تقارير الجبهات العسكرية المفتوحة على ”داعش” بدأت تكشف عن تباين غير خاف بين استراتيجيتي دول التحالف في كل من العراقوسوريا ورغم أنهما يشكلان، عمليا، جبهة عسكرية واحدة. ومع أن هذا التباين لم يصل بعد إلى مستوى التضارب بين الاستراتيجيتين، فإن أي مقارنة واقعية بين مستوى المجهود العسكري المبذول لدحر ”داعش” في العراق والمجهود المماثل في سوريا، توحي بأن أولوية التحالف الدولي ما زالت معركة العراق، ففيما لا يفرق ”داعش” بين أهدافه السياسية والاستراتيجية في الدولتين، تتعامل دول التحالف مع الوجود ”الداعشي” في سوريا وكأنه مجرد ساحة خلفية لجبهته الأمامية في العراق. وعليه تعتبر هذه الدول أن أولوياتها العسكرية في سوريا تقتصر، مرحليا على الأقل، على قطع خطوط الإمدادات ”الداعشية” للجبهة العراقية. من نافلة القول أن المقارنة الدقيقة بين أبعاد العمليات العسكرية الجارية على الجبهتين تحتاج إلى محلل عسكري ومعلومات ميدانية موثوقة. ولكن إذا كان ”ترسمل” دول التحالف، وخصوصا الولاياتالمتحدة، على المعطيات الديموغرافية - المذهبية المتباينة بين سورياوالعراق يسهل ترجيح أولوية الجبهة العراقية على الجبهة السورية، فهو لا يبرر عدم توصل دول التحالف إلى حد أدنى من التنسيق بين مصالحها المتضاربة في سوريا بحيث تتضح أهدافها السياسية قبل العسكرية، خصوصا أن حرب سوريا تبدو مرشحة للاستمرار إلى ما بعد حرب العراق. إنجازات دول التحالف في معركة عين العرب في سوريا ونجاحها في وقف تقدم ”الداعشيين” إلى داخل المناطق التي تقطنها غالبية شيعية أو كردية، أظهرت أهمية مشاركة قوى محلية راجلة في مواجهة ميليشيات ”داعش” ودحرها... واستطرادا أهمية العمل بجدية على تنفيذ اقتراح واشنطن - الخجول حتى الآن - تدريب وتسليح ”الجيش السوري الحر”، علما بأن دول التحالف لن تجد، خارج المنطقة الكردية، قوة محلية مستعدة للتحالف معها دون أفق سياسي واضح لهذا التحالف. هذا الاقتراح يتخذ اليوم أهمية متزايدة على ضوء معطيين رئيسيين؛ أولهما الواقع الديموغرافي للمنطقة التي يسيطر عليها ”داعش” في سوريا والتي تشكل بأكثريتها السنية بيئة ”متقبلة” - ولا نقول حاضنة - ل”داعش” بحكم معاناتها من ديكتاتورية نظام الرئيس بشار الأسد، وثانيها اضطرار ”داعش”، في حال استمرار تقهقره في العراق، إلى تحصين موقعه العسكري في سوريا واعتماد ”بلاد الشام” القاعدة الرئيسة لنظام ”الخلافة الإسلامية”. وقد تكون حرب الإرهاب النفسية التي يشنها ”داعش” على شعوب المنطقة انطلاقا من قاعدتها السورية (عبر تعميم مشاهد قطع الأعناق وحرق الأسرى) دليلا أوليا على الأهمية الدعائية التي توليها لدور نظام ”الخلافة” في سوريا. ربما كان الإنجاز العسكري الأبرز الذي حققته دول التحالف حتى اليوم هو إطاحتها بهالة ”القوة التي لا تقهر” التي غرسها ”داعش” في الأذهان عقب سيطرته السريعة على الأنبار والموصل في العراق بالتزامن مع احتلاله لشرق سوريا. وهذا الإنجاز يعززه مكسب آخر يتمثل في منع ”داعش” من تحقيق المزيد من التوسع الجغرافي سواء في سوريا أم في العراق. هذا الإنجاز، على تواضعه بالمفاهيم العسكرية، يعتبر كافيا لإقناع دول التحالف بتنسيق مواقفها السياسية البعيدة الأمد، ليس تجاه سوريا فحسب، بل تجاه المنطقة ككل في وقت تبدو فيه خريطة ”سايكس بيكو” مرشحة للانهيار، إن لم تكن قد انهارت بالفعل. وإذا كان من الصعب الادعاء بأن إدارة الرئيس باراك أوباما خططت لإيصال المنطقة إلى خيار جغرافي وسياسي مصيري، فذلك لا يحول دون ملاحظة أن إدارة الرئيس الجمهوري السابق، جورج بوش، خططت ل”شرق أوسط جديد” وإدارة الرئيس الديمقراطي، باراك أوباما، أوجدت، من حيث لم تشأ، الظروف المواتية لقيامه. إلا أن الفارق الأبرز بين ”الشرقين الجديدين” أن الأول كان معدا لأن يكون مفروضا من فوق - ومن الخارج تحديدا - فيما جذور الثاني تعود إلى الداخل، أي إلى مجتمع شرق أوسطي ثار على الأنظمة الأوتوقراطية وحاول استعادة حرياته السليبة. أوليس ذلك كافيا لتأكيد أهمية العودة إلى أولوية تحرير سوريا من الديكتاتوريتين - التكفيرية والعسكرية - الرابضتين على كاهل شعبها؟