قال الله عز وجل: »اهدنا الصراط المستقيم«.. كثيراً ما راودني سؤال قديم حول هذه الآية، إذ يقرؤها مسلم، ويقرؤها في صلواته المفروضة والنافلة وغير ذلك، ومع ذلك يطلب الهداية، أوليس على هُدى؟! أو هو على غير الصراط المستقيم؟! حتى ساق الله إليّ كتب ابن القيم وشيخه الإمام الفذ ابن تيمية ففهمت منهما أن الهدى في القرآن ليس شيئاً واحداً، أو ليس نوعاً واحداً، وإنما هو درجات، عامة ثم خاصة ثم أخص فهناك هداية كونية عامة، تتعلق بطاعة كل خلق بأمر ربه المسخر للقيام به، فهو لا يخرج عن مساره المرسوم ولا يخالف ما هُيّئ له لسبب من الأسباب، ولذلك قال رب العزة سبحانه وتعالى: »قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى«. وقال عز من قائل: »الذي خلق فسوى والذي قدّر فهدى«، وهذه الهداية تعم كل شيء في كون الله، والإنسان كذلك قدر له كيف يعيش ويمارس حياته، من المولد إلى الوفاة، حياة بيولوجية كغيره من الأحياء. وكما أن كل خلق خلقه الله يتعرف إلى خالقه ويسبحه ويقدس له، كذلك الإنسان مغروس بداخله فطرة تتعرف إلى خالقه وتدين له، غير أنها في الإنسان قد تفسد وتنحرف وتضل إذا شب الإنسان عن طوقه وقام بنفسه، وهذه نقطة أولى تميز به الإنسان عن غيره، لأن الإنسان له اختيار وغيره ليس له اختيار. ومن أجل ذلك ومن رحمة الله بالإنسان، أن أرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب، لإيقاظ همته وإنعاش فطرته، وإحياء ذاكرته، وكشف سبيله، وإرشاده إلى الحق، وذلك لتوجيه وجهه نحو المعبود بحق، وهذه الهداية خاصة بالإنسان فقط، لأنه هو الذي منح أمانة الاختيار ولذلك قال رب العزة: »إن علينا للهدى« وقال سبحانه: »وهديناه النجدين«، وقال جلّ جلاله: »إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً«، وهذه الهداية هي هداية البيان والإرشاد، التي يقوم بها الرسول، وينتهي عندها دور الرسول، ويتحمل العبد بعد ذلك أمانة الاختيار. إما أن يسلك طريق الحق، أو يتنكبه إلى سبيل الضلالة، ولذلك قال رب العزة: »ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين«، وهكذا نجد نوعاً من الهداية بعد هداية البيان والدلالة، لكنها لمن سلك طريق النور فقط، هي هداية المعونة والتوفيق، أما من مجد الحق ورفض النور، وتمسك بعمايته، فيتركه الله عز وجل في وهدته وحمأته، فكأنه أضله. وذلك واضح في قول رب العزة: »وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون«.. أما هداية السالكين طريق الحق، فهي التي يقول فيها رب العزة »والذين اهتدوا زادهم هدى«، والتي يقول فيها: »إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء«، أي يوفق ويسدد من يختار الهدى بعد البيان، ولذلك أمرنا أن نطلبها بقولنا: »اهدنا الصراط المستقيم«، أي وفقنا وسددنا وثبتنا على الصراط المستقيم.