التجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة : اختتام العملية الانتخابية على مستوى المجالس الشعبية الولائية    عيد الأضحى: رئيس الجمهورية يأمر بإطلاق استشارة دولية لاستيراد مليون رأس من الماشية    معسكر.. مسجد "مصطفى بن تهامي"… صرح أثري ومعلم حضاري    نحو استيراد مليون رأس من الماشية    تسليم 320 ألف دفتر عقاري خلال 2024    عشر دقائق هزت أوروبا!    قيادة الجيش تحرص على ترقية دور المرأة    مزيان: حريصون على تعزيز مكانة المرأة    الأسرة المسلمة في رمضان.. وصايا ومواعظ    دعاء : من أجمل ما دعي به في رمضان    قويدري يشيد بدور المرأة    بحضور فرق وجمعيات من 12 ولاية.. المهرجان الثقافي الوطني للعيساوة يرفع ستار طبعته ال14    مدربه السابق يكشف سرّ توهجه في ألمانيا.. عمورة يواصل التألق ويسجل هدفه العاشر    رغم تراجع مستواه..بطل ألمانيا «عينه» على إبراهيم مازا    اليوم العالمي للمرأة : بللو يشيد بجهود المرأة الجزائرية في بناء وإثراء المشهد الثقافي الوطني    اليوم العالمي للمرأة: تتويج خمس فائزات في الهاكاتون النسائي للحلول المبتكرة في الاقتصاد الأزرق    الجزائر العاصمة : زروقي يقف على عملية إعادة تأهيل مبنى البريد المركزي    حساني شريف : مواقف الجزائر تزعج الأعداء    كرة القدم داخل القاعة (دورة الصحافة): لقاء وكالة الانباء الجزائرية-الشروق نيوز, مقابلة الفرصة الاخيرة للفريقين من أجل التأهل    اليوم العالمي للمرأة: جبهة البوليساريو تشيد بالدور الريادي للمرأة الصحراوية في الكفاح من أجل الحرية    اليوم العالمي للمرأة : غوتيريش يدعو إلى اتخاذ إجراءات للدفاع عن حقوق النساء والفتيات    صناعة صيدلانية: قويدري يشيد بدور المرأة المحوري في ترقية القطاع    كأس إفريقيا للاعبين المحليين:مقابلات السد: المنتخب الوطني يواجه غامبيا في الدور الثاني    بمناسبة يوم 8 مارس الشرطة تحي اليوم العالمي للمرأة    اتحاد النساء ينظم وقفة ترحم على روح الشهيدة بن بوعلي    الجزائر تدعو لموقف إسلامي رافض لتهجير الفلسطينيين    سعداوي يترأس اجتماعا لتحضيرات إجراء امتحانات البكالوريا والبيام    خنشلة: الأمن الحضري السابع توقيف شخصين و حجز 280 مهلوسات    انطلاق الطبعة 5 للمهرجان الولائي للأنشودة الدينية للشباب    سنصل إلى توزيع الماء يومياً يومي بكامل وهران    الشرطة تراقب..    انطلاق مسابقة تاج القرآن بالعاصمة    توقعات بحرارة فوق المعدل    سنوسي في ذمة الله    إنْ لم نقرأ ختمة أو نسمعها في شّهر القرآن.. فمتى؟!    