ضد "إقطاع".. الآباء البيض أيضا! المكي شباح ظاهرة نضالية على الصعيدين السياسي والثقافي، كان مناضلا ميدانيا في الحالتين: على خشبة المسرح، ومن خلال مواجهة جبروت الحكام الفرنسيين من مدنيين وعسكريين وعملائهم من الإقطاع المحلي. نواصل في حلقة اليوم حديثنا عن مذكرات هذا المناضل الفذ، بالتطرق إلى النقاط التالية: سقوط ”شيخ العرب” في بسكرة متلبسا بالمضاربة في المواد الغذائية، أواخر الحرب العالمية الثانية، بفضل جرأة رفاق المكي شباح في الناحية، وعلى رأسهم موريس لبان والعيد العمراني. انتصاره أيضا على ”فابي” حاكم أريس، وعميله قايد تاجموت الذي جعل من شباح ”مارشالا، جاء لينصب نفسه حاكما للأوراس” بعد هزيمة فرنسا!. دوره الرائد في نقاب صغار الفلاحين، حيث تصدى لمختلف مظاهر الإقطاع في الجنوب، بما في ذلك ”إقطاع الآباء البيض”! ”فرعون العرب” في حالة تلبس! نقل المناضل المكي شباح معركته مع بن ڤانة إلى فرنسا، بمساعدة رفاقه في الحزب الشيوعي الجزائري، وقد حضر هناك (في غضون 1939) مؤتمرا لجمعية الإغاثة الشعبية، حيث قرأ بيانا حول قصته التي تلخص معاناة الشعب في ظل الحكم العسكري بأقاليم الجنوب، وتوج المؤتمر بتشكيل ”لجنة المكي شباح” للدفاع عن سكان هذه الأقاليم. وتمكنت اللجنة من إرسال لجنة تحقيق برلمانية للتحري في هذا الموضوع، وجاءت اللجنة فعلا إلى بسكرة واستمتعت إلى عدد من الأعيان على رأسهم الحاكم العسكري وبن ڤانة. وكشف الحاكم العسكري بالمناسبة التعسف السائد في أقاليم الجنوب، عندما أعلن أمام اللجنة أنه أرسل شباح إلى سجن أولاد جلال بدون محاكمة، بناء على هاتف من حاكم توقورت حول قضيته!. وكان بن ڤانة أسوء خطأ من حاكم بسكرة، لأنه برر فعلته في حق شباح ”بأنه شيوعي”.. وصادف أن كان صاحب السؤال من أعضاء اللجنة شيوعا! فاستغرب منه لك ونهره قائلا: يوجد بالمجلس الوطني الآن 70 نائبا شيوعيا، فما عليك إذا إلا أن تأمر بسجنهم!”. وكان من المفروض أن يستأنف شباح الحكم في قضيته مع بن ڤانة بفرنسا، لكن جاءت الحرب العالمية الثانية، فأرجأت ذلك إلى أجل غير مسمى. كانت الحرب فرصة مثالية للإقطاع بأقاليم الجنوب، كي يعيث فسادا في المضاربة بالمواد الغذائية، لاسيما الحبوب والبقول الجاف، وكان من الطبيعي أن يتفرعن بن ڤانة أكثر فأكثر، ناهيك أنه طلب من شركة السلك الحديدية تخصيص عربات لبضائعه، وكتابة اسمه عليها.. فكر رفاق شباح ببسكرةوباتنة في ضربه من نقطة المضاربة بالذات.. وقد شكلت لهذا الغرض ”خلية أزمة”، على رأسها موريس لبان (بسكرة) والمحامي العيد العمراني (باتنة).. ظلّت الخلية تراقب الوضع وتتحين الفرصة المواتية.. إلى أن تجرأ ذات يوم لبان فبادر بحجز شاحنتين لبن ڤانة محملتين بالفول والحمص، وقام بتفريغهما في مخزن الجمعية الفلاحية.. ثم اتجه إلى قائد حامية بسكرة، ليبلغه بأن