ألّفنا إثر هذا الإجتماع لجنة كنت أحد أعضائها لمقابلة والي قسنطينة، شرحت أمامه ما يقوم به الحاكم “فابي” وقائده عابدي الصغير من أعمال غير شرعية، ومنها: فرض الضرائب الباهضة على الفلاحين الذين انخرطوا في النقابة، وعليه فالمطلوب هو تكليف السيد غديرة أمين المال (خزناجي) في باتنة بتأليف لجنة تحقيق يشترك فيها ممثلون عنكم والذهاب صحبة الحاكم “فابي” للدوار المذكور للتحقيق في تلك الضرائب المفروض، فإن وجدوها مزورة وجب إدانة المزورين وإبعادهم عن الأوراس، وإن وجدوا الفلاحين يكذبون فإننا سوف نتحمل نحن كافة مصاريف هاته اللجنة. لبى الوالي في الحال طلبنا والتقينا في الدوار مع أعضاء اللجنة المذكورة، طرحت منذ اللحظة الأولى على القائد السؤال التالي: كم يملك طهراوي حاج مصطفى من المواشي؟ فأجاب أنه يملك عشرة بغال و500 رأس من الماعز و550 نعجة، فأجبته أنه لا يملك سوى 3 بغال و250 رأس من الماعز و 50 نعجة، وعليه أطلب من القائد وجماعته أن يعيدوا حساب الماشية، فإن وجدوا أكثر من هذا العدد وجبت مصادته لحساب الحكومة، فلما عاد القائد سأله رئيس اللجنة عن العدد الصحيح فأجاب: أن ما قدمه الشباح من العدد هو صحيح، فقال الحاكم “فابي”“ لماذا تكذب علي وعلى مدير الضرائب السيد غديرة، كم يدفع مشتة أكباش عادة من الضرائب في العام، فأجاب أنه يدفع 35 ألف، ثم أضفت وكم أرسل لك القائد هذا العام من الضرائب؟ - أجاب 70 ألف، وأنت ماذا تقول، أجبته هل يقدر هذا المشتة الذي يعد أفقر مشتة في الأوراس على دفع مثل هذا المبلغ من الضرائب؟ مع العلم أن لك ثلاثون سنة في منصبك هذا، فأجاب أجل إنه مبلغ غير معقول ومبالغ فيه، ثم أردفت بقولي: الرجاء رفع هذا التقرير للوالي حسب الإتفاق الذي تم بينه وبين وفقد قسنطينة حول مصاريف هاته اللجنة، والتي يجب أن يقوم المزورون بدفعها، وعليه فإن الحاكم والقائد هم الذين حسب الإتفاق يقومون بدفع هذه المصاريف. التفت الحاكم “فابي” للقائد وقال له: أنت الذي ستتحمل مصاريف هاته اللجنة، وأضاف سائلا هل أعددت طعام الغذاء للجنة؟ فأجابه إنكم ضيوفنا اليوم والغذاء قد أعددناه لكم جميعا ماعدا القائد، لأن طعامنا محرم عليه، فأجاب القائد كيف يكون هذا الإستثناء وأنتم أناس مشهورون في الأوراس بكرمكم، وأضاف لماذا تحرمون القائد من هذا الكرم؟ عندها، توجهت للجماعة وقلت “اسمحولي أن أتلو عليكم ما قاله الشاعر العربي: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا إن هذا القائد يا حضرات الأفاضل من المفترين، ومن افترى علينا كما تعلمون ناسبا إلينا أقوالا وتهما ما أنزل الله بها من سلطان، وقد شاهدتم اليوم ما فعل بهؤلاء الفلاحين الذين سلط عليهم أشد الضرائب إجحافا، وعليه ليست لنا به بعد اليوم أي ثقة ولن نعامله كقائد عندنا إلا إذا احترمنا واحترم