عندها قدم له الوالي العام جريدة الحرية وعليها صورة بن ڤانة وقال له: لقد طلب مني الشيوعيون عزلك ومعاقبتك على ما ارتكبته من جرائم، وتريد مني أن أعاقبهم على جرائم ارتكبتها أنت؟ ألا يوبخك ضميرك على احتكارك قوت الشعب وبيعه بالسوق السوداء، وألا تستحي من تهديدي باستقالتك وأتباعك من القياد، إن فرنسا وضعت ثقتها بك وقلدتك لقب الشيخ العرب، غير أنك خيبت بأعمالك هذه تلك الثقة بتعديك على القوانين وعلى شعبك الذي كاد يهلك جوعا وأنت تبيعه حبوبا بالسوق السوداء بأسعار لامثيل لها ولا عهد له بها من قبل، لا شك أنك لست بعربي ولا مسلم، لأن هذه الطريقة التي اخترتها لنفسك قد حشرتك في زمرة المختلسين، مع أنك من أكبر الأغنياء في المنطقة وتريد مني مساندتك لأصبح من زمرتك، إنني فرنسي حر أحافظ على شرفي وشرف حكومتي (2). إنني لا أريد منذ اليوم مشاهدتك في مكتبي هذا، وما عليك إلا أن تعود من حيث أتيت أنت وأصدقاؤك الذين أتيت بهم لتهديدي باستقالتكم، فخرج وأصدقاؤه مذمومين مخذولين دون أن ينبس ببنت شفة ودخل منزله في بسكرة، ولم يخرج منه إلا بعد أسبوع محمولا إلى مثواه الأخير، وهكذا قضى بطغيانه وأطماعه على نفسه، أما أنا الفلاح الفقير فقد أبقاني الله حيا طاهر السريرة نقي الضمير حتى استقلت الجزائر، وقد شاهدت بفضل الثورة الزراعية أملاك بن ڤانة توزع على الفلاحين.. وهذه هي نهاية الظلم والظالمين، كما جاء في الآية الكريمة “وسيعلم الذين ظلموا أي مُنقلب ينقلبون” مع صغار الفلاحين ثانية بعد وفاة فرعون العرب، بن ڤانة، كلفني الحزب بالتوجه إلى التراب العسكري لتنظيم نقابات صغار الفلاحين هناك، وكان عملي هذا يعتبر آنذاك مغامرة لكن حزبنا عودنا على القيام بمثل هذه المغامرات، وقبل سفري وجهت رسالة إلى الكمندان العسكري بتوڤرت، أعلمه فيها الغرض من مجيئي، وعددت له الأماكن التي سأزورها في واد ريغ. سافرت في البدء إلى بلدة المهدية وهناك وجدت الفلاحين في انتظاري، كما وجدت القبطان العسكري، صحبة ترجمان، عندها، توجهت نحو الرفاق متسائلا: هل هذا الإجتماع أعد لي أم للقبطان؟ فأجابوا أننا أعددناه لك وليس للقبطان، مع أنني أدركت لأول وهلة الهدف من مجيء القبطان وترجمانه، وهو تبليغ الكمندان العسكري بتوڤرت بفحوى خطابي، ثم تقدمت نحوهما وطلبت منهما الجلوس، فجلسا بعدما صافحني ثم توجهت نحو رئاسة الإجتماع، حيث قدمني رئيس الإجتماع للحاضرين وأُعطيت لي الكلمة. بدأت كلمتي بتحية الحاضرين وبشكرهم على ما أبدوه من جرأة وإيمان بعدالة قضيتهم أمام حاكمهم، ثم أردفت قائلا: وأشكركم أيضا عى ما أبديتموه من حفاوة في مقابلتي وأعتبرها حفاوة بحزبي الشيوعي الجزائري، وإنني مسرور جدا بوجود السيد القبطان وترجمانه اللذين أتيا للإستماع إلى كلمتي هذه، وأعتبر وجودهما تجنبا لأقوال الوشاة الذين يقلبون الحقائق طمعا في المناصب ولاستدرار الأموال فيزعمون أن تنظيم