وهران : انطلاق تظاهرة الأبواب المفتوحة حول القوات البحرية    قطاع التكوين المهني يعمل على توفير عروض تكوين تتلاءم مع احتياجات سوق العمل    عرقاب يستقبل وفدا من اتحاد مالكي ومستغلي محطات الخدمات والوقود    منظمة التحرير الفلسطينية ترحب بتشكيل "مجموعة لاهاي" لدعم فلسطين    فلسطين: مستوطنون صهاينة يحرقون مسجدا شمال أريحا    تلمسان: إحصاء أزيد من ألفي طير بالمنطقة الرطبة المصنفة ضاية الفرد    الجزائر العاصمة: افتتاح معرض " قم ترى" للفنانة التشكيلية سامية شلوفي    البطولة المغاربية المدرسية للعدو الريفي: المنتخب الجزائري يحصل على 6 ميداليات منها ذهبيتين    مؤسّسات ناشئة تقدم حلولاً مبتكرة    رسالة من تبّون إلى رئيس غينيا بيساو    استئناف النزاع بالكونغو الديمقراطية يُقلق الجزائر    بلمهدي يُحذّر من الأفكار المشوهة والمدمّرة    رسائل صمود وتحدّي    الصحفية حيزية تلمسي في ذمّة الله    صادي: يجب أن نعمل بهدوء    غويري لاعباً لمارسيليا    بن ناصر يواجه بن موسى وزروقي    شرفة يترأس اجتماعاً تقييمياً    ثلوج نادرة    الشرطة تُحسّس..    الغاز يقتل عشرات الجزائريين    نقل قرابة 6 مليون طن من البضائع في 2024    سايحي يلتقي نقابة الممارسين الأخصائيين    مؤسسة ميناء الجزائر تعلن عن فتح أربعة مكاتب قريبا    الإطاحة ب 3 شبكات إجرامية وضبط 100 ألف كبسولة مهلوسات    سايحي يلتقي أعضاء النقابة الوطنية للممارسين الأخصائيين    انتصار جديد لقضية الصحراء الغربية    ممتنّون لجهود الجزائر والرئيس تبون في دعم القضية الفلسطينية    نصرة الحق وفضح عنجهية الكيان الصهيوني    دفعة أولى من الأئمة تتوجه إلى أكاديمية الأزهر العالمية    وفاة المجاهد عضو جيش التحرير الوطني إسماعيل محفوظ    رئيس كوبا يشيد بانجازات الدبلوماسية الجزائرية بقيادة الرئيس تبون    "العميد" لتعزيز الصدارة و"الترجي" للاستفاقة    القفطان القسنطيني.. يعانق عبق التاريخ الجزائري العريق    أتطلع لبلوغ العالمية بنافورات تنبض بالحياة    إعادة تشجير غابة جامعة "محمد بوضياف" بوهران    بن رحمة "سعيد" بالإمضاء لنادي نيوم السعودي    طاقة الأكوان والألوان    حبكة مشوقة بين الأب والابن والزوجة المنتظرة    12 مسرحية.. "من أجل فعل إبداعي مؤثر"    ضبط مراحل جائزة ساقية سيدي يوسف    التعريف بالفرص الاستثمارية المتاحة في الجزائر    صناعة صيدلانية: السيد غريب يأمر بالمعالجة المستعجلة للملفات الاستثمارية العالقة    نهب ثروات الشعب الصحراوي: مجلس الاتحاد الأوروبي يقر بعدم شرعية الاتفاقيات المبرمة بين الاتحاد والمغرب    معرض "شوكاف" يكشف عن التطور الملحوظ لصناعة الشوكولاتة بالجزائر    تمنراست : إبراز دور الزوايا الكنتية في المحافظة على الهوية الوطنية وحسن الجوار    باتنة: إطلاق جائزة الشهيد مصطفى بن بولعيد للفن التشكيلي في طبعتها الأولى    الجمعية العامة العادية للفاف: المصادقة بالإجماع على الحصيلتين الادبية والمالية لسنة 2024    قمة التكنولوجيا المالية: مؤسسات ناشئة تقدم حلولا مبتكرة لمواكبة تطور التجارة الإلكترونية    هذه صفات عباد الرحمن..    