القانون، وسنحترمه إذا - كما قلت - احترمنا، هيا بنا لنتناول طعام الغذاء، فقاموا وبقي القائد وجماعته في أمكنتهم منبوذين مهانين، وأخيرا تناولوا طعام الغذاء عندما التفت إلى القائد وقال: سوف لن أتكلف بتعداد الضرائب في مشتة أكباش، وعلى ممثلي النقابة القيام بهذه المهمة، بالإتفاق مباشرة مع دايرة الضرائب في باتنة، وعاد أعضاء اللجنة أدراجهم. عقاب بن ڤانة كان المدعو شيخ العرب بن ڤانة، وكنت أدعوه “فرعون العرب”، يحتكر الحبوب خلال الحرب العالمية الثانية ويبيعها في السوق السوداء، وزيادة على ذلك كان يشتري القمح من كبار المعمرين بسعر أربعة آلاف للقنطار، ويبيعها للشعب الجائع آنذاك بسعر ستة عشر آلاف فرنك للقنطار، وكان الحاكم والقيادة يقلدونه ببيعهم أقساط التموين المخصص للشعب الذي لا يصله منها سوى القليل، وما بقي منها يباع في السوق السوداء على أيدي السماسرة والعملاء. وكان بن ڤانة يأمر بكتابة اسمه على عربات السكة الحديدية المشحونة بالحبوب لحسابه لكي لا يتجرأ أحد على التعرض لها أو مراقبتها، وكنا نحن الشيوعيين نكافح خلال تلك المرحلة من أجل تلبية حاجة الجماهير من التموين، ونترصد المحتكرين لقوت الشعب، ومنهم بن ڤانة، كنا نخبر بعضنا بعضا بأمر تلك العربات المشحونة بالحبوب لمراقبتها في كل محطة، وذات يوم وصلت سيارتان مشحونتان بالفول والحمص باسم بن ڤانة فتلقاهما رفيقنا موريس لابان (4) وكان عضو ا في مجلس بلدية بسكرة واستفاقهما إلى مقر جمعية الفلاحة لأسباب حيث أفرغ حمولتها، وكان عمله هذا آنذاك مجازفة كبرى. ذهب رفيقنا بعد هذا الحادث إلى مركز الشرطة وطلب من الكوميسار مصاحبته لتفيش مخازن بن ڤانة، التي تباع فيها الحبوب بأسعار السوق السوداء، فرفض الكوميسار السير معه خوفا على منصبه، فتركه الرفيق موريس لابان وذهب في الحال للكثة العسكرية، وطلب من الكومندان مصاحبته للكشف على أضخم مركز للسوق السوداء في مدينة بسكرة، وكان بين الكومندان وبين بن ڤانة عدواة شخصية قديمة، فأمر الكومندان في الحين بدق ناقوس النفير، وما هي إلا بضع دقائق حتى اصطف مائة جندي من السنيغاليين بأسلحتهم، ثم ذهبوا في البدء إلى مركز الشرطة وأمر الكوميسار بالسير صحبته إلى منزل بن ڤانة. دخل في البدء الكوميسار بعد الإستئذان وأعلم بن ڤانة بأنه مأمور بتفتيش المنزل لوجود حبوب فيه تباع بأسعار السوق السوداء، ذهل بن قانة لهول الخبر، نظر بعنف للكوميسار قائلا: أتجرؤ على تفتيش منزلي واتهامي ببيع الحبوب بأسعار السوق السوداء، فأجابه الكوميسار عفوا يا سيدي إنني لست وحدي، وطلب منه الخروج معه لرؤية الجماهير المحتشدة والقوى العسكرية المحاصرة للمنزل، فلما شاهد ذلك أمر نساءه وأولاده بإخلاء المنزل، ودخل الجند فأخرجوا من مخازنه خمسمائة قنطار من القمح فضلا عن الحبوب الأخرى والأقمشة وغيرها، شحنت