الشيوعيين للفلاحين لا من أجل الدفاع عن حقوقهم ومقاومة الإستغلال والنهب الإستعماري والإقطاعي الرجعي، بل لتسليحهم للقيام بالثورة فورا ضد السلطات الفرنسية. حقا إننا نريد تنظيم الفلاحين الصغار للدفاع في هذه المرحلة الحاضرة عن أبسط حقوقهم وانتزاع مطالبهم العادلة، وها أنا أخاطبكم اليوم أمام السيد القبطان لأشرح لكم المهمة التي كلفني حزبي للقيام بها لمساعدتكم ألا وهي تنظيم صفوفكم أولا وقبل كل شيء، لأن بدونه لن تنالوا شيئا من مطالبكم العادلة، ولن تستطيعوا مقاومة الإستغلال والإضطهاد النازل بكم. لقد بلغنا أن قائد هذه الناحية لم يوزع عليكم حقكم في التموين حسب القانون، وعليه فقد كلفت بإعلامكم أمام القبطان وباستطاعته الإجابة على أقوالي بعد انتهاء كلمتي، إن لكل واحد منكم الحق في 7 كلغ في الشهر من القمح أو الدقيق وكلغ واحد من السكر ونصف رطل من القهوة ونصف لتر من الزيت وأربعة أمتار من القماش لكل ستة أشهر، هذا ما عدا الصابون. وقد بلغنا أيضا أنهم يسخرونكم ودوابكم لخدمتهم لتعبيد الطرقات دون أجر، كما يسخركم الڤياد وأعوانهم في خدمة بساتينهم دون أي أجر أيضا، اعلموا أن القانون يحرم ويمنع مثل هذه التصرفات الجائرة، وعليه يجب عليكم منذ اليوم أن لا تعملوا دون أجر لا أنتم ولا بغالكم وجمالكم، وقوموا كرجل واحد في وجه هذه التصرفات الخارجة عن القانون والعرف، وها أنا أكلف باسم نقابة صغار الفلاحين، المسؤول النقابي الذين ستنتخبونه أنتم بأنفسكم حسب الطرق الديمقراطية، بالدفاع عن مصالحكم أمام الحاكم والشيوخ والڤياد، فإن لم يمتثلوا لحقوقكم وتمردوا على القانون فأخبرونا ونحن نأتيكم على جناح السرعة ونذهب معكم إلى كمندان هذه الناحية للدفاع عن حقوقكم المقدسة. غير أني أوصيكم باجتناب الفوضى والتقيد بنظام النقابة والتآخي فيما بينكم وبين غيركم من الفلاحين، وانزعوا الخوف من نفوسكم، ولا تعتدوا على حق أحد، ولا تدعوا أحدا يعتدي على حقوقكم، واحترموا من احترم حقكم، فإذا سلكتم هذه الطريقة فإنكم ولا شك ناجحون، وتتمكنون من رفع هذا الحيف والظلم المسلط على رؤوسكم ولاسيما من جانب بعض الحكام والڤياد، وأخيرا أشكركم على حسن إصغائكم. طلبت من السيد القبطان إذا كانت لديه بعض الأسئلة أو الملاحظات على أقوالي هذه فليتفضل، عندما وقف القبطان وقال “لدي سؤال بسيط واحد وهو: أهذا هو نفس الخطاب الذي ستلقيه أينما حللت في واد ريغ؟ نعم أجبته يسرني لقاؤك في أي مكان أزوره، أجاب كلا إنني كلفت بالمجيء إلى هذا المكان لا غير، ثم توجهت للحاضرين بنفس السؤال، فأجاب أحدم: إنهم لا يعطونا من التموين سوى 4 كلغ من القمح أو الشعير في الشهر، أما السكر والقماش والزيت، والقهوة فلم نأخذ منها شيئا. وقال آخر إن أكثرية أولادنا ونسائنا لا يجدون ما يسترون به، وإذا أراد سيادة القبطان التأكد من صحة أقوالي فليذهب معي وليشاهد بعينه هذه الحقيقة، عندها