بوتفليقة .. "انتهى دوره بوفاة بومدين أكتوبر 88: انقلاب الشاذلي على نفسه! نتناول في الحلقة الرابعة من حديثنا عن الدكتور أبي القاسم سعد الله نماذج من أرائه الجريئة وشجاعته الأدبية، أمام العديد من الأحداث والشخصيات السياسية والثقافية.. ترى ما كان موقفه من الرئيس الراحل هواري بومدين بمناسبة رحيله في 27 ديسمبر 1978، والذكرى الأولى لهذا الحدث الأليم بعد سنة؟ لقد ذكر بعض حسناته، ولم ينس الوقوف عند بعض سيئاته، وتوقع أن يبقى الراحل مثار جدل لفترة طويلة. ومن طرائف موقفه من حوادث أكتوبر 1988 و”الإصلاحات” المترتبة عليه: - اعتبار ماحدث “انقلابا” من تدبير الرئيس الشاذلي وحاشيته! - اعتبار “الاصلاحات” تحولا من الثورية إلى الإصلاحية! أي التقهقر بدل التقدم! وكان جرئيا أكثر في تعليقه على انتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أبريل 1999، فقد ذهب إلى القول “أن الرئيس المنتخب انتهى دوره بوفاة بومدين”..! ولا تخلو مواقفه الثقافية والأدبية من جرأة كذلك على غرار آرائه في “أدب الشباب” والأدب المكتوب بالفرنسية، وهجرة الأدمغة ...إلخ صريخ قلم جد القارئ في كتابات الدكتور أبي القاسم سعد الله مواقف جريئة من الأحداث والشخصيات السياسية؛ فكثيرا ما كان الراحل يستصرخ قلمه متألما ومنبها ومستنكرا. وقد ارتأينا تقديم عينة من هذه المواقف - التي لا تعد ولا تعصى - بدءا بموقفه من حالة البلاد في غضون ربيع 2010، حين كتب بإحدى الصحف المحلية مستعينا بموقف الحاج مصالي، في 2 أوت 1936 أثناء مهرجان المؤتمر الإسلامي بالملعب البلدي في العاصمة، لقد كتب يقول بعد التذكير بهذا الموقف التاريخي: ما أحوجنا “اليوم إلى من يعتلي المنبر ويرفع حفنة من تراب الوطن، ويقول للسياسيين المتلاعبين بمصريه أن يكفوا عن تلاعبهم، وأن تراب الوطن ليس معروضا في المزاد العلني“.. (10 - 5 - 2010). في 27 ديمسبر 1978 كان الدكتور بأمريكا، فسمع بالإذاعة نبأ وفاة الرئيس هواري بومدين فسجل عفويا في يومياته قول الراحل مبررا سياسة التقشف التي كان ينتهجها: “أن على الجزائريين أن ينظروا إلى المستقبل، وأن يفكروا في العيش خلال الثمانينات والتسعينات”... وبعد سنة عاد إلى الحدث، معلقا على إحياء الذكرى الأولى لرحيل بومدين فكتب مايلي: ..وكان شعوري نحوه مختلطا، فإذا نظر المرء إلى كفاحه الطويل، وأحلامه العريضة وزعامته وتصوراته للحياة السياسية عموما، حكم لصالحه، وإذا نظر المرء لطريقة حكمه، وتجاهله القضايا الرئيسية والمبدئية كالتعريف والإسلام والأخلاق، وانتشار التعفن والفساد في عهده، وتضحياته بكل شيء في سبيل الحكم، حكم ضده. وهكذا دخل بومدين التاريخ، كأحد الرجال الذين يكثر حولهم الجدل والنقاش” (28 - 12 - 1979). وغداة حوادث أكتوبر 1988، وقف متأملا، ليصف ما حدث بالعبارة التالية: “قام الرئيس الشاذلي ومن معه في الحقيقة بانقلاب، لكن تحت غطاء الشرعية والمحافظة على الدستور” (27/ 10/ 1988). وكان طبعا متشائما مما يمكن أن ينجر عن هذا الانقلاب، لذا