كلها في سيارات عسكرية كبيرة إلى مركز لاسباب وما بقي للثكنة، ومن ثم ذهب الجميع صحبة الجنود إلى محطة السكة الحديدية، حيث وجدوا أربع عربات باسم بن ڤانة مشحونة بمختلف الحبوب فأمر الكومندان مدير المحطة بالإحتفاظ بها، وأن لا يترك أحدا يقترب منها. رسمنا في اليوم التالي على قطعة كبيرة من القماش صورة بن ڤانة بڤنورة، ويده في أحد أكياس الحبوب وأحدهم يقبض عليه متلبسا بجريمة السرقة لقوت الشعب، طفنا بتلك الصورة مدينة بسكرة في مظاهرة كبرى، تتقدمها الطبول والزرناجية والجماهير، لاسيما الأولاد يرددون على وقع الطبول الجمل التالية: بن ڤانة شيخ العرب، سارق المونة متاع الشعب، ويبيعها في السوق السوداء. وبعدما طفنا مدينة بسكرة أقمنا اجتماعا عاما خطب فيه الأمين الأول للحزب آنذاك، وقبل هذا الحادث تراهن الرفيق موريس لابان مع جماعة الدكتور سعدان على إقامة اجتماع عام في بسكرة ضد بن ڤانة، وكانت هذه الجماعة تقول باستحالة القيام بمثل هذا الإجتماع، وبالأخص ضد بن ڤانة، وبقيام الشيوعيين الجزائريين بهذا الإجتماع الهائل في قلب مدينة بسكرة فاز رفيقنا بالرهان. ومما جاء في خطاب الرفيق المسؤول آنذاك قوله، أننا نرد على أعداء الشعب “دقة، بدقة”، تعلمون أيها الإخوان أن بن ڤانة اقتاد رفيقي الشباح مكي موثوق اليدين في ذيل حصان وأرغمه على السير من بسكرة إلى أولاد جلال، حيث سجنه هناك، كلما مر بقربة يقول الدايرة للفلاحين: هكذا نفعل بالشيوعيين الذين يخرجون عن طاعة الدولة وبن ڤانة”. وكان وعدنا الرفيق الشباح بمعاقبة هذا الطاغية وغيره من الظلام على ما تقترفه أيديهم من جرائم بحث المناضلين وبحق شعبنا، والله كما ترون لم يخيب آمالنا، ففي هذا اليوم يعاقب شيخ العرب بن ڤانة الذي كنتم بالأمس تخافونه بشدية وتتقون شره، ومنكم مع الأسف من يفتخر به، وسينال من الجزاء أكثر مما نال رفيقنا على يده”، ثم قال: “أنه حكم على رفيقنا بالسجن لمجرد دفاعه عن وطنه المغتصب ومطالبته بحقوق إخوانه من الفلاحين، غير أن هذا السجن لم يحط من قدر وشرف رفيقنا بين إخوانه العمال والفلاحين بل زاده ذلك قدرا وشرفا، أما شيخكم فإنه سيحاكم اليوم أمامكم وأمام العالم أجمع لارتكابه أشنع جرائم السرقات ألا وهي سرقة قوت الشعب الجائع، الذي يسير أحيانا شبه عاريا وأن الكثير من الناس يقبعون في منازل لعدم وجود اللباس الضروري لستر عوراتهم. “إن سرقة من هذا النوع ستحط من سمعته لا لدى جماهير شعبنا وحسب، بل لدى أصدقائه وأقربائه ولدى حكومته، وتزيد في نفس الوقت في قيمة رفيقنا الشباح مكي في بسكرة، وفي بلدته سيدي عقبة التي خرج منها مرغما من ظلم هذا الطاغية الجبار وحكومته الفرنسية، وعليه فسيفتح هذا اليوم صفحة جديدة في تاريخ النضال ضد الظلم والطغيان الإستعماري الإقطاعي الرجعي في بلادنا، وسيزيد في سمعة