بن ڤانة جعل من منزله أكبر مخزن للمواد الموجهة للسوق السوداء!. تحرك القائد بجنده نحو منزل بن ڤانة ليخرج منه كميات ضخمة من المواد التي تغذي هذه السوق، لاسيما الحبوب والأقمشة.. ثم توجه عقب ذلك إلى محطة القطار فحجز 4 عربات كانت مثقلة بمختلف الحبوب الموجهة لمخزن ”شيخ العرب”!. وقد احتفل شيوعيو بسكرة بهذا النصر على طريقتهم العاصمة: رسم صورة بن ڤانة في حلاة تلبس! وقال خطيبهم بالمناسبة ”إن شيخ العرب” يسرق قوت الشعب، ويحتكر الأقمشة.. بينما العديد من أبناء المدينة يسيرون شبه عراة أحيانا.. ومنهم من يلازم بيته مضطرا، لعدم امتلاك ما يستر عوراته.. وجاءت الضربة القاضية من الوالي العام، فقد تجرأ الباشاغا بن ڤانة على الذهاب إلى العاصمة ليشكو الحاكم العسكري والشيوعيين ببسكرة للإهانة التي ألحقواها به، ولم يكتف بذلك، بل هدد بتقديم استقالته هو ومساعديه من القياد. وكان رد الوالي العام قاسيا وأكثر إهانة، قال له باختصار ”إن الشيوعيين طلبوا مني عزلك ومعاقبتك على جرائمك وتريدني أن أعاقبهم جراء ما رتكبت؟! وقام بطرده وأصحابه ناهرا: لا أريد رؤيتك في مكتبي بعد اليوم! عاد ”شيخ العرب” من الجزائر بغمته، ولازم بيته، ليخرج منه بعد أسبوع على نعشه إلى مثواه الأخير.. أما المظلوم الفلاح الفقير المكي شباح فقد أباه الله حيا حسب قوله إلى أن استقلت الجزائر، ”ليشاهد بفضل الثورة الزراعية (1972 1974) أملاك بن ڤانة توزع على الفلاحيين”!. مكائد.. حاكم آريس.. ”المارشال”.. شباح في بداية الحرب العالمية الثانية كان المكي شباح عاملا في العاصمة بمعمل ”جوب” للتبغ.. فقام العمال بشن إضراب دفاعا عن حقوقهم، وجاء رد فعل الإدارة سريعا: تسريح شباح وعدد من رفاقه باعتبارهم ”محرضين”!. عاد العامل المطرود إلى الأوراس، حيث نزل ضيفا على أخواله بدوار أولاد عبدي، وبمجرد أن علم حاكم آريس ”فابي” بذلك، راح يحذر قياد الناحية منها باعتباره ”مشوشا”!. بعد أيام جاءه رفيق من قرية أملطان، عرض عليه الإشتراك في مشروع متاجرة بالتمور، لكن ”فابي” لم يترك له أي فرصة لإنجاز مشروع، فقد داهم ليلا مقر إقامته بحثا عن أسلحة مزعومة، وعاش بذلك فسادا بمحتويات غرفته، مبعثرا ما بها من مؤونة: قمح على دقيق وعدس على فول ويدوس الكل بأقدامه وهو يتميز غيظا! داهم الحاكم أيضا مقهى ومحلا لبيع الفول فوجد أمامه بعض الزبائن يتسلون بلعبة الورق.. فقاد الجميع إلى سجن آريس، أجبر ”فابي” صاحب المقهى ومحل الفول على الشهادة زورا، فزعم كل منهما بأن محله ملك لشباح! وهكذا أصبح متهما بأنه يملك مقهى وكان في أملطان بدون رخصة! وأكثر من ذلك أنه كان يحمل مسدسا وخنجرين (بوسعادي) عثر عليهما لدى الزبائن-! بسبب هذه التهمة الباطلة حبس في باتنة 6 أشهر بدون تحقيق، ولما مثل أمام المحكمة، حكمت عليه ب 10 أشهر سجنا وخمس سنوات نفيا. هذا