صديق مصري مقيم في السعودية، فاجأني بأن طلب مني رقم هاتف الدكتور رفعت السعيد، الكاتب واليساري المصري البارز، الذي كان رئيسا لحزب التجمع حتى شهور مضت، وكان ولا يزال معروفا بكتاباته المهمة وآرائه الجريئة في نقد تاريخ جماعة الإخوان وسلوكها. وكم كانت دهشتي حين سألت الصديق عن السبب الذي من أجله يطلب رقم الهاتف، إذ سمعت منه أنه متابع طول عمره لما يكتبه الدكتور رفعت عن الجماعة، وأنه، أي الصديق، كان يتابع هذه الكتابات بضيق بالغ، إلى ما قبل ثورة 25 جانفي 2011، وكانت آراء الدكتور رفعت المنشورة في أكثر من كتاب، بل في بضعة مجلدات، تستفزه للغاية، وكان يتمنى لو صادفه في أي مكان، ليبلغه بأنه ككاتب، يمكن أن يقع على خصوم آخرين في الحياة، بخلاف “الإخوان”! إلى هنا، تبدو المسألة عادية وتخلو مما يدهش، لنرى أن نصفها الآخر هو المدهش حقا، بل هو الذي يدعو إلى التوقف أمامه طويلا، والتأمل فيه كثيرا.. فصديقي قال لي، إنه يريد أن يهاتف كاتبه المستفز لأمر مهم. وكان من الطبيعي أن أسأل الصديق العزيز عن السبب الذي يجعل طلب رفعت السعيد هاتفيا يلح عليه إلى هذه الدرجة، وحين سألت لم يجد هو حرجا في أن يعترف بأنه الآن، وبعد أن رأى بعينيه سياسات “الإخوان” عندما وصلوا إلى الحكم، فإنه لا يتردد لحظة واحدة، في أن يقر بأنه كان على خطأ، حين غضب من كاتبه زمان، لأن التجربة أثبتت أن ما كان يقوله في “الإخوان”، كان صحيحا مائة في المائة، وأنه لن يتجاوز عنهم، ولا في حقهم أبدا! زاد الصديق فقال، إن “الإخوان” من واقع تجربة الناس معهم فيما بعد 25 جانفي، ومن واقع ما اكتشفه هو بنفسه، يستحقون أضعاف أضعاف ما كان عبد الناصر قد تعامل به معهم! توقفت من جانبي أمام المكالمة مرارا، وسألت نفسي، عما إذا كانت حكاية كهذه، حكاية فريدة في نوعها، أم أنها لم تعد مجرد حكاية على مستوى صاحبها الفرد، وإنما صارت ظاهرة كبيرة لا تخطئها أي عين. فليس سرا، أن مفكرين وروائيين وأصحاب أقلام وآراء، كانوا قد بايعوا الدكتور مرسي، حين كان لا يزال مرشحا رئاسيا، وقبل إعلان فوزه بكرسي الرئاسة بأيام قليلة، وكانوا قد عقدوا معه ما اشتهر بأنه “اتفاق فيرمونت” الذي كان يضم بنودا تعهد هو بتنفيذها إذا فاز، فإذا به بعد فوزه يتحلل منها تماما، بندا وراء بند، وكان الأهم من تحلله منها، أن جميع الذين وقعوا معه ذلك الاتفاق قد أعلنوا جميعا، ومن دون استثناء، ندمهم الكامل على أنهم جلسوا معه، أو صدقوه، ذات يوم! ولكن.. يبقى أن ننتبه هنا إلى أن هذه المجموعة التي كانت طرفا مع “الإخوان” في “فيرمونت” تظل مجموعة نخبوية في النهاية، أي أنها ليست من المجموعات التي كان “الإخوان” يعولون عليها، على مدى تاريخهم.. فقد كانوا دائما يعولون على الملايين من آحاد الناس، وكانت هذه الملايين تتعاطف معهم طوال معاركهم مع السلطة وأجهزتها، منذ نشأة الجماعة عام 1928، إلى أن تخلى مبارك عن الحكم عام 2011، وبالتالي، فقد كانت هذه الملايين هي رصيدهم الباقي في كل وقت. غير أني عندما رأيت بعيني مدى التحول في موقف صديقي الذي كان متعاطفا معهم على مدى سنين، أدركت عندها أن ذلك الرصيد راح يتبدد منذ اللحظة التي وصل فيها “الإخوان” إلى الحكم بفوز مرسي، وأنهم قد أجهزوا بأنفسهم على ما تبقى منه بعد سقوط مرسي وعزله! لم تدرك الجماعة، وقد يكون هذا لحسن حظنا، أن هناك فارقا هائلا بين أن تواجه هي السلطة على امتداد عصور سياسية متوالية، وبين أن تواجه شعبا كان هو الذي انتخبها وأتى بها، فلما تبين له أنها خدعته ثار عليها وأسقطها في 30 جوان، ولم يسقطها الجيش قط، وهو ما لا يريد قياداتها أن يصدقوه حتى الآن! ولا تنفصل حكاية الصديق المعتذر عن تلك اللقطة التي نقلتها صحيفة مصرية لسيدة بسيطة تقول إنها تتمنى لو أن يدها قد قطعت قبل أن تنتخب بها مرسي في سباق الرئاسة! ولا يمكن فصل هذا السياق كله على بعضه عن شيء لافت آخر، وهو أن أي إخواني لا يجرؤ حاليا على أن يقترب من ميدان التحرير، فضلا عن أن يدخله، بعد أن كان هذا الميدان نفسه هو الذي ذهب إليه مرسي يوم فوزه ليفتح صدره في مشهد شهير ويقول إنه لا يريد حراسة ولا أقمصة واقية من الرصاص لأنه بين ناسه وأهله! حدث هذا ويحدث، ولم يملك قيادي إخواني واحد، الشجاعة الكافية، لأن يخرج على الناس ويقول إن الجماعة بددت تاريخها بيديها في بحر عام لا أكثر، وإن المشكلة ليست في أن النخبة ترفضها، فهذا ليس جديدا، وإنما في أن الشارع يلفظها، وهذا هو الجديد تماما!