كثيرة هي المطبات التي وقع فيها اليساريون في العالم. وأكثرها يرتبط بذلك التناقض الأبدي بين المثالية والواقع. أوقع آخر هذه المطبات الأحزاب اليسارية في هزيمة أليمة في الانتخابات الأخيرة لمجلس الاتحاد الأوروبي. من منطلق ماركس ”يا عمال العالم اتحدوا” ومشاعر الإنسانية، دأبوا على فتح أبواب بلدانهم للنازحين من العالم الثالث، من يستحقون العطف ومن لا يستحقونه من الأفاقين. امتلأت مدنهم بالكاريبيين والباكستانيين والأفريقيين وسواهم من الكثيرين. لكن كان لليساريين تكتيكهم أيضا في الموضوع. فقد اعتاد هؤلاء الغرباء على التقوقع كأقليات، واعتادت الأقليات على الانتماء لليسار، وبالتالي تقوية الأحزاب اليسارية. لهؤلاء الغرباء طبعا تراثهم وديانتهم وطريقة حياتهم التي تختلف عن حياة البلد المضيف، وكثيرا ما تناقضت معها. جنح بعضهم لمسالك الجريمة والاحتيال والتعامل بالمخدرات والبغاء. وكله مما أثار حفيظة السكان الأصليين. نشأت الرغبة للتخلص منهم أو غلق الحدود في وجوههم. هكذا نشأت أحزاب قومية وعنصرية، تبنت هذه الشعارات. ما فتئت تنمو وتتقوى حتى فازت في فرنسا (25 عضوا مقابل 14 للاشتراكيين)، وبريطانيا (24 عضوا مقابل 20 للعمال و19 للمحافظين و6 للخضر) في هذه الانتخابات. وهكذا تقدمت على الأحزاب التقليدية، بما فيها اليسارية والليبرالية. وكان هذا زلزالا قضّ مضاجع الساسة والمعلقين، وجعل موضوع المهاجرين الموضوع الرئيس الشاغل. بالإضافة لليساريين، دافع المحافظون واليمينيون عنهم أيضا لما يسدونه للاقتصاد الوطني والخدمات العامة. بيد أن العمال، العمود الفقري التقليدي لليسار، لم يروا ذلك. فهؤلاء الغرباء يشتغلون بأبخس الأجور ويقبلون أسوأ شروط العمل وأطول ساعات الشغل. وهو طبعا ما يسيء للعمال من المواطنين الأصليين. وهكذا انقلبوا ضد الأحزاب اليسارية فرأينا الأحزاب القومية المعارضة للمهاجرين تحظى بأصواتهم وتفوز في مناطقهم العمالية، كما جرى في فرنساوبريطانيا والدنمارك وإيطاليا. وفي بريطانيا فقد حزب الأحرار الديمقراطيين كل مقاعده في المجلس باستثناء مقعد واحد. وأصبح مستقبل الحزب برمته موضع سؤال. مشكلة العالم الغربي في رأيي هي أنه ينظر لكل شيء رقميا من زاوية الكسب المادي الصرف، وقلما يراعي الجوانب النفسية والمعنوية. كلما طرح موضوع تساءلوا عن أثره على النمو الاقتصادي. وفي ذلك قال ماثيو غودوين، الخبير في موضوع الهجرة والمهاجرين، إن اعتراض الجمهور الغربي ضدهم يتعلق بالحرص على الهوية. فالفرنسيون مثلا يعتزون بتراثهم وثقافتهم، وعندما يرون المهاجرين الغرباء يهددون ذلك يتعصبون ضدهم. إنها ليست مسألة فائدة وعدم فائدة. هناك من يقول إن المسلمين سيشكلون الأكثرية في أوروبا في أواخر هذا القرن. هذا ما يخيفهم رغم تخليهم عن الدين. السؤال الآن: هل هذا الفوز للقوميين سيكون مجرد فقاعة مؤقتة وتنبيه للأحزاب اليسارية والليبرالية، أم أن هذا الاتجاه سينمو ويتعمق حتى تتحول الموجة القومية إلى موجة عنصرية متطرفة تنتهي بأحزاب فاشية على نحو ما رأينا في عهد النازية، تكيل الويل للمهاجرين الغرباء، الأمر الذي سيقلب العالم رأسا على عقب؟