توجهت نحو القبطان وقلت له: لقد سمعت من أفواه هؤلاء الفلاحين ما يحل بهم من حرمان وعدوان على حقوقهم، وأنا ما شرحته في هذا الموضوع ليس اختلافا، بل هو الحقيقة المرة التي يعيشها مع الأسف الشديد هؤلاء الفلاحون، وعليه فالمرجو منك إعلام الكمندان بهذه الحقائق، أما من ناحيتي قلت له فسأشرح أمامه كل ما سمعته من أفواه هؤلاء العمال والفلاحين، ثم رفعت الجلسة وذهب القبطان وترجمانه في سبيلهما. عاتبني البعض من الفلاحين لعرض الجلوس على القبطان وترجمانه، وقالوا لماذا لم تتركهما وقوفا، نعم قلت لهم، إن القبطان يمثل الإستعمار الفرنسي في بلادنا، وهو عدو لنا ولشعبنا، ولكن ليس من اللياقة في مثل هذه الظروف إلا أن أعرض عليهما الجلوس، ونحن عندما نضطر للذهاب إليهم يعرضون علينا الجلوس في مكاتبهم مع أنهم يعرفون أننا أعداء لهم ولدولتهم، وسترون حقيقة هذا القول عندما نذهب سوية لمقابلة الكومندان في توڤورت. توجهت فيم بعد بنفس المهمة إلى قرية آنسيغة، المغير سيدي خليل، أم الطيور، عفيان، جامعة، وغلانة والزاوية، تڤديدين، تماسين وتمرنة ثم توقورت، وتم تأسيس مختلف الفروع النقابية لنقابة صغار الفلاحين في هذه القرى، ما عدا قرية تمرنة، أين منعني شيخها من إلقاء كلمتي ولما طلبت منه أسباب هذا المنع، أجاب: أن القائد مصرلي بن ڤانة هو الذي أمرني بعد السماح للشباح مكي بالكلام، حذرت الشيخ من سوء موقفه هذا وقلت له بأنني سأذهب إلى الكومندان في توڤورت وسأعلمه بهذا المنع غير الشرعي، غير أن الرفاق هناك أصروا على القيام بالإجتماع رغم أنف الشيخ، فأجبتهم: يعتبر هذا المنع في نظرنا استفزازا من طرفه ولاسيما هؤلاء القياد والشيوخ اليائسين، وعليه ينبغي الانجار بهم في أعمالهم الإستفزازية لكي لا نعطيهم سلاحا لضرب منظماتكم الجديدة التي يرون فيها نهاية نهبهم واستغلالهم وطغيانهم، وسأعود إليكم في القريب العاجل إن شاء الله للقيام بالإجتماع وبتنظيم نقاباتكم، وغاية ما أطلبه منكم هو أن يأتي البعض منكم بصحبتي إلى توڤرت لإعلام الكمندان بهذا المنع، وسترون ما سيحل بالقائد أمام الكمندان وأمامكم. وصلت صحبة الوفد إلى توڤورت وطلبت باسمه مقابلة الكمندان، الذي سمح لنا دون انتظار بمقابلته، وبعد التحية طلب ما نريده من الخدمات، فأجبته أن شيخ تمرنة قد منعنا بأمر من القائد مصرلي بن قانة من عقد اجتماعنا ومن تأسيس نقابة لصغار الفلاحين، والغرض من هذه المقابلة هو معرفة من الذي أمر بهذا المنع، هل هو أنتم أم القائد المذكور؟ فأجاب: ليس من المعقول أن أمنعكم طالما أني سمحت لكم القيام بمهمتكم، إذن - قلت له فالمرجو هو دعوة القائد المذكور للتفاهم معه أمامكم، وما هي إلا بضع دقائق حتى كان القائد أمامنا، وقد بادره الكومندان بسؤاله: أنت الذي أمرت شيخ تمرنة بمنع الشباح مكي من عقد اجتماع عام في بلدته؟ أجاب نعم، ومن الذي أمرك بهذا المنع، أضاف الكومندان، هل هو أنا؟ كلا، فسألته بدوري: هل بإمكانك أن تقول لنا من الذي يتصرف في هذه الناحية هل هو الكومندان أم أنت؟ فأجاب أنني تحت تصرف السيد الكومندان وهو الذي يتصرف في هذه الناحية. أ تدري - قلت له - أن مجرد إعطائك الأوامر لشيخ تمرنة بمنعنا من القيام باجتماعنا دون إعلام من يتصرف بك يناقض أقوالك هذه؟ وعلى الأثر تدخل الكومندان وطلب منا السماح، ثم توجه للقائد وأمره بطلب السماح من المسؤول النقابي، لأنك قال له، أفسدت عليه ما بذله من الجهود لتنظيم هذا الإجتماع، فانتصب القائد أمامي وصافحني طالبا مني العفو عما بدر منه فأجبته: نسامحك بشرط أن تكلم شيخ تمرنة هاتفيا أمامنا، أن تأمره كي يسمح لنا بعقد اجتماعنا، ففعل ذلك. عدنا في التوالي إلى قرية تمرنة ونظمنا اجتماعنا على أكمل وجه، وقد أقبل عليه الفلاحون من كل حدب وصوب، وأسسنا أخيرا فرعا لنقابة صغار الفلاحين. أخيرا قلت للرفاق الشيوعيين هناك أليس من الأفضل عقد اجتماع على هذه الصورة التي بعثت الإطمئنان والجرأة في نفوس المتمردين واليائسين، ولو عقدناه رغما عن شيخ تمرنة لما حضره مثل هذا العدد، ولتزعزعت ثقة الكثير، وعذا ذلك فإن الكثير منهم ينظر إلينا كجماعة مشوشين لا كمنظمين يعتمد عليهم في المهام وقادرين على مساعدتهم في تحقيق مطالبهم العاجلة منها والآجلة، هذه هي الطريقة المطلوبة منكم في مثل هذه الظروف اتباعها لأن المستعمرين وأعوانهم من القيادة والشيوخ ينصبون لكم المكائد، ليفسدوا عليكم تنظيمكم ويسفهون أقوالكم ويرمونكم بالتشويش والفوضى، فوصيتي لكم هي الإنتباه لهذه المكائد والتحذر منها. توجهت في اليوم التالي إلى مدينة ورڤلة صحبة الرفق مارتينز وامبيسة محمد الذي كان في انتظار لمصاحبته إلى واد سوف، وفي ورڤلة وجدنا الرفيق مراط الساسي في انتظارنا، ذهبنا سوية للقبطان كي أعلمه بعقد اجتماع عام باسم نقابة صغار الفلاحين في ورڤلة، طلب مني القبطان إذا كانت لدي رخصة للقيام بمثل هذا الإجتماع؟ ولما قدمتها له سألني: في أي مكان تريد عقد هذا الإجتماع في ساحة البلدة أجبته، كلا أجاب القبطان، وذلك لكي لا تعرقلوا سير الأعمال التجارية، الأفضل أن تعقدوه في سوق الجمعة، لا بأس أجبته. ولما خرجنا من عنده، قال الرفيق مرابط أن المكان الذي عينه لك القبطان بعيد عن المدينة، لن يحضره إلا القليل من السكان، لا بأس قلت له، فسنعيّن اثنين من المنادين يجوبون الأسواق والأحياء لإعلام السكان بموعد ومكان الاجتماع، سيحضر السكان جميعهم هذا الإجتماع الذي لم يشاهدوا له مثيلا في حياتهم، وفي الموعد المحدد أغلق التجار حوانيتهم وترك الفلاحون أعمالهم وأقبلوا لسماع الخطبة، وقد زاد عدد الحاضرين عن خمسة آلاف شخص، وترك الآباء البيض من الإرساليات التبشيرية شاركوا في الحضور وكذلك القبطان وحاشيته، الذي ظن أن السكان لن يكلفوا أنفسهم عناء المجيء لحضور هذا الإجتماع. ...يتبع