تنظيم الطبعة ال11 يومي 10 و11 ماي بالعاصمة    الجزائر تؤكد على الحقّ في الاستخدامات السلمية    فرنسا استخدمت أسلحة كيميائية على نطاق واسع في الجزائر    اليونان.. الإفطار على صوت المدفع والموائد الجماعية    تمديد فتح مكاتب البريد إلى الخامسة مساء    مدرب هيرتا برلين الألماني يدعم إبراهيم مازة    مشكلة الملاعب تقلق "الخضر" قبل لقاء بوتسوانا في تصفيات المونديال    براف يعقد ندوة صحفية اليوم بالجزائر    التحالفات حجر الزاوية في انتخابات "السينا" اليوم    رئيسا غرفتي البرلمان يهنّئان الجزائريات في عيدهن العالمي    الوعي العلمي في الجزائر عرف تحوّلات عدة    إحياء سهرات رمضان نصرة لفلسطين    جثمان الصحفي محمد لمسان يوارى الثرى بمقبرة عين البنيان    سونلغاز تشرع في تنفيذ التزاماتها بالنيجر    تركيب الوحدة الأولى لمركز البيانات الوطني الثاني    مساعٍ لسد احتياجات الأسر المعوزة بباتنة    توزيع قفة رمضان وإفطار الصائمين    على مائدة إفطار المصطفى..    برنامج تأهيلي للحجاج    تجديد النّظر في القضايا الفقهية للمرأة من منطلق فقهي رصين    التقرير السنوي يفضح انتهاكات حقوق الإنسان في الصحراء الغربية    الإنتاج المحلي يغطّي 76 % من احتياجات الجزائر    اجتماع تنسيقي لتطوير آليات خدمة الحجاج والمعتمرين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حزب اليمين المتطرّف البريطاني يصعد المنبر
نشر في صوت الأحرار يوم 26 - 10 - 2009

حدثُ هذا الأسبوع في المملكة المتّحدة كان ميدانه رُكْح برمانج »ساعة استجواب«، وهو واحد من أهمّ البرامج السياسيّة الأسبوعيّة في البلد. ونجْم الحدث كان بدون منازع زعيم الحزب الوطنيّ البريطانيّ الذي يرى أنّ الإسلام في أوروبا »سرطان« يجب استئصاله. الخوف الكبير هنا أن هذا الحزب اليميني المتطرّف يُسجّل أكبر اختراق له في حظيرة الأحزاب الكبرى، ويشقّ طريقه لتجربة تُحاول الإقتداء بتجربة جان ماري لو بان الفرنسيّ التي دشّنها في منتصف الثمانينات.
حظيت حلقة هذا الأسبوع من برنامج »ساعة استجواب« بأكبر جدل في تاريخ محطة البي بي سي، التلفزيون العموميّ الأكثر عراقة في العالم، وذلك بسبب مشاركة نيك غريفين زعيم الحزب اليمينيّ المتطرّف العنصري، المعاديّ الشّرس للإسلام والمهاجرين وكذا لليهود. وقد تابع البرنامج قرابة ثمانية مليون مواطن، مقابل معدّل اعتياديّ لقرابة ثلاثة ملايين مشاهد.
والبرنامج الأسبوعيّ الذي يبثّ 36 حصّة في السّنة، دأب على أن يشارك فيه مُعدّه إلى جانب ممثّلين عن الأحزاب الرّئيسية الثلاثة مرفوقين بشخصيّة مستقلّة. أدار حصّة هذا اللّقاء الإسبوعيّ كالعادة الصحافي دافيد ديمبلوبي، وهو من خيرة صحافيّي البي بي سي. وقد اختارت القناة لهذه الحصّة مشاركة ممثّلة حزب المحافظين البارونة وارسي، وزيرة الظلّ المكلّفة بشؤون التّجانس الوطني وهي باكستانيّة الأصل وأوّل مسلمة تجلس في صفوف البرلمان البريطانيّ، منذ عام 2007، والتي مُنحت في مطلع السّنة الحالية لقب أقوى امرأة مسلمة نفوذا وشهرة ببريطانيا. كما حضر اللّقاء جاك سترو وزير العدل في حكومة العمّال الحالية وكريس هون الناطق الرسميّ لدى الحزب الليبراليّ الدّيمقراطيّ والمكلّف بالشّؤون الداخليّة وكذا الكاتبة والنّاقدة الأمريكيّة الأصل بوني غرير نائبة مدير المتحف البريطانيّ.
