في مجلس شيخ جليل، مهيب الطلعة نافد النظرة، حلو الشمائل يجمع كل من رآه و سمع حديثه بأن عنده لكل سؤال جواب و لكل حيرة هدى و ينعث بأنه من بقية السلف الصالح " الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه". جرى حوار بينه و بين فتى مهذب ولكنه ضيق الأفق، و كان الحديث فى مجمع حاشد، تناول "حقيقة الصيام و قضاياه". رأينا عنده كيف تنفجر ينابيع الحكمة، و كيف تأخذ الحجج كل ضعيف اليقين. سمعت الحوار و وعيت ما دار، و إليك أخي القارئ.. أختي القارئة أنقله بالتمام. الصيام شهر القرآن ! الشيخ.. أولى لي يا فتى أن أقف بك اليوم وقفة مع هذا الشهر المبارك، الشهر الوحيد الذي أفاض فيه سبحانه و تعالى أكثر نعمه على عباده، نعم لا تعد ولا تحصى. فأولى لك يا بني و أنت في ظلال هذه النعم التي أسبغها الله عليك أن تشكر الله " فمن كان في نعمة ولم يشكر خرج منها ولم يشعر". الفتى: أفهم من حديثك يا سيدي أن لشهر رمضان عند الله مكانة كبيرة و منزلة عظيمة ! الشيخ : و كيف لا يا فتى ! " فالذين يجهلون، و يتجاهلون مكانة و قيمة هذا الشهر الكريم فليعلموا أنهم في شهر الخير و البر، و الفضل و الرحمة والبركات الفتى ..لقد شوقتني والله إلى هذا الشهر، فما هي مقومات البر والخير والبركات التي من أجلها نال هذه المكانة العظيمة الرفيعة ؟ الشيخ : مقومات الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة لا تعد و تحصى لا يسمح المجال بذكرها كلها .ولكني سأحاول أن أذكر لك اليوم نعمة زاحمت كل النعم و تفوقت عليها ! إنها يا فتى نعمة نزول القرآن الكريم على خيرة رسله محمد صلى الله عليه و سلم، يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، و موعظة و تبيان كل شيء، و شفاء لما في الصدور، وبشرى للمؤمنات و المؤمنين ! وذلك في قوله تبارك تعالى.." شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى والفرقان" سورة البقرة آية 85 أحس الفتى و هو يستمع للشيخ بنور هذه النعمة يرفعه بأجنحة ناعمة .. فأخذ يردد على مسمع الشيخ دون أن يشعر.. نعمة القرآن ! يا لها من نعمة ، يا لها من نعمة ! ! فقاطعه الشيخ.. إنها نعمة لا تعادلها نعمة في هذا الوجود، فالقرآن يا بني شفاء للقلب من أمراض الجهل ومن شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس، ونور و هدى ينير البصر والبصيرة بساطع آياته، و هو رحمة يخرج الناس من غياهب الظلال و ظلماته، و يرشدهم بنوره إلى رحاب الحق و الصواب ! فالصائم الذي يجهل القرآن ويعرض عن تلاوته و تدبره ، صيامه تقليدي لا خير فيه ! فمعنى القرآن أن تعرف من خلقك و لماذا خلقك، و كيف تعبده ! و معناه يا بني أن تفهم كل أمر و كل نهي، و كل حكمة و كل عبرة، وأن يسمع قلبك أنت ما يقوله الله فتخشع لخطابه و تهلع من عقابه و تطمع في ثوابه، وإلا فلا قيمة لصيام ولا ثمرة لتعبد آلي وإيمان وهمي ! ! أليس عجيبا يا فتى أن يعرض الصائم عن كنوز الحكمة و الرحمة، فيعرض عن خيره و هو في متناول يديه ! ! أليس عجيبا أن تدرس يا بني، و تحفظ عن ظهر قلب الكتب الضخمة لتنال شهادة ولا تتدبر و تدرس كتاب الله لتحظى بأعظم سعادة ! فأيهما الأنفع و الأهم يا فتى ؟! فلو كرست وقتك بتلاوة القرآن مثل ما تكرسه من وقتك كل يوم بتلاوة جريدة الصباح ، لفهمت دينك و سعدت في الدارين ! قل لي بربك يا فتى ، هل معرفة ما يلاقيه الناس في الوقت الحاضر ، أهم لديك مما تلاقيه أنت في اليوم الآخر ؟! وهل أخبار الأمم أهم لديك من أخبار نفسك ؟ فإذا كنت يا بني تعنى بمصلحة غيرك الدنيوية فأولى لك أن تعنى بمصلحتك الشخصية ! و إذا كنت تقرأ الصحيفة كل يوم لتعرف أخبار بني جنسك ، فاقرأ من القرآن كل يوم قليلا من آياته وابحث في تفسيره لتعرف واجباتك ! إن البعد عن القرآن في شهر القرآن يا فتى هو البعد عن الله تعالى، والبعد عن الله هو البعد عن الحق، والبعد عن الحق ضلال، والضلال هلاك ! ! فأكثر يا بني، في الشهر الفضيل من تلاوة القرآن و تدبر معانيه، فإنك والله لو فعلت ذلك وداومت لوجدت حلاوة تتجدد بتجدد تلاوته و لوجدت له حلاوة و تأثيرا عجيبا ! فاقرأه يا فتى، إقرأه بإمعان ولا تحاول أن تفهمه بتعمق و بحث مضن بل اقرأه كما قرأه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فإذا قرأته على هذا الوجه كان لك بكل حرف عشر حسنات ، والله يضاعف لمن يشاء، و من استمع إلى آية من كتاب الله كانت له نورا وبرهانا يوم القيامة ! رفع الفتى رأسه ، و وسع عينيه ثم قال همسا ، وكأنه لا يريد الخروج عن همسه العميق الخاشع ..الآن يا سيدي ، عرفت حقيقة الصيام ، فلا قيمة لمن صام وأعرض عن تلاوة القرآن ! ! فخاطبه الشيخ: أجب يا فتى داعي الله و ابدأ العمل الجاد و دع الأحلام واحزم أمرك واعلم أنه ما أفاد قول لا يتوج بعمل ..