* المبعوث الأممي إلى ليبيا ارتكب خطأ مهنياً بالتواصل مع مشغليه الجدد قبل انتهاء مهمته * مسببات وجود ”داعش” هي الغزو الأمريكي للعراق والفهم المغلوط والمشوه للممارسات الدينية يقدم بلغة دقيقة المفكر السوري سلام الكواكبي، حفيد الإصلاحي عبد الرحمن الكواكبي، صاحب كتاب ”طبائع الاستبداد”، أسباب استمرارية المؤسسة الرسمية في الجزائر رغم المراحل الصعبة التي مرت بها، معرجا في حوار مع ”الفجر” من إقامته بفرنسا، على الرئيس الروسي الذي يكون بصدد البحث عن كل الوسائل للعودة بقوة إلى منطقة المغرب العربي، وبتشخيص لشبح الفوضى في سوريا يقدم الكواكبي الذي يشغل منصب نائب مدير مبادرة الإصلاح العربي، مصطلح ”المقتلة السورية” التي حصدت آلاف القتلى والمهجرين في ظرف خمس سنوات. هل تتفقون مع من وصف الجزائر ب”بلد الفرص الضائعة” بعد أن ضلت الطريق منذ أكتوبر 1988 تاريخ ”الثورة الشعبية”؟ سلام الكواكبي: من الصعب جداً التحدث في الشأن الجزائري على غير الجزائريين، فالحساسية عالية تجاه هذا الأمر، ولكنني إن تملكت الجرأة لأدلي بدلوي كإنسان عادي ومهتم ومُحبّ، فيمكنني أن أقول بأن تسمية الفرص الضائعة تصح على مجمل بلدان المنطقة، وإن بحثت عن تأريخ للموضوع الجزائري، فأنا أعتقد بأن الفرص الضائعة بدأت من يوم انتصرت الثورة الجزائرية المجيدة وأخرجت المستعمر الفرنسي، وتوالت الفرص سياسياً واقتصادياً، وتراكمت الأسباب المحلية والإقليمية في ضياعها. أما تاريخ 1988، فإن لم يتم التوافق الوطني على اعتباره مفصلياً في مسار التطورات الجارية، فلا يمكن أن يكون مؤشرا وحيدا. هل يمكن أن نرى تغيرات كبرى في الجزائر على ضوء تجدد الحديث عن أولوية حكم السياسي على العسكري في البلاد، وبعد التغييرات التي أجراها رئيس الجمهورية على أجهزة الأمن؟ لم تتوضح الصورة بعد، والحديث عن أولويات سابق لأوانه. وأعتقد بأن المؤسسة الرسمية تحمل في بنيتها تنسيقاً عسكرياً وسياسياً وأمنياً، وهذا سر استمراريتها وتجاوزها لمختلف المراحل الصعبة والأقل صعوبة. أما الأسماء، فهي أمر ثانوي في عرف الأنظمة العربية، فلقد أثبتت التجربة في كثير من الدول بأنه مهما تركّز الحديث عن اسم بعينه أو الإشارة إلى سلطة وسطوة اسم محدد، فمن البديهي أن يتم التعامل معه بشحطة قلم، فبنية النظام المعقدة لا يمكن أن تسمح بنشوء مراكز قوى إلا من الناحية الشكلية. هل أفقد النموذجين السوري والليبي شهية الجزائريين في الاستجابة لنداء التغيير السياسي؟ ليس فقط، بل وأيضا الثورة المضادة في مصر وعودة حكم العسكر فيها بأقسى صوره وفشل المشروع الديمقراطي وسوء البديل وتبرئة فلول النظام السابق والممارسات القمعية التي تبرز مثيلتها في زمن حسني مبارك. لكن بالتأكيد، فإن المنحى الدموي الذي يراقبه الجزائريون بقلق، وهم الذين عرفوا العشرية السوداء، يجعل من أي تفكير بالتغيير، ولو التدريجي، مجالا حذرا ويصل الأمر إلى تفاديه. ليبيا اليوم تمر بتجربة تقريبا مشابهة، كيف تتوقعون حل الأزمة؟ التوقعات في هذا الملف صعبة، فالفرقاء الإقليميون لهم دور أساسي، وأما الفرقاء المحليون فهم لم يتوصلوا بعد إلى صيغة تفاهم خصوصا بعد انتشار إمارات الحرب وما تجلبه من منافع سلطوية ومادية يصعب التخلي عنها. تبسيط الأمور بصراع بين أصحاب مشاريع مختلفة للمستقبل ورؤى متناقضة للمصير يزيد من تعقيد فرص الوصول إلى حل. المفاوضات تستمر والمعارك أيضا، والتدخلات والاستقطابات والتأثيرات، كل هذا، يدفع ببعض مؤيدي الثورات المضادة إلى الترحم على الاستقرار المزعوم الذي كان سائداً في ظل حكم الاستبداد السابق. ولكن ماذا تتوقع من فعل سياسي لمجموعات بشرية عاشت لعقود طويلة تحت نير الطغيان المحلي والحرمان من كل سبل التعبير والتنظيم والأداء؟ وهل بقي دور لمنظمة الأممالمتحدة في حل الأزمات على خلفية اتهام المبعوث الأممي إلى ليبيا برناردينو ليون بالانحياز إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وتفاوضه على منصب دبلوماسي خلال فترة ولايته للبعثة الأممية؟ بمعزل عن كل الاتهامات، فالمبعوث الدولي ذو باع وخبرة، وربما ارتكب خطأ مهنيا بالتواصل مع مشغليه الجدد قبل انتهاء مهمته. والمنصب الذي تفاوض عليه له علاقة بإدارة مؤسسة تعليمية وبحثية في الإمارات العربية المتحدة. كان الأجدر بأن ترافق هذه المفاوضات الشفافية المطلوبة لتفادي الحرج. بالمقابل، فمن الملاحظ بأن الأممالمتحدة، رغم فشلها في إدارة عديد من الملفات، فقد نجحت نسبيا في جمع الفرقاء على طاولة الحوار، بمساعدة دولية بالطبع. هل للتحركات الأمريكية الروسية غير المسبوقة في المغرب العربي التي بدأت ملامحها منذ أسابيع، علاقة بالتحضير لمرحلة جديدة في ليبيا؟ لا أعتقد بأن أميركا في وارد تعزيز أي تواجد لها في المنطقة بالمعنى المباشر، ويدخل هذا الاعتقاد في سياق الفهم المعمّق لطبيعة النظرة الأوبامية للعلاقات الخارجية وإدارتها وتوجهاتها الدولية. على العكس، فقد أثبتت الوقائع بأن بوتين في صدد البحث عن كل الوسائل للعودة بقوة إلى المنطقة. أما موضوع المساعدات العسكرية، فهو أضحى روتيناً يمكن أن يتوافق أحياناً ويتعارض في أحيان أخرى، ولا أرى صراعا أميركيا روسيا واضح المعالم، الأهداف مختلفة والقدرات متفاوتة. فتحمّل أميركا، وخلال سنوات، لتكاليف احتلالها للعراق وتواجدها العسكري في أفغانستان، لا يمكن أن يجاريه تحمل الروس لتواجدهم العسكري في سوريا لمدة تزيد عن ثلاثة أشهر اقتصاديا على الأقل. وأتمنى أن يكون الهم المشترك في أولويات دول المنطقة بمعزل عن أية تدخلات خارجية. أدلى مؤخرا مديرا الاستخبارات الفرنسية والأميركية بتصريحات قاتمة حول مستقبل منطقة الشرق الأوسط، وما ينتظرها من أحداث على خلفية الصراعات المشتعلة في سوريا والعراق واليمن وليبيا. وقالا إن ”الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة”، هل العالم العربي أمام حالة تشكل جديدة سيكون التقسيم سبيلها لا محالة؟ تصريحات رجال المخابرات تكون دائماً تحذيرية وتخويفية ولهذا علاقة بتوجهاتهم المهنية وانتمائهم الغالب إلى التيارات المحافظة. وبالتالي لا يمكن اعتبارهم محللين سياسيين واقعيين. بالمقابل، فمن يمكن له أن يعتبر بأن الشرق الأوسط كان واضح المعالم منذ عقود؟ هو في طور إعادة تشكل مستمرة وعنيفة ومؤلمة. لم تنجح الدولة الأمة في حماية تموضعها بسبب غلبة عنصر الاستبداد على عقل الحكام الذين توالوا على أمرها منذ الاستقلال في مشرق المنطقة ومغربها، بنسب متفاوتة طبعا. التقسيم قائم وبمساعدة خارجية وتواطؤ داخلي. فالقادة الذين عملوا على استعمال الطائفية والمذهبية والمناطقية والعشائرية ليحفظوا سلطتهم، ساهموا بشكل مباشر في توطين مفهوم التقسيم المجتمعي الذي لا غرابة في أن يتحول إلى جغرافي. اضطهاد فكرة التنوع وسوء إدارتها من قبلهم أدى أيضا إلى أن بعض المجموعات سعت وتسعى إلى الانفصال عن الدولة الوطن لتأسيس الدولة الاثنية. يجب أن ننظر إلى العوامل الداخلية قبل أن نلوم العوامل الخارجية التي من الطبيعي أن تلام. في الحالة السورية وصف بشار الأسد تعامل الغرب مع اللاجئين ”بأنهم (الغربيون) يبكون على اللاجئين بعين بينما يصوبون عليهم رشاشاً بالعين الأخرى”. هل الغرب تورط فعلا في هذه الحرب؟ أعتقد بأن آخر من يحق له أن يتهم الغرب في مسألة اللجوء هو من يمكن اعتباره المسؤول الأول عن تفاقم الظاهرة. فعندما يختار مسؤول، أياً كان، الحل الأمني والعسكري لإسكات أصوات الاحتجاجات التي بدأت سلمية قبل تفاقم عسكرتها، يصبح ترصّد أسباب الهجرة أمراً بديهي المسؤولية. وفي استطلاع رأي حيادي أجرته مؤسسة ألمانية متخصصة في أوساط السوريين اللاجئين إلى ألمانيا، ذكر 9 من 10 ممن تم استطلاع آراءهم، بأنهم هربوا من براميل المتفجرات التي تلقيها طائرات النظام. إدارة مسألة الهجرة في الغرب لها ما لها وعليها ما عليها. وتدخل الغرب في الحرب السورية كان ولم يزل محدوداً للغاية. ولو أنه قد تم فعلا بقوة وبفاعلية، لتثبيت خطوط السلام والهدنات على الأقل، لما وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. نعم، الغرب يُلام بشدة لنفاقه في الإدعاء بمساعدة الشعب السوري للوصول إلى حل سياسي سلمي والتخلص من الاستبداد السياسي ومن التطرف الديني، في حين صدق الروس في مساعدتهم للنظام وهم الآن يساهمون في إزهاق أرواح المئات من المدنيين. فمنذ بداية التدخل الروسي المباشر، أي منذ 30 سبتمبر الماضي، تم تسجيل أكثر من 120 ألف لاجئ جديد من المناطق التي يقصفها الروس والتي غالبا ما تكون بعيدة عن مناطق تواجد إرهابيي داعش. ألا ترون أنه لو لم يدخل الإرهابيون على الخط، وانحصرت المعادلة بين موالين للأسد ومعارضين له، لكان نظام الأسد سقط منذ فترة طويلة، أليس كذلك؟ نظرية المؤامرة محبوبة في الشرق. فالنظام يتهم الغرب بإيجادهم، وبعض السوريين يتهم النظام بنفس الأمر. داعش لم يوجدها شخص أو دولة، إنما هي نتاج لتقاطع عدة عوامل لا مجال لتطوير البحث فيها في هذه العجالة. ومن أهم مسببات وجودها، الغزو الأميركي للعراق في 2003 ووجود الأرضية الظلامية في الفهم المغلوط والمشوه وفي الممارسات الدينية لدى فئات عديدة لم يلمسها التنوير الذي قام به رجال دين مستنيرون. استغلت الأنظمة التطرف للسيطرة على بعض المراحل في إدارة الشعوب، ولكنها في كثير من الأحيان وقعت ضحية ردود الفعل للوحش الذي هادنته. الظلامية تمت رعايتها بإرادات رسمية لإبعاد الفكر الحر والنقدي عن المجال العام. في هذه الغابة الشاسعة ومعقدة التضاريس من العوامل، يمكن بالتأكيد لكل أجهزة المخابرات، مهما تناقضت في أهدافها، أن تجد لها مرتعاً خصباً. إن وجود التطرف في المشهد السوري لأسباب متعددة، أوجد الحجة المناسبة لاستمرار المقتلة، فالتطرف هو حليف موضوعي للاستبداد، وحتى أن المحتل الاسرائيلي يسعى لتوظيف التطرف لتبرير ممارساته العنصرية والتوسعية. هل توجد حسب رأيكم وسيلة لوقف هذه الحرب التي استمرت أزيد من أربع سنوات، دون الدخول في موضوع دعم الأسد؟ يجب الإصرار على وجود الوسيلة أو السعي إلى إيجادها. من غير المعقول أن تستمر هذه ”المقتلة” التي خلفت حتى الآن مئات الآلاف من القتلى ومثلهم من الجرحى والمفقودين. هناك أكثر من 10 ملايين سوري بين لاجئ ومهجّر. البنى التحتية دُمِّرت وتحتاج سوريا لمعجزة في عملية إعادة الإعمار. من مسؤولية كل الناس السعي لوقف سيلان الدماء، ولا يتم هذا إلا بمعالجة الأسباب التي أوصلت إلى هذه الحال. يمكن للمقتلة أن تقف بأيدي من قاموا بها مرحليا، ولكن لا يمكن للسلام أن يعمّ باستمرار من قام بالحرب وكأن شيئاً لم يكن. مدير مؤسسة فشل في إدارتها يستقيل في أفضل الأحوال، فما بالك بدولة تم تدميرها بشراً وحجراً؟ أعتقد بأنه من واجب القوى الإقليمية والدولية التي استغلت المشهد السوري للقيام بمواجهات مباشرة أو غير مباشرة فيما بينها، أن تتحلّى بمسؤولية ولو محدودة وتقرر وقف المقتلة السورية بعد مرور خمس سنوات على عبثيتها.
من هو سلام الكواكبي سلام الكواكبي، أكاديمي وباحث سوري في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حاصل على إجازات جامعية عليا في الاقتصاد والعلاقات الدولية من جامعة حلب، وفي العلوم السياسية من معهد العلوم السياسية ”إكس أون بروفانس” في فرنسا. عمل بمعهد الأبحاث حول العالم العربي والعالم الإسلامي في الجامعة الفرنسية نفسها. ثم شغل مركز المسؤول عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في حلب، ويشغل حاليا مدير أبحاث في مبادرة الإصلاح العربي.