أول المفكرين الجزائريّين الذين دحضوا ”الفكر الإستعماري الفرنسي” القائل ب ”أن لا وجود للأمة الجزائرية” باستثناء حمداد خوجة مؤلف كتاب ”المرآة” لا نجد أية شخصية جزائرية قرأت فكر الأمير عبد القادر حتى بزوغ فجر القرن العشرين، ذلك أن ”الصحراء القاحلة” التي ورثها الجزائريون عن الإستعمار التركي كانت تعيق ظهور أي إبداع أو فكر جيد. الأشعار الشعبية العربية أو الأمازيغية كانت في غالبها شفوية. كان همّ الشعراد الوطنيين سواء أيام الأتراك أو خلال الإحتلال الفرنسي هو ”تحميس المقاومين” وذكر مناقبهم حتى يصمدوا في وجه الغزاة وحتى ينضم إليهم أكبر عدد ممكن من المحاربين الشجعان. أخذ ”الفكر الوطني الجزائري، ينحو نحو خلق إيدلوجية وطنية حقيقية تدحر أكاذيب الإستعمار بظهور حركة الأمير خالد، وقد يكون الأمير خالد أول وطني يطرح ”قضية الشعب الجزائري” على المستوى الدولي بعد جده الأمير عبد القادر. فقد كتب رسالة إلى الرئيس الفرنسي وقتها وقدّم فيها مطالب لرفع الغبن عن ”الشعب الجزائري هذا الشعب المسلم الذي سلبت منه ثقافته ودينه وتقاليده ويحكم اليوم بحده السّيف” كما ذكر الأمير خالد في رسالته الشهيرة. لأول مرة، منذ الأمير عبد القادر، يتحدث رجل وطني عن بلد اسمه ”الجزائر وعن الشعب رسمه ”الشعب الجزائري”. ثم جاء مؤسّسوا”نجم شمال إفريقيا” وعلى رأسهم الحاج مصالي والحاج عبد القادر فطوّ، تلك الإيديولوجيا الوطنية لتصبح مطالب استقلالية واضحة، ذلك أن زعماء ”نجم شمال إفريقيا” طالبوا في ”المؤتمر الإسلامي” الذي عقد ببروكسل سنة 1927 ب ”استقلال ” الجزائر وشرحوا لكل من حضر المؤتمر من مسلمين مسيحيين ويهود وغيرهم أن ”الشعب الجزائري كان ومازال موجودا منذ قرون وأن الفرنسيين غزاة يجب زن يرحلوا عن الجزائر”. إن كانت بعض الصحف الفرنسية فقط هي التي نشرت مقاطع من ”رسالة الأمير خالد ”فإن العديد من صحف أوروبا وعلى رأسها صحف الألمان والإنجليز نشرت ”مطالب نجم شمال إفريقيا” الأمر الذي فضح - ولو جزئيا - تبجّح الفرنسيين المبنى على أن ” الجزائر جزء لايتجزأ من التراب الفرنسي. ابتداء من هذا التاريخ 1927 أخذت عبارات ”الشعب الجزائري، الأمة الجزائرية، الإستقلال” تنتشر داخل الجزائر وخارجها. لقد حلّت ”لمطالب المكتوبة” محل ”الأشعار والأقوال الشفهية” التي رافقت حتى ذلك الوقت ”حركات المقاومة المسلّحة”. شعرت فرنسا بالخطر فعلا، فأرادوا أن تثبت للعالم أن ”الجزائر منطقة فرنسية هادئة” وهكذا استغلت سنة 1930، فأقامت احتفالات ضخمة بمناسبة مرور مائة سنة على احتلال الجزائر. بعد ذلك مباشرة، أمرت السلطات الإستعمارية بتخفيف بعض بنود ”قانون الأهالي” الذي كان يعتبر الجزائريين ”عبيدا” بالمقارنة مع الكولون. كان ذلك التخفيف مجرد حبر على ورق. ذلك أن أوضاع الجزائريين لم تتغير من الجانب الجزائري، تسارعت الأمور، فقد أسّس الشيخ عبد الحميد بن باديس ومجموعة من المثقفين ”جمعية العلماء المسلمين” في 05 ماي سنة 1931. وتبنّت الجمعية شعار: ” الإسلام ديننا، العربية لغتنا والجزائر وطننا ” الأمر الذي أكدّه الشيخ ابن باديس في قصيدته الشهيرة ”شعب الجزائر مسلم”. يتبع....