ومنذ إعلان البي بي سي قرارها ببرمجة هذه الحصّة، استبشر زعيم الحزب اليميني المتطرّف بأن تكون تلك المناسية فرصة لتدشين مرحلة جديدة هامّة في مسار تاريخ حزبه، واعدا أنصاره باستغلالها: »لفضح الفاسدين من الخونة الخنازير الذين دمّروا جمال جزيرة أمّتنا«، ودعى أعضاء حزبه مبكّرا، على موقعه بالأنتارنات، بألا يفوّتوا فرصة متابعة تلك الحصّة المصيريّة.
أمّا الرّأي العام البريطانيّ فقد انقسم بين تيّار ليبرالي مؤيّد للمبادرة وآخر معارض يستند للتّراث اليساريّ الممتثل للتّعليمة التقليديّة: »لا منبر للفاشية«. الأوّل تزعّمته إدارة البي بي سي والثاني برز ضمن صفوفه بيتر هاين، الوزير العمّالي السّابق والناشط التقليديّ في محاربة التّمييز العنصريّ، والذّي بقي متمسّكا برأيه حتّى بعد رصد حصيلة الحصّة.
وناصرة في الرّأي وزير الدّاخليّة، آلن جونسون الذي ذهب إلى مطالبة البي بي سي بأن تعيد النظر في قرارها كليّة. وقال أنّ هذا الحزب بغيض وسيبقى مبعثا على القرف حتّى ولو التزم بقرار المحكمة في مؤتمره القادم لتغيير دستوره الذي مازال يمنع انتساب غير البيض إلى صفوفه. غير أن رئيس الوزراء العمّالي لم ير غرابة في تباين تلك المواقف المختلفة التي تشيّع لها أعضاء حكومته بين مشارك في اللّقاء ومطالب بإلغائه.
أمّا حجّة البي بي سي في برمجة هذه الحصّة فتقول أنّ الحزب الوطنيّ البريطانيّ قد نال أصوات قرابة مليون ناخب وحاز على مقعدين في البرلمان الأوروبيّ في انتخابات الرّبيع الفائت. وبالتّالي، وعلى الرّغم من كونه حزبا هامشيّا، فإنّ من واجبات البي بي سي أن تُخصّص له ما يناسب حجم وعائه الإنتخابيّ من وقت للظهور على الشّاشة، تماما كما تفعل مع بقيّة الأحزاب الأخري ضعيفة التّمثيل، مثل حزب الخظر أو حزب جورج غالاواي.
وقد حدث أن استفاد الحزب الوطنيّ البريطانيّ من فترة بث خلال آخر الإنتخابات الأوروبيّة في جوان الماضي وفق مقتضيات قانون الإتصالات لسنة 2003 الذي يمنح هذا الحق لكل حزب تمكّن من تقديم قائمة مترشّحين لسُدس المقاعد الإنتخابيّة أو أكثر. وحسب التزامات البي بي سي في معاملة الإحزاب بالتساوي، فلا مناص من منح الحزب الذي نال 6 في المئة من أصوات النّاخبين حقّه في فترة البثّ.
والنّغمة الدّارجة بين أنصارهذا الإتّجاه هي أنّ إبعاد هذا الحزب عن الظهور أمام الجمهور خطأ مناف لمباديء الديمقراطيّة وغير مجدٍ عمليّا. وقد أيّد هذا المنحى وزير العدل جاك سترو الذّي مثّل حزب العمّال في النّدوة مؤكّدا أنّ الشعب البريطانيّ ناضج بما فيه الكفاية لكي لا يذهب فريسة الدّجل المتطرّف. ويرى مؤيّدو استقبال الحصّة للزعيم اليمينيّ المتطرّف أنّ هذا الموقف هو الموقف السّليم لوضع حدّ للوهم الذي يُكرّس الدّعاية له الحزب الوطنيّ البريطانيّ والزاعم بأنّ النّخب المهيمنة على السّاحة السياسيّة والإعلاميّة تتآمر ضدّه لتحجيمه بسبب أنّه الوحيد الذي يصدح بحقيقة أنّ الحكومات المتتالية سواء كانت محافظة أو عمّاليّة تعمل على: »إبادة« المواطنين البيض في بريطانيا.
