يرتقي الفعل الثقافي، بالإنسان لكي يكون مكتمل المفاهيم ومتحضر السلوك، ويجعله يشترك مع غيره، في الكثير من الخصائص، التي ترفع ذائقته الخاصة وبمعيتها ينتج ما يسمى ب الذوق العام ، وهو ما يتيح له الفرصة أيضا ليبتعد قليلا عن دائرته الغرائزية نحو أفق إنساني أرحب . ولن يتأتى ذلك طبعا إلا إذا توفرت لديه كل متطلبات المعيشة، من عمل وسكن، وبيئة يعبر فيها عن رأيه بكل وضوح وحرية، وحياة كريمة يحس فيها بكينونته كإنسان، والأكيد أنه سيفكر فيما بعد في الاعتناء بالثقافة، التي تكتسي أهمية كبيرة لكنها ليست بأهمية الخبز، الماء !. خرج أخيرا وزير الثقافة، ليعلنها صراحة أن الأغاني الهابطة والخادشة للحياء ممنوعة من العرض على القنوات الجزائرية العمومية والخاصة، وكذلك الحفلات الرسمية التي يتم تنظيمها عبر التراب الوطني، رغم ذلك دقت أسئلة شيطانية في رأسي..على نحو من الذي منح التراخيص إذن لتنظيم حفلات تلك الأغاني الهابطة؟ التي يتقيأ أصحابها في أذان الجزائريين كل مرة؟! فوق ذلك أين تم تسجيل هذه الأغاني؟ قبل أن تنزل إلى السوق بتلك البذاءة ؟ وهنا يحاول الوزير إبعاد التهمة عن دائرته قائلا أن الأغاني المخلة بالحياء يتم تسجيلها خارج الجزائر، وتنشر في منصات تبث من خارج الوطن مما يصعب عملية التحكم فيها، مؤكدا أن قطاعة يمنع برمجة هذا النوع من الأغاني في التظاهرات المنظمة من قبل وزارته؟ ما نسي الوزير قوله هنا، حتى نقتنع بكلامه هو أن هذه الأغاني، أصبحت خارج السيطرة وتنتشر بفعل منصات التواصل الاجتماعي واليوتوب، ولا تستطيع الوزارة أن تراقبها والتحكم فيها، وهو العجز الذي لم يتمكن الوزير من التصريح به علانية، وهنا أيضا يكمن الاعتراف الضمني على أن الهيئات الرسمية فشلت في خلق فعل ثقافي حقيقي يرفع من الذائقة العامة للجزائريين نحو مستوى أفضل، لسد الفراغ الرهيب على الساحة الثقافية في البلاد، مما فتح المجال لصعود ثقافة الحانات إلى السطح ليبدو وكأنه ذوق عام يشترك فيه الجميع !
كانت رسالة واضحة، لا تقبل القسمة على إثنين، تلك التي بعث بها سكان الجنوب إلى السلطات العليا في البلاد، قبل شهور، على أنهم يعيشون ظروفا مزرية وأوضاعا أقل ما يقال عنها أنها بائسة، خاصة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي، بعدما انتفضوا على تنظيم حفل لفنانين مشهورين بأدائهم الغنائي المتواضع ..وكان الهدف وراء هذا التحرك ليس الحفل الغنائي بعينه، بل كان توجيه رسالة بسيطة مفادها الاستجابة لمطالبهم، بعدما عجزت السلطات المحلية في تحقيقها . هنا حاولت بعض الأطراف حينها، أن تجعل من قضية الصلاة التي أقامها الشباب في ساحة الحفل، صورة مستنسخة من تسعينات القرن الماضي، وصراع الفيس مع السلطة، وقدرته على تعبئة الجماهير، وإلقاء خطابات في الشوارع ، لتوجه لهؤلاء الشباب تهمة جاهزة عن حراكهم ذاك.. هنا وفي رأيي الخاص لا أعتقد البتة أن هؤلاء الشباب، فكروا في مآلأت سلوكهم الذي تم تفسيره على هذا النحو الخاطئ، سوى أنهم رغبوا في توصيل انشغالهم بأسلوب غير عنيف فقط، وليس لأنهم ضد الفن كما حاولت بعض الأطراف تسويقه !. ولعل الرسالة المهمة التي مررها مواطنو تلك الولايات، دون أن ينتبه إليها الجميع، هي دعوتهم لكي تكون الحفلات المبرمجة من قبل السلطات غير هابطة، لأن بعض الأغاني كارثية المعنى، بل ماجنة جدا، حتى الشخص بينه وبين نفسه لا يستطيع الاستماع إليها فما بالك أن ترتقى بالذوق العام !. لا أحد ينكر ذلك الدور المهم للموسيقى في حياة الشعوب، فهي توثق لحالات الفرح والحزن، كما تجعل الإنسان يرتق بذوقه وروحه إلى مستويات عليا من الوعي والجمال، وهذا ما يحيلنا إلى التساؤل حول الهدف الخفي من الترويج لهذا الغناء الهابط سواء بقصد أو بغير قصد في المجتمع الجزائري؟ الأكيد أنه ليس الغرض منه خلق الفرح في النفوس، وليس أيضا الرفع بالذائقة العامة نحو مستوى أرقى ، بل له مقصد آخر، وهو التخذير وإبعاد المجتمع عن مكمن المشاكل الحقيقية وتلهيته لأطول وقت ممكن لغرض في نفس يعقوب !! يتحجج الوزير في إحدى تصريحاته بالقول بأن المواطن، ومثلما له الحق في العمل، والعيش، والغذاء والعلاج.. له الحق أيضا في الثقافة ، نعم صدق الوزير فيما ذهب إليه.. لكن الذي لم يقله معاليه أنه كان يستوجب على السلطات المعنية أن تستوفي كل تلك الحقوق التي ذكرها، وتنتقل إلى الحق الذي تحدث عنه..لأنه وببساطة لا أعتقد بوجود إنسان جائع، بطال، في بلدية نائية، بدون ماء ولا كهرباء، ولا تنمية، يمكن له أن يرقص على أنغام أغنية هابطة سوى إذا كان الهدف من هذه الحفلات هو التخذير وليس إنتاج الفرح !