التعسف أثار تعاطف مدير السجن فنحصه باستئناف الحكم بالعاصمة، لأن المحكمة هناك بمنأى عن نفوذ بن ڤانة وأعوانه! عمل بهذه النصيحة، فبرأت المحكمة ساحته فعلا، بعد إقامة 3 أشهر بسركاجي. وخوفا عليه، طلب محاميه ديرلاد إرسال ملف القضية إلى الولاية العامة، لأن بن ڤانة لن يغفر لشباح تجرؤه على مقاضاته، ويمكن أن يستعمل كل ما في وسعه لحرمانه من الحياة في وطنه، في غضون 1944 اقترح المكي شباح على قيادة الحزب الشيوعي الجزائري تأسيس نقابة لصغار الفلاحين، ويفسر هذا الإقتراح بإرادة ”إخراج النضال السياسي الثورة من المدن إلى البوادي”.. وفي إطار هذه المهمة زار موطن آبائه تاجموت رفقة ثمانية فلاحين، ليطلب معهم من القايد الصغير عدي حصتهم من المؤونة.. ترى ما كان رد فعل القايد على هذا المطلب البسيط؟ لقد أعد تقريرا لحاكم أريس فابي يقول فيه باختصار: إن المكي شباح ذهب إلى تاجموت فاتحا مصحوبا ب 60 مسلحا.. وخاطب أهله قائلا: ها هي فرنسا قد انهزمت! وها أنذا جئتكم حاكما على الأوراس برتبة مارشال!”. هذا التقرير الكاذب بعث به فورا إلى سجن الكدية بقسنطينة، ليمثل بعد حين أمام المحكمة العسكرية.. وأمام هيئة المحكمة حياه الضابط الترجمان ساخرا ”حضرة المارشال المكي شباح!” لكن المدعي عليه استطاع أمام المحكمة إقحام قايد تاجموت والشنبيط مساعده فضلا عن شهود الزور الذين استعان بهم لتوريطه.. مكث عقب ذلك بالكدية قرابة شهر، ليفجر عنه بمناسبة دخول الجيش الأحمر (السوفياتي) برلين عاصمة الرايخ الثالث (هتلر)، تحت ضغط المتظاهرين الذين طالبوا بذلك احتفالا بهذا الحدث السعيد. وفي 6 مايو 1945، حضر غداة الإفراج عنه اجتماعا لحزبه بقسنطينة، طالب خلاله بمعاقبة ”فابي” حاكم آريس أسوة بالقايد عبدي.. وبعد فترة تحقق هذا المطلب فعلا، بإبعاد الحاكم والقايد إلى ناحية عنابة. في نقابة صغار الفلاحين: مواجهة الجميع.. من ”فابي” إلى الآباء البيض! وجد المناضل المكي شباح في تنظيم صغار الفلاحين الإطار الطبيعي لنشاطه الثوري.. وفي ربيع 1945 كان هذا الإطار النقابي يخطو خطواته الأولى، بعد وضع قانونه الأساسي لدى عمالة قسنطينة، وتشكيل نواته القيادية على النحو التالي: عبد الحميد بوضياف (المسيلة) أمينا عاما. محمد بادسي (تلمسان) أمين المال. المكي شباح (باتنةبسكرة) مكلفا بالتنظيم والتوجيه. بدأ نشاطه في هذا الإطار النقابي الجديد، بجولات تحسيسية في مختلف أنحاء البلاد، واستعدادا لهذه الجولات المارطونية زار مسقط رأسه سيدي عقبة، وكانت الدعوة إلى تنظيم الجديد قد انتشرت بالناحية وهناك اتصل به أقاربه بدوار تاجموت-، يطلبون منه الإنخراط في نقابة صغار الفلاحين وشكوا إليه بالمناسبة مظالم قايد الدوار الصغير عبدي الذي يتوعد ورثة قلعة أكباش بقوله ”المليح فيكم أتبول على قطوشته (شعر رأسه)! وأرحلكم من أرضكم كل عشيرة على داب (حمار) واحد!”