أمّا تخوّفات المعارضين لمشاركة نيك غريفني في الحصّة التلفزيونيّة فمردّها، أوّلا، أن هذا الحزب المغمور ستُتاح لزعيمه فرصة لتحطيم طابو التهميش الذي يعانيه بل وسيستغلّها لتقديم نفسه كشخص عادي ومقبولة أفكاره وربّما ليكتسب احتراما بتواجده بين الأعيان. وقد عارض بيتر هاين الزّعيم الوالشيّ بقوّة استفادة الحزب اليميني المتطرّف من هذه الحظوة التي هي في الحقيقة، كما يقول، استسلام لخطّته الإستراجيّة التي يسعى من ورائها، مثل بقيّة الأحزاب الأوروبيّة من رهطة، إلى أن يُصبح حزبا عاديا ومشروعا، تماما كما فعل قبله جان ماري لوبان في فرنسا.
وبالنسبة لهاين، مادامت مباديء الحزب العنصريّة لم تتغيّر فليس هناك داع للتّعجيل بمنحه هذا المنبر، مشيرا إلى أنّ الحزب كان منذ أسبوع خلا محلّ حكم قضائيّ يُجبره على تغيير مواد قانونه الأساسي والتي مازالت تنصّ على حصر العضويّة في صفوفه على البيض لا غير. وكانت لجنة المساواة وحقوق الإنسان البريطانيّة قد رفعت، بهذا الخصوص، في في فيفري الماضي دعوى قضائيّة ضدّ الحزب اليمينيّ المتطرّف. وكان غريفين قد أُدين سنة 1998 بالتحريض على الكراهيّة العنصريّة في حين بُرّأت ساحته لنفس التّهمة سنة 2006.
وقد ثباينت مواقف المنظمات والجمعيات المهنيّة والقانونيّة من مبادرة البي بي سي. حيث اعتبرت منظمّة : »مراسلون بدون حدود" المناصرة لحريّة الصّحافة« أنّ مبادرة البي بي سي تستحقّ التأييد المطلق باعتبارها استجابة لحقوق الإنسان في مجال حريّة التعبير وحريةّ الإعلام. ولكنّ عدّة شخصيّات ومنظمات أخرى عارضت ظهور ممثّل هذا الحزب على شاشة التلفزيون، ومنها، الإتحاد الوطنيّ للصحافيين. وقد وجّه أمينه العام رسالة لَوْم ضدّ مبادرة البي بي سي، لأنّ الحزب، كما يقول، ليس حزبا مشروعا في ظل نظام ديمقراطيّ لكونه يسعى لتدمير الدّيمقراطيّة وبالتّالي ليس من حقّه أن يستفيد من إشهار لأفكاره العنصريّة التي يُحرّض بموجبها على العنف ويُمجّد هتلر والنازيّة.
ويرى الأمين العام للمنظمة أن منهج هذا البرنامج التلفزيونيّ الذي يعتمد على طرح سؤال واحد يُجيب عليه بالتوالي كلّ مشارك في الحصّة لا يسمح بتمكين المواطن من تفحّص الدّعاية المغرضة التي تبث الفرقة والخوف. وفي هذا الإتّجاه، عارضت اليوميّة اليساريّة الغارديان أن تُتاح لمقولات كاذبة وخطيرة طريقها إلى الإشهار الواسع في برنامج: »ساعة استجواب« الذي يجيب كل مشارك فيه على أسئلة الجمهور الحاضر فحسب. واقترحت الغارديان بدلا من ذلك أن يخضع لمساءلة فرديّة معمّقة مع أكبر الصحافيين الأنجليز، من أمثال باكسمان وهومفري.
