لم يسجل تاريخ بن طلحة في رزنامة الأحداث الوطنية التي نتوقف عندها للذكرى، بل لو كان في الإمكان لدى البعض أن نقفز مع أول يوم للخريف، على هذا التاريخ، كمن يقفز على مجرى مائي عفن، لننسى أن الدماء سالت في هذه الجهة وبقوة ذات ليلة، وأن الرعب مر من هنا!؟ لم تكن ملحمة بن طلحة مجرد مجزرة مثل الكثير من المجازر التي مزقت جسد الجزائر. كانت نقطة فاصلة في الرعب، مثل الرمكة والرايس. كانت الليلة التي بلغ فيها الحقد الإرهابي ذروته، وتخلى الإنسان عن إنسانيته، فكانت المجزرة المروعة التي لم تميز بين طفل وشيخ، وبين امرأة وعجوز. بشاعة المجازر ليست بما ينسب إليها من عدد ضحايا، وإنما بطريقة التنكيل بالضحايا. ضحايا ذبحوا من الوريد إلى الوريد، وصراخهم أصم الآذان، لكن الأذن لا تسمع الأصوات التي تخترق جدار الصمت. وكانت صرخات ضحايا بن طلحة المدوية اخترقت جدار الصمت، فلم تعد أذن قادرة على سماعها. ما زال عمي عبد القادر يحمل في رأسه رصاصة طائشة كادت أن تودي بحياته في تلك الليلة، وما زال وجعها يذكره كل يوم بتلك الليلة حالكة الظلام التي عرف خلالها ما معنى أن يتحول بشر إلى وحوش وتتحول القلوب إلى صخور في الصدور. ما زالت صورة “مادونا” بن طلحة التي جابت أقطار العالم شاهدة على عمق الوجع، ليس وجع صاحبتها التي فقدت أقارب لها، وإنما وجع الجزائر التي اخترقت جسدها السكاكين. “بن طلحة” كانت محطة مبشرة بما ستكون عليه الغوطة يوما ما، والحلة، وضاحية بيروت، وبن غازي، وجبل الشعانبي، وغيرها من أسماء جغرافيا الليل العربي الحالك السواد. سواد لم تبيّضه المصالحة اللعينة. لا أدري إن عاد أمس، أو في مناسبة سابقة جزار من جزاري بن طلحة إلى مكان جريمته، فهم يقولون إن المجرم يعود دائما إلى مسرح الجريمة. وإن فعل فكيف يرى نفسه وسط هذا الحي الذي ليس لسكانه ما يقتلون عليه، لا جاه ولا مال ولا حتى أمل، فبعد أن انقشعت غشاوة المخدر، وانطفأت الرغبة في شرب الدم، والمزيد من نحر “الخرفان” الكلمة المتداولة بين القتلة وهم يفضلون ذبح الأطفال على الشيوخ، لأن “الخرفان” الأطفال أحب قربان لآلهتهم؟! وهل قابلوا الناجين من تحت سكاكينهم وملكوا القوة للنظر في عيونهم، عيون ما زالت تحمل أكثر من سؤال، حرمتهم المصالحة الوطنية من الإجابة عنها. قيل الكثير عن بن طلحة، لكن لا أحد يعرف الحقيقة، ولا عدد المجرمين الذين نزلوا في تلك الليلة الخريفية، ولماذا اختاروا بن طلحة دون غيرها؟! الحقيقة الوحيدة الشاهدة على المجزرة، بعد صورة “مادونا” بن طلحة، هي ذلك الجيل من الشباب، كانوا أطفالا ليلتها، يحملون اليوم ندوبا عميقة في النفس، قد تتحول يوما ما إلى قنابل تنفجر في وجه المجتمع، وسيأتي حتما ذلك اليوم؟!