هذا موعد ترقّب هلال رمضان    وزير الصحة يُطمئن الأطبّاء    840 ألف دينار تكلفة الحج لهذا العام    معسكر: الشهيد شريط علي شريف… نموذج في الصمود والتحدي والوفاء للوطن    الشعب الفلسطيني مثبت للأركان وقائدها    فتح باب الترشح لجائزة أشبال الثقافة    أدعية شهر شعبان المأثورة    الاجتهاد في شعبان.. سبيل الفوز في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معركة التنوير الفرنسي
نشر في الفجر يوم 28 - 11 - 2014

تعجبني المعارك الفكرية أكثر من المعارك السياسية، وإن كانت هذه من تلك. وتعجبني عبارة هيغل: ”لا شيء عظيما يتحقق في التاريخ من دون أهواء هائجة ومعارك صاخبة”. والدليل على ذلك أكبر مشروع تنويري فرنسي في القرن الثامن عشر: أي مشروع الموسوعة الخاصة بالعلوم، والفنون، والصناعات، والفلسفة. وهو الذي أنجزه ديدرو وفريق عمله على مدار ربع قرن تقريبا. وهو ما يدعى اختصارا بالإنسكلوبيديا.
وكان إلى جانب ديدرو مفكر آخر يدعى دالامبير. وهو من كبار علماء الرياضيات في عصره. وقد تعاون معهما على كتابة مواد الموسوعة الضخمة عشرات وربما مئات الباحثين والمفكرين في شتى الاختصاصات. ففولتير كتب فيها، وكذلك جان جاك روسو، ومعظم علماء ذلك الزمان. فالموسوعة لا يكتبها شخص واحد.
وقد أدى هذا المشروع الفلسفي الضخم؛ ليس فقط إلى تنوير فرنسا، وإنما أوروبا كلها. فالثورة الفرنسية التي أصبحت منارة لكل الشعوب، ما هي إلا ترجمته السياسية على أرض الواقع. وإذن، فالثورة الفكرية أولا وبعدئذ تجيء الثورة السياسية، وليس العكس كما يتوهم مؤدلجو الربيع العربي. والأنكى من ذلك أنهم يعتبرون تصحيح مسار الانتفاضات في اتجاه ليبرالي حداثي، كما حصل في مصر وتونس، ثورة مضادة! ويعتبرون الحركات الإخوانية التي أزيحت عن السلطة بمثابة الثورة الحقيقية! فافهم إذا كنت قادرا على الفهم، أيها التعيس! التاريخ يمشي بالمقلوب في عالمك العربي وينبغي أن تصفق له! ومع ذلك، فأدعو إلى التعاون بين كلا شقي الأمة: العلماني والإسلامي المستنير. ولست من دعاة الفتنة والحروب الأهلية والاستئصالات. ولكن، كيف يمكن أن تتعاون مع تيار يعتقد جازما أنه يمتلك الحقيقة الإلهية المطلقة من دون بقية المسلمين أو بقية البشر؟ كيف يمكن أن تتعاون مع تيار يكفّر في أعماقه ثلاثة أرباع البشرية؟ هذا هو السؤال الذي يتحاشونه بأي شكل. ولو أن التنوير الإسلامي انتصر لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من صدامات وجهالات. ولكننا سائرون على الطريق بإذن الله. هذه هي قناعتي. التنوير العربي الإسلامي قادم لا ريب فيه. ومن ثم، فالصراع الأساسي المندلع حاليا ليس بين الإسلام والإلحاد، ولا حتى بين الإسلام والعلمانية، وإنما بين الإسلام والإسلام؛ إسلام الأنوار وإسلام الإخوان. نقطة على السطر.
لكن، لنعد إلى ديدرو ولنتعظ بتجارب الآخرين دون أن نقلدها حرفيا. في البداية، كان يريد وزميله دالامبير ترجمة الموسوعة الإنجليزية لكي يطلع القارئ الفرنسي على آخر مستجدات المعرفة في عصره.