وهناك من اعتبر أن هذه المبادرة المنحرفة ليست جديدة على البي بس سي، حيث أن منهم من ذهب لتذكير مجلس أمناء البي بي سي ومارك طومسن مديرها العام بموقفه الرّافض لنشر النّداء الإنساني لمساعدة سكّان غزّة أثناء الإعتداء الإسرائيليّ الغاشم على الرّغم من تلقّيهم 40 ألف احتجاج بالإضافة إلى تظاهرات واسهة على أبواب القناة.
وبصورة أشمل، يعود تخوّف السّاسة والمحلّلين من ظهور حزب يمينيّ واحتلاله الصّدارة الآن، لكون المرحلة التي تمرّ بها بريطانيا، مثل كثير من الدول الأخرى، تراكمت فيها كلّ المقوّمات التي من شأنها توفير التربة الخصبة التي تساعد الأحزاب اليمينيّة والفاشية على النموّ السريع. ففي بريطانيا، هناك أزمة في الشّرعية البرلمانيّة، بسبب فضيحة تفقات نواب البرلمان )أنظر مقالتنا المنشورة يوم الثلاثاء المنصرم(، وفي نفس الوقت تمرّ البلاد بفترة كساد لا يضاهيها في العمق سوى تلك التي نمت فيها الفاشية والنازية في غضون القرن الماضي. ومثل هذه البيئة هي التي ساعدت على بروز وانتشار جيوب اليمين عبر العديد من دول أوروبا. غير أنّ الطبقة السّياسيّة في بريطانيا لا تتوان في طمأنة نفسها بأنّ الأصوات الذي ذهبت لليمين المتطرّف في الإنتخابات الأخيرة كانت تعبيرا عن احتجاحها على الأحزاب الرئيسيّة وانتقاما منها أكثر بكثير من كونها تعبيرا عن تقبّلها لأفكار اليمين المتطرّف.
ويذهب الكثير من المحلّلين إلى أنّ الحزب الوطنيّ البريطانيّ يسعى لتقفّي أثر تجربة حزب الجبهة الوطنيّة الفرنسيّ وزعيمها جان ماري لوبان والتي يري فيها اليمين المتطرّف البريطانيّ مثلا ناجحا ونموذجا يُحتذى. ويذكر هؤلاء أنّ الصّحافة كانت قد لعبت دورا بارزا في استراتيجة الجبهة الوطنيّة، كمطيّة لبلوغ الجمهور الواسع وتبليغ خطاب الحزب له من جهة، وكسر حاجز خصوصيّته كحركة هامشيّة، وبالتّالي كسب شرعيّة الحزب العاديّ.
وبالفعل، فقد جاءت أوّل قفزة تاريخيّة حقّقها لوبان وحزبه على إثر ظهوره في برنامج: "ساعة الحقيقة" التي بثتها القناة الثانية الفرنسيّة سنة 1984، ففتحت له باب الشهرة والشّرعيّة، حيث حقّق أثناء الإنتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة سنة 2002 مفاجأة احتلال المرتبة الثانية متقدّما على ليونال جوسبان، الوزير الأول. وكان يحلو للوبان أن يصف تلك الفرصة بأنّها: "السّاعة التي غيّرت كلّ شيء"، حيث ارتقت نوايا الناخبين وقتها لصالح الجبهة الوطنيّة من 3.5 في المئة إلى 7 في المئة، بل وانتهت بتصويت 11 في المئة من الناخبين لصالحه )مليونان ومئتا ألف ناخب(. وتقييما لحصّة البي بي سي، مقارنة بتجربته، علّق جان ماري لوبان قائلا: »إنّ السّمك الصّغير يكبر مادام الإلاه هو الذي يمنح له الحياة. فالأحزاب جميعها تبدأ هامشيّة قبل أن تحتلّ مكانة في الصّدارة«. ويعتقد كثير من الباحثين أنّ هذا المسار هو المسار المرجّح لاتّجاه مستقبل الحزب الوطنيّ البريطانيّ.