. وبعد أن أسس بالدوار خليتين للحزب والنقابة خطب في أهله مشجعا ومحرضا: ها نحن فتحنا أمامكم أبواب النضال الواعي الجريء فأدخلوها! لا تخشوا الطغاة المستبدين!”. ومن دوار أولاش اتصل به محمد ڤروف لنفس الغرض.. وهكذا دواليك.. وبعد وفاة الباشاغا بن ڤانة كلفه الحزب بتوسيع قاعدة النقابة في أقاليم الجنوب الخاضعة، آنذاك إلى الحكم العسكري المباشر.. وكان النجاح حليفه أينما حل، لأنه يحسن مخاطبة صغار الفلاحين، وأكثر من ذلك يأخذ بيدهم لحل مشاكلهم، علما أن أكثر هذه المشاكل كانت نتيجة التعسف، واستشراء مرض الفساد على نطاق واسع، ومن مبادراته في هذا المضمار: أ تحفيز صغار الفلاحين على طلب حصصهم من التموين ببعض المواد الغذائية كاملة.. فقايد ناحية توڤرت مثلا كان يكتفي بتوزيع 4 كلغ من القمح أو الشعير شهريا على كل أسرة.. بينما يحدد القانون هذه الحصة ب 7 كلغ من السميد، ومعها المواد التالية: 1 كلغ من السكر، 250 غ من القهوة، نصف لتر من الزيت فضلا عن الصابون و4 أمتار من القماش (مرتين في السنة). ب تنبيه المنخرطين في النقابة بأن القانون يمنع تسخير الإنسان أو دوابه.. وكان الحكام وأعوانهم قد تعودوا على تسخير الناس ودوابهم، في تعبيد الطرقات أو خدمة بساتينهم.. وقد خاطبهم شباح قائلا: ”لاتعملوا منذ الآن بدون أجر لا أنتم ولا دوابكم! ولا تقدموا الدجاج والبيض لرجال الدرك!”. ج التصدي لحاكم آريس ”فابي” وأعوانه في القضايا التالية: 1 فرض تعسفي للضرائب على المنخرطين في نقابة صغار الفلاحين.. من مشتى أكباش خاصة، كانوا يدفعون سنويا 35 ألف فرنك، فأصبحت مضاعفة بدون مبرر، أي 70 زلفا وبلغ الأمر عاملا قسنطينة، فأمر بتشكيل لجنة تحقيق تمكنت من إعادة الأمور إلى ماكانت عليه، بوضع حد لهذا التعسف. 2 قيام أعوان الحاكم باستعمال الكيل بدل الميزان في توزيع المؤونة، ما يسمح بالتلاعب في مقدار الكميات الموزعة، وقد طرح الموضوع على السيد ”فابي” فقبل إسناد مهمة التوزيع إلى عضوين في النقابة بدل أعوانه المشكوك فيهم. 3 قتل سائق بلدية آريس بغلة أحد المواطنين، مع رفض استقابله لتقديم شكايته أو تعويضه، وقد استعاد هذا المواطن حقه، بفضل تدخل المناضل شباح لدى الحاكم ”فابي”. ب التصدي للآباء البيض في ورڤلة خاصة، حيث أصحبوا من كبار المزارعين، ويملكون العديد من المحركات لسقي نخيلهم، عكس صغار الفلاحين من أهل البلاد!. ففي مهرجان ضخم كان الأول من نوعه، توجه شباح المسؤول النقابي إليهم بالخطاب قائلا ”إن الآباء ليسوا بحاجة إلى مزاحمة صغار الفلاحين على قوتهم اليومي! ألا يكفيهم ما يمارسون من اعتداءات على الدين الإسلامي؟! ورد البعض من أبنائنا عن دينهم، ودفعهم للكفر بالشريعة الإسلامية؟!. .. (يتبع) (*) طالع الحلقة الأولى في عدد الأربعاء الماضي (19 / 12 / 2012).