يقول ابن عطاء الله السكندري: ”اخرج من أوصاف بشريتك عن كل وصف يُناقض عبوديتك، لتكون لنداء الحق مُجيباً، ومن حضرته قَريبا”. أوصاف البشرية هذا الجسم الترابي الذي كوَّن الله الإنسان منه، بالإضافة إلى جملة الطبائع والغرائز التي رُكِبت في كيانه، وهي طبائع وغرائز كثيرة ومتنوعة، منها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم. فمن هذه الصفات والطبائع فطرة الشعور بمعنى العبودية لله، وحاجة الإنسان إلى الطعام والشراب والمأوى، وغريزة حب التملك، واستئناسه بأخيه الإنسان والتطلع إلى التعاون معه، وكون الجنس إلى الجنس.. ومن الصفات المذمومة التي من شأنها أن تتسرب إليه استعداده للعجب بنفسه والاستكبار على الآخرين، والتكالب على المال، والحسد والضغينة والشحناء والبغضاء والعصبية للذات أو القوم والجماعة.. تلك حقيقة معروفة أو ملموسة،يعرفها كل منا في نفسه. ولقد وصف الله الإنسان بجملة هذه الصفات،بعبارة جامعة في قوله عز وجل:{ونفس ومَا سواها، فألهمها فُجورها وتَقْواها . (الشمس). ويتبين لك بهذا أن ”من” في قوله”من أوصاف بشريتك” للبيان وليست بمعنى التجاوز. فالمهمة الخطيرة التي يجب أن ينهض بها المسلم تتمثل في ضرورة التخلص من الطباع والصفات التي لا تتفق ومسالك عبودية الإنسان لله عز وجل كالكبر و العجب، والحسد والحقد والشح والتكالب على المال أي المبالغة في حبه بحيث يندفع إلى الحصول عليه أينما لاح ومن أي السبيل أمكن. ولعلك تسأل: أفتعد هذه الصفات،صفات جِبِلية فطر الله الناس عليها أم هي صفات مُكتسبة تتسرب إلى الإنسان لأسباب عارضة؟ والجواب أن الإنسان مفطور على قابليات واستعداد لها،يدل على ذلك قول الله عز وجل: إنا خَلَقنا الإنسانَ مِن نُطفةٍ أمشَاج نَبتَليه فجعلناه سميعا بصيراً}. (الإنسان). وقوله تعالى: ونفس وما سوَّاها فألهمها فجُورها وتقواها . (الشمس). ومعنى قولنا: إن الإنسان مفطور على الاستعداد لها، أن التربية والظروف الاجتماعية من شأنها أن تلعب دورا كبيرا في ترسيخها أو القضاء عليها. وربما سأل بعضهم فقال: لماذا فطر الله الإنسان على هذه الصفات المرذولة ثم أمره بالتخلص منها؟ ولا يتكامل الجواب عن هذا السؤال إلا بشرطين اثنين: = الشرط الأول: أن جوهر هذه الصفات بقطع النظر عن الغلو فيها أو سوء استعمالها ذو أثر إيجابي مفيد في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، فلولا شعور الأنانية لحاله لما توجه إلى امتلاك مال ولا إلى الدفاع عن حق.. ولولا شيء من الشُّح لأنفق كل ما قد تعب في تحصيله وجمعه.. ولولا حبه للمال لما بحث عنه ولما حصل على شيء منه، وما تعْمُر عندئذ أرض ولا تعْمُر الحياة، ولولا غضَبٌ يدافع به المظلوم عن حقه لاستشرى الظلم وضاعت الحقوق. غير أن فقد التربية وغياب عوامل ضبطنها وتهذيبها، مع تسليط الرعونات النفسية عليها، يجعلها تتجاوز حدودها الصالحة وتتحول من جروعات دوائية مفيدة، إلى سموم قاتلة، وإنما تعد هذه الصفات مذمومة في ميزان الإسلام عندما تتحول من حدود الماء المحيي إلى الطوفان المهول، وعندما ينسى الإنسان أنها جرعات محدودة من دواء للعلاج، فيقبل إليها على أنها غذاء للشبع. = الشرط الثاني من الجواب:أن هذا السؤال ينبغي أن يصدر ممن لا يعلم أن الله سيحشر عباده لنيل الجزاء، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.. أما الذي يعلم أن الإله الذي فطر الإنسان على هذه الصفات المذمومة، ثم أمره بالتخلص منها، قد أعد له الجزاء الأوفى يوم القيامة، نعيماً وسعادةً للمُحسنين، وعذابًا وشقاء للمسيئين، فسؤاله من العبث بل الخلطِ الذي يتنزه عن الخوض فيه العقلاء. إذا كان المطلوب أن لا يكلَّف الإنسان بجهد يتحمله للتحرر من هذه الصفات الذميمة، ففيم يكون على موعد مع الأجر والجزاء؟ متى عرفت أن هذه الدنيا دار تكليف، وأنها قاعة امتحان زُّج فيها الإنسان، أدركت لماذا يُكلَّف هذا المُكلف بجهد التخلص من صفاته الذميمة، وعلمت أن حياة الإنسان فوق الأرض بدون هذا التكليف الذي يَسْتَتْبِع نتائجه وآثاره، عبثٌ لا معنى له. وفي هذه التربية تنصب معاني التزكية، ومعنى كلمة الجهاد في السور المكية حيثما وردت، إذ لابد من شيء من الجهد إلا أنه ليس خارجا عن وسع الإنسان وليس داخلا في حدود العسر المُحرج، وآثاره الحميدة تفوق أتعابه المتطلبة، وذلك شأن التربية أيا كانت وأيا كان نوعها في حياة الإنسان. يقول تعالى:{قد أفلح من تزكَّى، وذكر اسمَ ربه فصَلَّى}. (الأعلى). وقال:{قدْ أفلحَ من زكاها وقد خاب من دسَّاها}. (الشمس). ففي قول ابن عطاء: ”لتكون لنداء الحق مُجيباً، ومن حضرته قريبا ”إلمَاحٌ إلى أن المسلم مهما أكثر من الطاعات ودوام على العبادات، لا تدنيه طاعاته وعباداته من حضرة الحق جل جلاله، إن بقي مُثْقلا بتلك الصفات التي تتعارض مع عبوديته لله عز وجل. وإنما يتمتع صاحب هذه الصفات المرذولة، من تلك الطاعات والعبادات بصورها ومظاهرها فقط. كما أن الله شرف الإنسان بهذه الأصول الاعتقادية وفروعه السلوكية من عبادات وتشريعات، ليستعين بها في التخلص من هذه الطباع.. وبذلك يرقى الإنسان إلى سدَّة التكريم التي ارتضاها الله . اللهم طهر قلوبنا من كل وصف يبعدنا عن مشاهدتك ومحبتك، وأدم علينا عين عنايتك، واسترنا بسترك الجميل في الدنيا والآخرة. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)