الخزينة العمومية تستعيد مبالغ تصل 400 مليار سنتيم والحجة “غياب المشاريع" إطارات تفتح حسابات بنكية بأموال المشاريع لجني فوائد سنوية بالملايير
أساتذة يستغلون منحة التكوين بالخارج ووثائق مزورة لفتح حسابات بنكية بقيمة 48 مليون سنتيم تتلقى البلديات والمؤسسات العمومية ميزانية ضخمة لإنجاز مشاريع كبرى بداية كل سنة، لكن العديد منها تلجأ في نهاية العام إلى إعادة نفس المبلغ للخزينة العمومية، بحجة غياب المشاريع التنموية وتفاديا لسؤال “أين وكيف أنفقت ميزانية هذا العام؟”. إلا أن مثل هذه التصرفات تقودنا بالمقابل إلى طرح أسئلة أخرى أكثر خطورة وهي “كيف لم تصرف هذه الهيئات الميزانية المخصصة لها في المشاريع المسطرة من قبل الدولة.. وما الذي يدفعها إلى إعادة المال مجددا دون استغلاله وما هي البنوك التي خزنت بها هذه المبالغ طيلة العام، وباسم من وما هو مصير الفوائد التي تم جنيها من هذه الأموال؟” إطارات تتاجر بأموال صندوق البحث العلمي.. ووزارة المالية تحقق “الصندوق الوطني للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي” كان أول ما افتتحنا به تحقيقنا هذا بعد أن بلغتنا بالصدفة أنباء عن المتاجرة بأموال هذه الهيئة الحكومية في بنوك وطنية لجني فوائد بالملايير.. حسب المعلومات التي تحصلنا عليها وفي تعليمة مشتركة موقعة بين وزارتي المالية والتعليم العالي والبحث العلمي، وتحديدا بتاريخ 22 جويلية 2012، تم إصدار أوامر صارمة بفتح تحقيقات معمقة حول طبيعة استغلال أموال الصندوق الوطني للبحث العلمي والتطوير التكنولوجي، وذلك بعد أن شاعت أنباء داخل مبنى وزارة حراوبية بتورط إطارات وباحثين في استغلال الميزانية المحددة له في عمليات غير قانونية لجني المال بطريقة غير مشروعة. وطبقا لما أكدته مصادر “الفجر” فإن القرار صدر في 22 جويلية المنصرم بتوقيع كل من وزير المالية كريم جودي، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي بالنيابة آنذاك الهاشمي جيار، بعد أن بلغتهم أنباء مفادها أن العديد من الأطراف تتحصل على أموال من قبل الصندوق الوطني للبحث العلمي، بحجة إنجاز أبحاث متخصصة، إلا أنها تستغلها بطريقة مخالفة من خلال وضعها في بنوك عمومية وخاصة وجني فوائد مالية طائلة. قالت ذات التعليمة إن الحكومة باشرت حملات تفتيش فجائية للمستفيدين من هذه الأموال حتى يتم تحري كيفية استغلالها، وهل تستنفذ هذه الأخيرة فعلا في البحث العلمي أم لأغراض أخرى. وحسب ذات المصادر، توسعت فيما بعد تحقيقات وزارة التعليم العالي لتشمل أيضا أساتذة جامعيين ثبت تورطهم في استغلال منحة التكوين في الخارج قصير المدى، والذي يتراوح بين شهر وشهرين بتكلفة تصل 48 مليون سنتيم، في أغراض أخرى بما فيها فتح حسابات في البنوك بأموال الدولة وجني فوائد مالية دون التوجه للخارج، والاكتفاء بالحصول على توقيعات شرطة الحدود بمغادرة التراب الوطني والاعتماد على وثائق مزورة لإثبات التكوين. دبلوماسيون يفتحون حسابات بنكية بأموال الطلبة.. وتأخر المنحة يكشف المتورطين غير بعيد عن صندوق البحث العلمي، تقربنا من مصدر مسؤول بوزارة المالية وطلبنا منه أن يحدثنا عن مثل هذا النوع من التجاوزات، فأخبرنا أن التحقيقات المباشرة بوزارتي التعليم العالي والبحث العلمي وكذا المالية ليست بالجديدة، لأن الحكومة اكتشفت في وقت سابق قضايا مماثلة كان أبطالها قبل سنوات إطارات وملحقين بالسفارات والقنصليات الجزائرية بالخارج، حيث تورط هؤلاء في استغلال الأموال التي كانت ترسلها الدولة للطلبة الجزائريين في أوروبا كمنحة سنوية أو فصلية في بنوك أوروبية، ليجنوا منها فوائد مالية ضخمة كانت تدخل حساباتهم كل شهر، بحكم أن البنوك هناك تصرف الفوائد لزبائنها بصفة