أمّا فيما يتعلّق بمجريات برنامج »ساعة استجواب«، فإنّ نيك غريفين قد لقي من المشاركين مساءلة حازمة لأطروحاته العنصريّة والمعادية للمهاجرين والمسلمين واليهود. حتّى أنّ هناك من رأى بأن الحصّة، على غير عادتها في التعرّض لأهم أحداث الأسبوع، اقتصرت في أربعة أخماس من وقتها على تشريح مقولات الحزب اليمينيّ المقيتة. إذ تظافرت جهود خمسة شخصيّات تأهّب كلّ منهم لتمريغ أنف ذلك العنصريّ في التراب مرّة واحدة. بل إنّ الجمهور الحاظر، والذي يتمّ اختياره وفق وجاهة الأسئلة التي يقدّمها بعضهم واستجابةً لحاجة توفير عيّنة ممثّلة، قد اعتبره المحلّلون والصّحافيون نجم الحصّة. وبسب تلك الضراوة، ذهب عديد من عامّة الناس إلى النظر لنيك غريفين كبطل وضحيّة في نفس الوقت.
ومن جهته، حاول غريفين طوال الحصّة أن يتجنّب كلّ تبرير لخصومه لتوجيه أيّ تهمة له بالعنصريّة أومعاداة السّامية، حيث حاول طوال الحصّة أن يُحافظ على بشاشة الخديعة وتمسّك بالمراوغة. ولكنّه لم يتوان في أن يجدّد تهجّمه الصّارخ في مسألة وحيدة: الإسلام، وهي اللّحظة الوحيدة أثناء اللّقاء التي حظي فيها بتصفيق من بعض الحاضرين، وإن كان تصفيقا خافتا.
ومن اللّحظات البارزة أثناء البرنامج أن الباحثة بوني غرير قد فنّدت دعاوي غريفين المتعلّقة بمن سمّاهم: »السّكان الأصليّين« للجزيرة، حيث ذكّرته بأهمّ فصول تاريخ هذا البلد والتي تعود إلى فترة الإحتلال الرّومانيّ الذي تحقّق أصلا على أيدي سكّان شمال إفريقيا والذين استقرّوا هنا منذ ذلك التّاريخ. وسألته مازحة: من قال أنّك لست منحدرا من هذه الأصول؟.
وكان أوّل المستفيدين من حجم المشاهدة التي بلغت قرابة 8 ملايين قناة البي بي سي التي وجدت في ذلك تأكيدا على وجود رغبة قويّة لدى الجمهور في متابعة جلسات النّقاش التي تتيح له أن يُسائل رجال السّياسة. وهذا ما يعني أيضا، كما تقول البي بي سي، أن قرارها بإشراك غريفين في النّقل المباشر كان صائبا. وكانت نشرة الأخبار لقناة الثانيّة التي يتصادف بثّها مع موعد برنامج: »ساعة استجواب« قد سجّلت انخفاضا في مشاهديها إلى 300 ألف مقابل معدّل يوميّ يتراوح بين 7 مئة ألف ومليون مشاهد.
أمّا نيك غريفني، فلم يبخل أحد عليه بالإزدراء سواء من رجال السياسة أوالإعلام أوالمحلّلين. ولم ينج حتّى من نقد المتعاطفين مع طروحات حزبه الذين أمطروه، عبر موقع الحزب على الإنتارنات، بتعليقاتهم الغاضبة خاصّة، كما يقولون، بسبب ليونته. وهي التعليقات التي سرعان ما تمّ سحب الكثير منها من الموقع. وقد قيّم لي بارنس، المكلّف بالشؤون القانونيّة لدى الحزب، آثار ظهور زعيم حزبه على الشاشة، فاتّهمه: »بالفشل في المبادرة بالهجوم«.
