لم يُشَرِّع الإسلام شيئا إلا لِحِكْمِةٍ، عَلِمَها من عَلِمَها وجهلها من جهلها، وكما لا تخلو أفعال الله تعالى من حكمة فيما خلق، لا تخلو أحكامه سبحانه من حكمة فيما شرع، فهو حكيم في خلقه، حكيم في أمره لا يخلق شيئا باطلا، ولا يشرع شيئا عبثا. وهذا ينطبق على العبادات وعلى المعاملات جميعا، كما ينطبق على الواجبات والمحرمات أيضا. إن الله تعالى غَنِيٌ عن العالمين، وعباده جميعا هم الفقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعة، كما لا تضره معصية، فالحكمة في الطاعة عائدة إلى مصلحة المُكَلَّفين أنفسهم. وفي الصيام حِكَمٌ ومصالح كثيرة أشارت إليها نصوصُ الشرع ذاتها، منها: 1 - تزكية النفس بطاعة الله فيما أمر، والانتهاء عما نهى، وتدريبها على كمال العبودية لله تعالى، ولو كان ذلك بحرمان النفس من شهواتها، والتحرر من مألوفها، تاركا الأكل والجماع دون علم أحد لوجه الله وحده. جاء في الحديث:”والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، يترك طعامه وشرابه من أجلي، كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”. متفق عليه 2 - أن الصيام وإن فيه حفظ لصحة البدن كما شهد بذلك الأطباء المختصون، ففيه أيضا: إعلاء للجانب الروحي على الجانب المادي في الإنسان. فالإنسان ذو طبيعة مزدوجة، فيه عنصر الطين والحمأ المسنون وفيه عنصر الروح الذي نفخه الله فيه، عنصر يشده إلى أسفل،وآخر يجذبه إلى أعلى، وفي الصوم انتصار للروح على المادة، وللعقل على الشهوة 3 - الصوم تربية للإرادة وجهاد للنفس، وتعويد على الصبر، والثورة على المألوف، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الصبر. 4 - ومن حكم الصوم إشعار الصائم بنعمة الله تعالى عليه، فإن ألف النعم يفقد الإنسان الإحساس بقيمتها، ولا يعرف مقدار النعمة إلا عند فقدها وبضدها تتميز الأشياء. 5 - من المتفق عليه أن الغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان، حتى اعتبرت عند بعض المدارس النفسية هي المحرك الأساسي لكل سلوك بشري. وللصوم تأثيره في كسر الشهوة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :”يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر،وأحصن للفرج،ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، والمراد أنه يضعف الشهوة. 6 - وهناك حكمة اجتماعية للصيام، لأنه بفرض الجوع إجباريا على كل الناس وإن كانو قادرين واجدين، يوجد نوعا من المساواة الإلزامية في الحرمان، ويزرع أنفس الموسرين والواجدين الإحساس بألام الفقراء والمحرومين. ومن أجل هذا كان أفضل ما يثاب عليه:تفطير الصائم.وفي الحديث: ”من فطر صائما كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئا”. 7 - وجماع ذلك كله أن الصيام يعد الإنسان لدرجة التقوى والارتقاء في منازل المتقين. والحق أن صيام رمضان مدرسة متميزة، يفتحها الإسلام كل عام، للتربية العلمية على أعظم القيم، وأرفع المعاني. فمن اغتنمها وتعرض لنفحات ربه فيها، فأحسن الصيام كما أمره الله ثم أحسن القيام كما شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد نجح في الامتحان وخرج من هذا الموسم العظيم رابح التجارة، مبارك الصفقة، وأي ربح أعظم من نوال المغفرة والعتق من النار؟ روى أبو هريرة عن رسول صلى الله عليه وسلم: ”من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه.. ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.