الشباح مكي ورفاقه الأبرار من المناضلين الشيوعيين، أمثال موريس لابان الذي استطاع بجرأته وإقدامه الذي وصل إلى حد المغامرة بمهاجمة هذا الطاغية بن ڤانة في عقر داره وتغلب عليه مع رفاقه المناضلين. إن هذا اليوم الذي نحتفل فيه بهذه المناسبة يكشف حقيقة أعمال الطغاة الرجعيين أمثال بن ڤانة، الذين انحطوا إلى درجة اللصوص السفلة ورغم تسترهم خلف مختلف الأقنعة، وستنشر الجرائد كلها في قطرنا الجزائري، وكذلك وكالات الأنباء العالمية هذه الحادثة المشينة كوصمة عار جديدة في جبين الإستعماريين وأتباعهم الإقطاعيين الخونة، ويرى شعبنا من ناحية أخرى أن النضال الثوري الدائب والجسور يمكن وضع حد للظلم والإستعباد الإستعماري والرجعي طال الزمن أم قصر”. وأخيرا أثنى الخطيب على الرفاق الذين قاموا بهذه العملية الجرئية بالشكر، ومنهم العمراني العيد نقيب المحامين في باتنة، وموريس لابان، ودبابش ومكي وبن الآغا، وباقي الرفاق الذين شاركوا في القيام بهذا الواجب المقدس. وبعد ذلك، أحيلت لي الكلمة، ومما قلته بعد الترحيب بالحاضرين والسلام: “إنني لا أريد إطالة الحديث عليكم، وإنما أريد التذكير ببعض الجمل التي رددها على مسامعي أعوان فرعون العرب عام 1937، عندما شارعته ومنها: واش غادي اتدير أيها الفلاح الفقير أمام سيدنا وقوته الساحقة أنهم بالحقيقة أغبياء رغم شخصياتهم المعتبرة لدى البعض من الناس، فأجبتهم أجل إنني فلاح فقير غير أنني أتمتع بقوة حزبي الشيوعي، الذي هو أقوى من سيدكم بن ڤانة، فهو الذي سيقضي عليه، إنما أريد أن أذكركم بحكاية فاحفظوها ألا وهي حكاية الناموسة الضعيفة التي قتلت النمرود، وليس فرعون العرب بن ڤانة إلا النمرود. ها قد حقق الله اليوم هذا المثال الذي ضربته لهم منذ 8 سنين، وهذه هي الموتة الأولى وهي أشد وطأة من موته الأخيرة، لقد قضى اليوم على سيدكم، ولكن أنقذت في نفس الوقت حياة الآلاف من الجماهير والمناضلين، وستزيد الأيام القادمة في كشف عوراته وهي كثيرة ومعروفة لدى الخاص والعام”، وهكذا تم الإجتماع وتفرق المتظاهرون فرحين مستبشرين بهذا النصر الذي يعد نصرا لهم أيضا. وفي اليوم التالي من هذه المظاهرة الشعبية العارمة اجتمع القيادة من كل مكان وأرسلوا برقيات الإحتجاج للولاية الفرنسية العامة على ما حل بسيدهم بن ڤانة، مطالبين بمعاقبة الشيوعيين الجزائريين على أعمالهم العدائية تجاه بن قانة ومن خلفه السلطات الفرنسية وعلى الإثر تزلف وفد برئاسة بن ڤانة، قاصدا الوالي العام، واحتج بن ڤانة لديه باسم الوفد المرافق له، وطلب معاقبة الشيوعيين الذين تطاولوا عليه وانتهكوا حرمة منزله وأهانوه إهانة لم ير لها في حياته مثيلا، ثم أضاف قائلا: إذا لم تنتقم الحكومة منهم فإنني سأقدم استقالتي ومن معي من القيادة من مناصبنا وعلى الحكومة أن تتدبر أمرها.. ..يتبع