في حين عبّر آخرون من المتشيّعين له عن خيبة أملهم لكونه بذل جهدا يائسا لكسب القاعدة العريضة من الناخبين البريطانيين على حساب التّعبير الشّجاع عن مبادىء الحزب. وهو الخلاف التقليديّ الذي يقسّم عادة أعضاء الأحزاب بين المتمسّكين منهم بأصول الحزب وأولئك البراغماتتين السّاعين لكسب شريحة أوسع من النّاخبين. ولذلك، ففي الوقت الذي يعتزّ فيه الزّعيم بكونه أوصل صوت الحزب إلى الرّكح الذي كان قاصرا الأحزاب الكبرى اتّهمه بعض أنصاره بالإعتدال.
غير أنّ غريفين لم يتوان في التشكّي من سوء معاملة البي بي سي له واتهامها، في اليوم التالي، بحبك مؤامرة ضدّه على يد من زعم بأنّهم جنود: »مؤسّسة اليسار المتطرّف« وعلى يد جمهور العاصمة لندن: »التي تمّ تطهيرها عرقيّا... فلم تعد أنجليزيّة.« فكان، كما يضيف، ضحيّة: »قصاص غوغائييها بدون محاكمة«. وطالب البي بي سي بإعادة الكرّة ودعوته منفردا أو في مواجهة أي خصم من خصومه في الأحواب الرئيسيّة.
وحتّى لا يبدو الحزب وكأنّه تنازل عن صرامته، دعى بارناس المستشار القانوني للحزب، عبر موقعه الشّخصيّ على الأنتارنات، إلى: »قيام البيض بانتفاضات عبر البلاد ... حتّى تستيقظ فئة الطّبقة المتوسّطة من البيض الليبراليين البلداء وأتباعهم من أبناء الأصول الإثنية الوافدين«.
وهكذا، علّق الناطق باسم الحركة المناهضة للفاشية بأنّ: »هذا ما يُعرّي، مرّة أخرى وإلى الأبد، ادّعاءات نيك غريفين بأنّ الحزب الوطنيّ البريطانيّ ليس منظمّة عنيفة. حيث أنّ بارناس ليس مجرّد عضو بالحزب بل هو مستشاره القانونيّ« أيّ، كما علّق النائب العمّالي جون كرداس الذي ترشّح مرّة لنيابة رئيس الوزراء: »إذا كان هذا هو رأي المستشار القانونيّ، فماذا سيكون عليه رأي الأعضاء النّشطاء في الحزب«.
ومع ذلك، فقد كشف سبر للرّأي العام، قامت به صحيفة الديلي تلغراف غداة اللقاء التلفزيونيّ، أنّ 22 في المئة من الناخبين سينظرون بجديّة في إمكانيّة التّصويت لصالح الحزب الوطنيّ البريطانيّ. كما صرّح مسؤولو الحزب بأنّ تسعة آلاف من المواطنين قد تقرّبوا من الحزب طلبا للإنتماء. وقد تبجّحوا بأنّ الإنتخابات الأوروبيّة التي صرفوا فيها 500 ألف جنبه استرلينيّ جلبت لهم تقرّب 40 ألف من الراغبين في الإنتماء للحزب في حين مكّنتهم حصّة: »ساعة الإستجواب« من جلب ربع ذلك العدد خلال ثمان ساعات فقط ومقابل لا شيء تقريبا.
وهذه النتائج قد عزّزت مخاوف بيتر هين سكرتير الويلز الذّي عارض من الأساس ظهور غريفين في حصّة »ساعة الإستجواب« والذي صرّح بأنّه غاضب: »لأنّ البي بي سي قد أهدت إلى الحزب الوطنيّ البريطانيّ هديّة القرن على طبق من ذهب، وتلك كانت عواقبها«.
مهما يكن من أمر، فإنّ ميزة هذه الحصّة التاريخيّة، أنّها بيّنت كيف أنّ النظام الدّيمقراطي، المكتمل صرحه، قادرعلى مواجهة أعدائه من المتطرّفين الميّالين للعنف اللفظيّ وغير المتوانين في اللّجوء للإرهاب الماديّ، دون التّفريط بقيمه الأساسيّة المتمثّلة في ضمان حريّة التعبير والتّمثيل المنصف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.