شهرية. وكانت، حسب محدثنا، من أبرز الأمور التي أدت إلى فضح هذه التجاوزات هو تأخر هؤلاء الدبلوماسيين في ضخ أموال الطلبة في أجالها والشكاوى التي كان يودعها الجزائريون المتوجهون إلى الدراسة في الخارج في إطار منحة التفوق في كل مرة، على مستوى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، حيث أن تحقيقات الحكومة أثبتت استغلال هذه الأموال لأغراض أخرى وحرمان الطلبة منها إلى آجال غير مسماة. والمشكل، حسب محدثنا، أنه في مثل هذا النوع من القضايا يصعب اكتشاف التجاوزات، بحكم أن مرتكبيها يخططون لها جيدا عبر التحايل على القانون وضخ الأموال التي تمنحها لهم الدولة لتنفيذ المشاريع في عدة بنوك وبأسماء مختلفة، وهذا لتمويه أي تحقيقات يتم فتحها في هذا الإطار. “أميار” يرفضون صرف الميزانية لأسباب مجهولة قيامنا بهذا التحقيق جعلنا أيضا نتساءل عن رؤساء البلديات الذين يتحصلون على ميزانيات مالية ضخمة سنويا لإنجاز مشاريع كبرى، إلا أنه بانقضاء العام يقوم مسؤولو هذه البلديات بإرجاع جزء هام من الغلاف المالي الذي يتحصلون عليه إلى الخزينة العمومية بحجة غياب مشاريع التهيئة وعدم حاجتهم إلى هذه المبالغ التي تسجل على أساس أنها فائض في الميزانية، والأمثلة هنا كثيرة، إلا أن السؤال الذي يبقى مطروحا بقوة هو “لماذا لم يستغل رؤساء البلديات هذه الميزانية لخدمة السكان وحل المشاكل التي يشتكي منها المواطنون..”. ولعل هذا الأمر كان وراء جرّ العديد من “الاميار” إلى المحاكم وتسبب في فتح تحقيقات كشفت تجاوزات بالجملة، في مقدمتها استغلال المال العام لأغراض خارجة عن النطاق الذي خصص له. كان ينبغي علينا البحث عن بعض البلديات التي لم تصرف ميزانيتها بحكم غياب المشاريع، فكان أول رقم تحصلنا عليه هو 400 مليار سنتيم التي تعتزم بلدية عنابة إرجاعها للخزينة كفائض عن ميزانية 2012، رغم أن السكان والمواطنون اشتكوا مرارا وتكرارا من نقائص بالجملة تعاني منها بلدياتهم؟!. بلدية الأخضرية بولاية البويرة، هي الأخرى، لم تنفق ميزانية 2011 وبمجرد بداية عام 2012 أعادت مبلغ 50 مليار سنتيم إلى الخزينة، مثلها مثل بلدية عين صالح بتمنراست، التي أرجعت مبلغ 40 مليار سنتيم.. والسبب واحد دائما وهو غياب المشاريع!. والأمر سيان بالنسبة لبلدية بجاية، حيث تسبب عدم استغلال أموال الميزانية وتركها محفوظة في الخزينة سنة 2010 في فتح تحقيقات كبرى السنة المنصرمة مع المسؤول الأول بالمنطقة، لاسيما أن الميزانية كانت ضخمة وعادلت 260 مليار سنتيم. وقد أدى عدم صرف هذه المبالغ في توجيه والي الولاية مساءلات كبرى السنة الجارية لرئيس البلدية، في اجتماع الوالي بالسلطات المحلية أمام مرأى الصحافة، في حين لم يجد هذا الأخير أي رد أو جواب مقنع وعجز حتى عن الإدلاء بالسبب الحقيقي لعدم استغلال الأموال في المشاريع المسطرة لها من قبل الدولة. شركات تأمين تستغل أموال زبائنها لاقتناء عقارات وفتح حسابات ببنوك أجنبية فضائح تحقيقنا هذا لم تتوقف عند الديبلوماسيين ومدراء المؤسسات العمومية والإطارات السامية بالدولة، وإنما قادتنا أيضا إلى اكتشاف حقائق سوداء وتجاوزات كبرى، أبطالها هذه المرة شركات التأمين الناشطة في السوق الوطنية في مقدمتها المتعاملين العموميين. وطبقا للمعلومات التي تحصلنا عليها، أفضت التحقيقات الأخيرة لوزارة المالية إلى كشف ملفات تعود إلى سنة 2001 لم يتم تعويض زبائنها لحد الساعة، رغم المراسلات التي توفدها الوزارة واحتجاجات الزبائن وشكاوى الجمعيات الوطنية. كل هذه الملابسات دفعت وزارة المالية إلى التحرك، وكذا الجمعيات المتخصصة التي قررت اللجوء إلى القضاء لاسترجاع مستحقات المواطنين، لاسيما أن التحقيقات المباشرة في هذا الإطار كشفت أن