توقفت طويلا أمام ”روميو” وتفرجت على حركاته ودرت حوله وطبطبت على ظهره. ما شاء الله. إنه أبرز شخصيات هذا المعرض والشخص الذي يرشحه العلماء لأن يأخذ مكاني في بيتي ويخدم أسرتي ويطعم أبنائي ويسلي زوجي، أو ينكد عليه، في غيابي. ما حاجتهم لي إذا تولى هذا الرجل الآلي القصير كل مهمات التنظيف والطبخ وكي الثياب وتقديم حبات الدواء في مواعيدها؟ حاولت أن أطرد شبحه من بالي وأعزي النفس بأن ”روميو” لن يستطيع أن يكتب المقالات التي أكتب. هذه مهمة لا تقدر عليها الروبوتات والأجهزة الآلية. كم كنت واهمة بل ساذجة! فها أنا أقع، في مجلتي المفضلة، على قائمة بالمهن المرشحة للانقراض لأن ما يسمى بالذكاء الصناعي، أو الاصطناعي، يمارسها خيرا من المشتغلين بها، بكلفة أقل وصمت أكبر. لن يحال عمال مصانع النسيج وحدهم على المعاش لأن الآلة سرقت أمكنتهم، بل المحامون وموظفو المصارف وبائعات السوبر ماركت والسكرتيرات والمحاسبون وسماسرة العقارات وحتى سعاة البريد والخبازون. الآلة تسكب مقادير الطحين والخميرة والماء وتعجن وتقولب وتخبز وتسلمك رغيفك اليومي حارا ومحمصا ورخيصا مثل ”خبز باب الأغا” في بغداد. في تلك المدينة، قبل عقود من الزمان، جلست مع زملائي في قسم الصحافة نستمع إلى أستاذ مصري يوصينا بأن الوضوح هو أهم شروط الخبر والتقرير والمقال. قال لنا الدكتور خليل صابات إن أصحاب جريدة ”أساهي” اليابانية طوروا جهازا يراجع مقالات المحررين ويحدد ”درجة انقرائيتها”. يعني سلاستها أو تعقيدها. إنه مزود بقائمة من الكلمات العويصة والتراكيب ”المعصلجة”، فإذا زادت على حد معين في المادة التحريرية فإنه يوصي بإعادة كتابتها، أو عدم نشرها، وقد يلقيها في سلة المهملات، أي يبتلعها، من دون العودة لمدير التحرير. رفع طالب كسول يده وقال: ”ماذا سنفعل، يا دكتور، إذا اخترع اليابانيون جهازا يكتب مقالاتنا بدلا عنا”؟ وبحس النكتة المصري الشهير رد الأستاذ: ”اطمئن يا ابني لأن أجدع جهاز ياباني لن يتمكن من تقليد أسلوبك”. كان ذلك ونحن في مطلع السبعينات الماضية. أما وقد شهدنا ثورة الإلكترون واستغنينا عن القلم وتعرفنا على محركات البحث وصرنا نقرأ الصحف على الشاشة ونلتقط الصورة بالهاتف ونرسلها حيثما نشاء وإلى أبعد نقطة في الأرض، فإن من حق طلاب الصحافة، ومعهم المترجمون والمصححون والخطاطون والرسامون وأهل الطباعة والموزعون وأصحاب المكتبات، أن يضعوا أيديهم على قلوبهم. هل سيحضر القارئ في الموعد أم ينصرف إلى ما هو أكثر فائدة وإثارة؟ والثورة مستمرة. ولعل ”الربيع الإلكتروني” ما زال في بداياته. وبيننا من يتمنى لو يعيش مائة سنة مقبلة لكي يرى بأم عينيه ما ستصل إليه البشرية من أعاجيب. فهناك اليوم برمجيات رقمية قادرة على كتابة متابعة لمباراة في كرة القدم دون شطط أو زلة أو انحياز. وقد حقق ”المحرر الآلي” لجريدة ”لوس أنجليس تايمز” سبقا صحافيا في تغطية زلزال ضرب المدينة، قبل أيام. وفي الطب، هناك برنامج يقرأ نتائج التحليلات المختبرية وصور الأشعة ويشخص المرض بدقة يحسده عليها كبار الاختصاصيين. وبحسب تطبيقات أنجزها أصدقاؤنا الهنود وأعداؤنا الإسرائيليون فإن الحاسوب أقدر من القانونيين على إصدار الأحكام وتحديد نوع العقوبة ومدتها أو مقدار الغرامة. لقد لاحظوا أن القضاة يتخذون قراراتهم تبعا لحالتهم النفسية. وهم يصدرون أحكاما أكثر رأفة بعد فرصة الغداء، عن تلك التي يقضون بها وهم جياع. أما الروبوت فلا يعطش ولا يجوع ولا يفرح ولا يحزن ولا يحكم حسب الهوى والمزاج. لقد ألبسوا الإنسان الآلي ”روميو” بدلة بيضاء وعلموه كيف يعتني بالمسنين في دور العجزة؛ أن يقدم لهم أطباق الطعام ويساعدهم على الأكل ويأخذ بأيديهم عند القيام والمشي ويحضر لهم قدح الماء ويقرأ لهم من كتاب في عبه ويعزف لهم الموسيقى ويشغل التلفزيون ويدلك لهم أطرافهم ويغطيهم ويطبع قبلة على رؤوسهم ثم يطفئ النور ويتمنى لهم أحلاما سعيدة. ومن يدري؟ قد يبرمج لهم أحلامهم، ذات يوم قريب، حسب الطلب. ماذا سيبقى من مهن ومهارات عصية على الروبوت؟ القائمة تشير إلى المهندسين والممرضات وأطباء الأسنان والمحللين النفسانيين ورجال الدين. دع ابنك يتعلم الوعظ... لا الصحافة.