نراه يكتب بعد نحو سنة من المصادقة على دستور 23 فبراير 1989، مستغربا التحول من الثورية إلى الإصلاحية بقوله: “عجبا للجزائر! تحولت بين عشية وضحاها من الثورية إلى الإصلاحية!” أي تقهقرت، بدل المضي قدما على نهج ثورة فاتح نوفمبر 1954. ونظرا في مؤشرات “الإصلاح” الأولى، فلاحظ أنها على طرف نقيض مع تطلعات الشعب التي يلخصها في الثلاثية التالية: وحدة - رخاء - تقدم. وتمعن في الشق السياسي من “الإصلاح”، فإذا هو يلاحظ بعد سنة أنه “أفرز تحزبات عرقية ودينية وطائفية وجهوية، أوضح مما كانت عليه أيام الحزب الواحد”.. واعتبر “الساسة الجدد” الذين برزوا على الساحة “عناصر عاملة أو معمولة”.. مهمتها “أن تحذر الشعب وتصده عن هدفه الحقيقي، وهو الطموح إلى الوحدة والرخاء والتقدم”... وتوقع المؤرخ الإنتكاسة من مؤشرات “الإصلاح” الأولى، إذ يقول: “وبدل أن يتطلع الشعب إلى المستقبل، أنكفأ على نفسه وفقد الدليل والحماس والأمل”.. وفي يناير 1992 صدم لوقف المسار الإنتخابي، وتوقع تداعيات هذا القرار الخطير ومضاعفاته، فأصيب بإحباط عميق، لا سيما بعد بروز هذه المخاطر بوضوح عقب نحو سنة.. ويعبر عن حالته تلك بقوله: “منذ يناير 1992 انسدت نفسي، لأن المرء لا يدري ما يقول، هل يقول الحقيقة؟ هل ينافق؟ هل يجامل؟ هل يعبر عن قناعته؟” ويضيف على نفس الوتر: “ولولا الواجب نحو الطلبة لتوقفت حتى عن التعليم! لأن طعم الحياة تغير، وتغيرت معه مفاهيم كثيرة، في التاريخ والناس والسياسة، فمتى تتضح الرؤية من جديد؟ أو الرؤية الجديدة للأشياء؟” (7 / 5 / 1993). هذا التشاؤم والإنسداد والإحباط النفسي المترتب عليه، لم يتأثر كثيرا بانتخاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في أبريل 1999، فكان تعليقه على الساخن “أن الرئيس المنتخب انتهى دوره بوفاة بومدين، وقد عمل ما عمل في ذلك العهد، وهو محسوب على ذلك العهد بمافيه من حسنات وسيئات، فلماذا تنفخ فيه الروح من جديد؟!” وغداة مصافحة الوزير الأول الإسرائيلي براك في الرباط، أثناء تشييع جنازة الملك الحسن الثاني تساءل: “كيف سيكون رد فعل الجزائريين على هذا التصرف؟ ويضيف معلقا: “يبدو أن الرئيس الجديد يحب الشهرة والأضواء، ولا يبالي بالمبادئ والقيم” (26 /7/ 1999). وعندما حاول صديقه الدكتور عبد الله الركيبي تطمينه بشأن توجهات الرئيس بوتفليقة، أبى أن يشاطره حماسه، وطلب إليه الانتظار قليلا قبل التسرع في الحكم، ويقول في ذلك: “وكنت تعلمت من دراستي للعلوم السياسية والديبلوماسية في الغرب، أن الرجل السياسي يتغير حسب ظروف المكان والزمان والحاشية والضغوط، وأنه من الصعب الحكم عليه من وعوده”. وبعد بضعة أشهر قابل صديقه الركيبي بعمان - التي حل بها مع وفد رسمي لمجلس الأمة - فلاحظ أن رأيه قد تغير بشأن وعود بوتفليقة، “بعد أن تأكد أن هناك فرقا بين الحقيقة والخيال، وأن مصير الثقافة العربية قد هبت عليه رياح السموم”! وبعد فترة من صدور قانون الافتخار بالاستعمار في فرنسا، شارك الدكتور سعد الله في الجدل الذي تثيره “الأسرة الثورية” بين الفينة والأخرى، فكتب يقول: “لماذا لم نبدأ بالهجوم ولدينا الحق كل الحق في فتح هذا الباب (تجريم الاستعمار)؟ ولماذا سكتنا على الاحتلال سكوتا مخجلا منذ اتفاقيات إيفيان؟” ولا يكتفي بالتساؤل، بل يحاول الإجابجة - بأسلوب الترجيح - إذ يقول: ربما لأن حركى الأمس - الذين استحقوا اليوم من فرنسا الشكر والتمجيد - هم عملاء اليوم الذين يعيشون بيننا في أمن وأمان، وينشرون بيننا ثقافة التصالح والغفران، ويرفعون راية “عفا الله عما سلف”! (18 / 1 / 2006) “التشرذم الثقافي” المزمن! يتمتع الدكتور أبو القاسم سعد الله بثقة عالية في النفس، من مظاهرها شجاعته الأدبية التي ما انفك يعبر عنها من خلال مواقفه الجريئة في الثقافة والأدب واللغة، فضلا عن القضايا التاريخية والسياسية. فعلى الصعيد الثقافي مثلا يقف بإمعان عند ظاهرة “التشرذم الثقافي” في الجزائر وهي ظاهرة قديمة وغريبة يعزوها المؤرخ إلى ضعف “المركزية الثقافية”، رغم عودة المركزية السياسية الوطنية منذ أكثر من 51 سنة. ويذهب إلى حد تشبيه السلطة القائمة بمركزية العهد العثماني: “فإذا كانت المركزية العثمانية قد فرضت اللغة التركية، فإن المركزية الحالية قد فرضت الفرنسية حسب قوله.. ومن نتائج استمرار “التشرذم الثقافي” “ضرب الوحدة الفكرية للمثقفين” الجزائريين في نظره. ونشير بالمناسبة إلى أن الحديث المتكرر للسلطات القائمة عن الثقافة، لا يعني الإهتمام الفعلي بها وبرجالها .. بدليل أن الناظر في الجانب الثقافي من “الإصلاح” “لا يجد مشروعا مستقبليا، ولا حتى احترام المشروع الموروث..” وفي هذا الغياب والغموض المواكب له - “أخذت الفؤوس تتهاوى على كل الثوابت، من دين ولغة وتقاليد وتاريخ حضاري مشترك، وظهرت الخصوصيات الثقافية والتعددية اللغوية واللائيكية...” وهلم جرّاً .... ولا يكاد الدكتور سعد الله يشارك فيما يسمى “النشاط الثقافي” إلا نادرا.. لأنه يعتبره: 1 - “غثاء وهراء، أقرب إلى التهريج منه إلى العمل الثقافي الجاد”... 2 - “غير ملائم لباحث مثلي، يريد أن يحتفظ بتوازن أحكامه ونتائجه، مهما كانت الظروف والضغوط، نظرا لطغيان الطابع الجماهيري العاطفي عليه”.. 3 - نشاطا “يشجع الجهوية والقبلية، على حساب الثقافة الوطنية”. وعندما يسأل الدكتور المؤرخ عن “أدب الشباب، يجيب بمثل الملاحظات الوجيهة التالية: - “أن كثيرا من الشباب يقفز على المسرح بسرعة فائقة، ويسقط بنفس السرعة، لأنه لا يملك أدوات الإستمرار، ولا القدرة على المواصلة”.. - ظهر جيل من الأدباء - خصوصا خلال السبعينات من القرن الماضي - ملأ الميدان ضجيجا، لكنه لم ينتج انتاجا يستحق التنويه، ما عدا بعض الروائيين”.. - ويقول عن الشعر أن صوته خفت إلى حد كبير، “وظهرت فيه حرية التعير عن أي شيء بأي شيء! وغاب النقد أو كاد، حتى صار كل من يحرر بضعة سطور يسمى قصاصا، ومن يقول كلاما غير مفهوم يسمى شاعرا!” ولكن ترى ما رأي الشاعر الأديب سعد الله في أدب الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية؟ يبدو الكاتب في هذا الصدد متشددا ، إن لم نقل متطرفا، بناء على قوله أنه “لا مبرر الآن لمن يكتبون أعمالا أدبية بالفرنسية، إلا انحرافهم التام عن جادة الوطنية. وهؤلاء في نظري لم يعودوا اليوم يمثلون الأدب الجزائري، وإنما يمثلون الأدب الفرنسي والفرنكفونية في بلادنا؟! وبرأيه أن الأدب ينبغي بالأساسي أن “ينبثق من ينبوع العربية والإسلام”. ومن المفيد أن نختم هذه العجالة، بموقف الدكتور المؤرخ من هجرة الأدمغة.. هذا الموقف الذي يكشف الجانب الآخر من الموضوع: أن المثقفين المهاجرين “يساهمون في ضرب أمتهم ولو بطريقة غير مباشرة، حين يقدمون خبراتهم ومعارفهم إلى أعداء هذه الأمة، وإلى المتحالفين مع أعدائها..”. نفور من وهج السلطة عاد الدكتور أبو القاسم سعد الله إلى الجزائر في خريف 1967 بحيوية فياضة، واستعداد واضح للمشاركة في الحياة الثقافية وربما السياسية أيضا... لكن صدمة العام الأول من الإحتكاك بالواقع الجزائري - عبر بوابة الجامعة - جعلته ينكفيء على نفسه، مفضلا سبيل البحث التاريخي ومتاعبه، على طريق السلطة بمنافعها وتقلباتها. كان اختيار التفرغ لأبحاثه لا رجعة فيه، رغم محاولات أصدقائه العديدة لدفعه إلى الواجهة، وترشيحه لمناصب “إدارية أو سياسية. وكان على رأس هؤلاء صديقه الدكتور عبد الله الركيبي زميله السابق في جامع الزيتونة بتونس. في سنة 1973 عين هذا الأخير على رأس “لجنة الثقافة والفكر” بحزب جبهة التحرير فاقترح على صديقه أستاذ التاريخ الإنضمام إلى اللجنة ودعم مساعيها.. لكنه اعتذر بلباقة... وعندما صدر مؤلفه الحركة الوطنية الجزائرية، عاود الركيبي الكرة بترغيبه في إهداء نسخة إلى الرئيس هواري بومدين وطلب مقابلته بالمناسبة ... لكنه اعتذر كذلك... وفي أكتوبر 1982 استدعاه الأمين العام لرئاسة الجمهورية العربي بالخير، ليعرض عليه منصب “مستشار تقني” بالرئاسة، فاعتذر بأدب بحجة مرض الربو الذي يثقل عليه وعلى نشاطه... وفي منتصف يناير 1989 استدعاه رئيس الحكومة قاصدي مرباح، ليعرض عليه منصب كاتب دولة للثقافة، فكان رده أن مثل هذا المنصب يبدو ثقيلا عليه، وأنه يكتفي - في حالة الحاجة الماسة إليه - بالإستشارة عن بعد - من الجامعة أو المنزل.. وكان عرض سيد أحمد غزالي الذي خلف مولود حمروش في مطلع يونيو 1991، أكثر إغراء: وزارة الثقافة، ومع ذلك كان نصيبه من الدكتور الاعتذار أسوة بسابقيه. وفي غضون 1995 عرض عليه وزير الخارجية محمد الصالح دمبري سفارة الجزائر بالقاهرة، وكان يومئذ في أمس الحاجة إلى متنفس مادي ومعنوي... لكنه فضل الاعتذار مرة أخرى... هذا التحفظ من الإقتراب إلى وهج السلطة وبهارجها” ، ربما يعود إلى اللاشعور الذي يحتفظ بشواهد مؤلمة، عن نهاية العديد من الفلاسفة والمفكرين جراء علاقاتهم بالحكام، كما هو حال ابن رشد وابن الخطيب على سبيل المثال. ويعبر الدكتور سعد الله عن هذا الرفض اللاشعوري، مستشهدا بهذا البيت من الشعر: كل التراب ... ولا تعمل لهم عملا ... فالشر أجمعه في ذلك العمل..!