شركات التأمين تمتلك المال وتتعمد عدم تسديد مستحقات زبائنها.. حيث تعمل على استثمار أموالهم في البنوك على مدار سنوات والاستفادة من فوائد ربوية جعلتها تحوز ثروات طائلة، ناهيك عن اقتناء عقارات ومحلات وبناء فيلات والمتاجرة بها في مشاريع أخرى تمكنها من الكسب السريع ومضاعفة فوائدها وأرباحها على حساب المواطن البسيط، الذي يعجز عن الحصول على تعويضات قانونية لا يتجاوز حجمها بضعة ملايين سنتيم، في حين تتمكن هذه الشركات في ظرف أسابيع من إحراز أرباح تعادل الملايير. وحسب مصادر ملمة بالملف وقريبة من قطاع التأمينات، فإن الشركات المتورطة بشكل أكبر في مثل هذا النوع من الملفات هي المؤسسات العمومية، على غرار شركة “اس ا ا” التي تمتلك أكبر عدد من الشكاوى المودعة لدى الجمعيات المتخصصة بعد ثبوت تورطها في التماطل بتعويض الزبائن واستثماراتها في قطاعات أخرى، وهو الأمر الذي جعل جمعيات متخصصة تتحرك وتطالب بإيفاد لجنة تحقيق وفرض عقوبات صارمة ضد الشركات التي اقتنت عقارات بأموال زبائنها وفتحت ودائع سرية في بنوك أجنبية. مصادر بوزارة المالية:”استغلال أموال المؤسسات في البنوك مستبعد.. والدولة لن تتسامح مع المتورطين” لمعرفة الوضع القانوني الذي تتصرف على أساسه الإطارات المتورطة في مثل هذا النوع من القضايا، كان علينا التقرب من وزارة المالية للتفصيل في كيفية تخزين أموال المؤسسات العمومية والسفارات والوزارات، بعد صرفها وفق ما يقتضيه القانون. وفي هذا الإطار أوضح مصدر مسؤول بوزارة المالية، أن استغلال الميزانية السنوية بالبنوك لجني فوائد بطريقة غير شرعية مستبعد جدا، إلا أنه وارد بالنسبة للمؤسسات العمومية رغم أنه مستحيل بالوزارات، مؤكدا أن هذه الأخيرة لديها حسابات في الخزينة العمومية، في حين أن الشركات العمومية تمتلك حسابات مفتوحة في البنوك وتتمتع بالاستقلال الذاتي في إدارة هذه الأموال. وحسب نفس المسؤول، فمنذ صدور قانون الحكم الذاتي للمؤسسات عام 1988 “قانون 88-01” تم إعطاء الحرية التامة للشركات العمومية في تخزين أموالها، رغم أنه قبل ذلك كان هناك نظام إقطاعي مصرفي يفرض على كل المؤسسات العامة المتخصصة في قطاع اقتصادي معين فتح حسابات مصرفية في بنك واحد، حيث كان القرض الشعبي الجزائري، على سبيل المثال، هو المسؤول عن قطاع السياحة والبناء، والبنك الوطني الجزائري المسؤول عن قطاع الصناعة، والبنك الجزائري الخارجي المسؤول عن قطاع الطاقة، وبنك “بدر” عن قطاع الفلاحة، في حين أن قانون 1988 فرض معايير جديدة في مقدمتها اعتبار المؤسسة العمومية مؤسسة اقتصادية لها شخص معنوي وتخضع لقواعد التجارة المبنية على الربح والخسارة، كما تم اعتبارها من الناحية القانونية شركة ذات أسهم محدودة المسؤولية رغم أنه كانت لها حرية اكبر في تحويل الأموال في ظل سياسة اقتصاد السوق. وفي هذه الحالة تصبح الشركات العمومية مستقلة ماليا، حيث تختار الأسعار التي ترغب فيها وتتمكن من تحويل الأموال بحرية نسبيا مثل أي مؤسسة خاصة، إذ يتم الموافقة على ميزانية محددة في بداية السنة، وهي التي تعتمد عليها الإدارة، وفي نهاية العام تعقد اجتماعات مجالس الإدارة لدراسة الاختلافات المسجلة في استهلاك الميزانية، والنظر في مدى تحقيق الأهداف المادية والمالية للشركة. وحسب نفس المصدر، ففي حال تسجيل أية سرقة أو اختلاسات فإن صاحبها سيتعرض لعقوبات صارمة، لاسيما أن كل مؤسسة تتوفر على نظام المراقبة الداخلي أونظام تدقيق الحسابات المنصب من قبل مجلس الإدارة الذي يكفل دقة الحسابات، وإضافة إلى ذلك يخضع المديرون إلى المساءلة وجها لوجه مع سلطة تسيير المؤسسة العمومية والمجلس العمومي للمؤسسة، في حال أي تجاوز أو استغلال لأموال الشركة في مجالات أخرى.