ومعلوم أن إنجلترا كانت سبقت فرنسا إلى النهوض العلمي والصناعي والاستيقاظ السياسي والتسامح الديني، وكانت تمتلك موسوعة كبيرة تشتمل مختلف المعارف والعلوم. والمتأخر يقلد المتقدم، ولا عيب في ذلك. هذا قانون تاريخي. ومن ثم، فكفوا عن صمّ آذاننا بمعزوفة ”الغزو الفكري”! فرقوا بين حثالات الغرب وانحرافات الحداثة الحالية، وجوهر المشروع التنويري الحضاري. خذوا الجوهر واطرحوا القشور.
لكن ديدرو بعد تأملات طويلة ومناقشات عميقة استقر رأيه على تأليف موسوعة جديدة لا على ترجمة الموسوعة الإنجليزية حرفيا.
وكان يهدف منها إلى تغيير العقلية الفرنسية عن طريق تشجيع الفكر الجديد ونشر الأنوار الفلسفية في مملكة الاستبداد والظلامية الكنسية. فالفرنسيون في ذلك العصر كانوا جهلة، محدودي الأفق، ومنغلقين على العلم والفلسفة. ولذلك، فكر هذا الفيلسوف الكبير في تنويرهم وإخراجهم من ظلمات التعصب والجهل إلى أنوار العلم والتسامح. ثورة مضادة! ولكن ذلك لا يمكن أن يتحقق من دون أن يقدم لهم معرفة جديدة غير المعرفة الكنسية السائدة: أي المعرفة التراثية التي يتلقونها عن طريق الإخوان المسيحيين التي كانت تسود المجتمع آنذاك من أقصاه إلى أقصاه. وهي لاهوتية في معظمها ولا تولي أهمية تذكر للعلوم الحديثة، بل كانت تحتقرها وتكفرها. فما قيمة العلم البشري قياسا إلى العلوم الكنسية؟ لا شيء. وقال ديدرو في افتتاحيته: ”إننا نهدف إلى نقد التعصب الديني الأعمى وكذلك التعصب السياسي أو بالأحرى الاستبداد السياسي، هذا بالإضافة إلى مدح الروح النقدية للعقل وحرية الفكر. ففرنسا بحاجة إلى أن تتنفس بحرية، إلى أن تتقن الروح النقدية الإبداعية بعد سبات طويل. آن أن تستيقظ فرنسا! فقد سبقها الآخرون”. وكان ديدرو يهدف إلى تفحُّص كل العقائد بلا أي مجاملة أو مراعاة. فكل شيء ينبغي أن يخضع لسلاح النقد ومنظار العقل، بما فيه التراث المسيحي المقدس نفسه. ولهذا السبب، اصطدم الفيلسوف الكبير برجال الدين وحاولوا عرقلة مشروعه، بل أوقفوه أكثر من مرة قبل أن يعود إلى مواصلة العمل من جديد. وحصل كر وفر أرهقه حتى صحيا. ومن ثم، فحول الموسوعة الشهيرة دارت المعارك الفكرية والحروب بين شقي فرنسا: الشق الفلسفي العلماني الصاعد، والشق المسيحي اللاهوتي المهيمن تاريخيا. وهكذا، اشتبك الأصوليون المسيحيون مع الفلاسفة العلمانيين بكل ضراوة وشراسة. وعن هذا الاشتباك، نتجت الحداثة.
لكن ديدرو تسرع قليلا أو قل تهور عندما هاجم أكبر شخصية أصولية مسيحية في فرنسا: بوسّويه. ومعلوم أنه عاش في القرن السابع عشر وكان مضادا للفلسفة الديكارتية وكل العلم الحديث بشكل عام. وكان يكفّر كل المذاهب المسيحية الأخرى ما عدا المذهب الكاثوليكي البابوي.
وبالطبع، فإن هجوم ديدرو على هذه الشخصية الضخمة أثار حفيظة الأصوليين المسيحيين، فاحمرت عليه الأعين وأوشكوا أن يبطشوا به. وتمت مصادرة الموسوعة فورا وأصبح الرجل مهددا بالخطر. فتوارى عن الأنظار فترة من الزمن لكي تمر العاصفة. هكذا، نلاحظ أن المعارك الفكرية لا تقل خطورة عن المعارك السياسية - إن لم تزد!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.