بعد أن تمكّن جيش التحرير من أداء مهمته بنجاح وتحقيق الاستقلال الوطني، كان من الضروري السعي لتطوير هذا المكسب وتعزيز قدراته البشرية وإمكانياته المادية، ليتحول بذلك، جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي، وكانت المسؤولية الملقاة على عاتقه بعد الإستقلال تحدٍّ ورهان من نوع خاص بين مسيرة البناء وبين حماية الحدود الوطنية والحفاظ على مكسب الإستقلال. كان الجيش في البداية غير مؤهل للحروب الكلاسيكية بسبب طبيعة تكوينه الذي اعتمد أساسا على مجاهدي ثورة التحرير ذوي الخبرة في حروب العصابات أكثر من المعارك الكلاسيكية كما كان كل ما يملكه أسلحة سوفياتية اشتراها في وقت الاستعمار، وكانت مهمة الجيش الوطني الشعبي جد صعبة بعد افتكاك الحرية نظرا لكل تلك المخاطر التي كانت تهدد التماسك الوطني والأمن الداخلي للبلاد، بما فيها أعمال التخريب المادي التي طالت المؤسسات على يد الجيش السري وبتواطؤ مع الخونة، حيث تحمّل الجيش مسؤولية كبيرة ومفتوحة الأبعاد من خلال تشغيل المرافق في جميع الظروف، وذلك بالعمل على استكمال الاستقلال الوطني في جميع الميادين. هذه هي أولى مهام الجيش الوطني الشعبي بعد الاستقلال لم تكن مهمة سليل جيش التحرير الوطني بعد الاستقلال أقل صعوبة من مهمة تحرير الجزائر، حيث باشر تحدٍّ جديد ألا وهو بناء الوطن، وذلك بسد شغور المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والإدارية، وتطهير الحدود الشرقية والغربية من الألغام الممتدة على خطي شال وموريس وإزالة آثار الحرب المدمّرة، وبناء مرافق الخدمات وتقريبها من المواطنين لفك العزلة عنهم، رسم الحدود مع الدول المجاورة وتأمين سلامتها، وبالموازاة مع هذه المهمة، لم يتوان الجيش الوطني الشعبي في الاهتمام بالتكوين العسكري وتدعيم قدراته القتالية، فلم تمض السنة الأولى على الاستقلال، حتى ظهرت إلى الوجود قيادة الدرك الوطني في أوت 1962 ومصلحة الإشارة في 15 سبتمبر 1962، كما عين وزير الدفاع في 27 سبتمبر 1962، وفي أكتوبر 1962، وصلت إلى الجزائر وحدة صغيرة من الطائرات العمودية، كما وصلت في نفس الشهر، مجموعة من الطائرات المقاتلة، وفي هذا الإطار، شرع في إنشاء هياكل التكوين والتدريب وإرسال البعثات إلى الدول الشقيقة والصديقة، لتتخرج من كبريات المدارس والمعاهد في مختلف التخصصات، مشكّلة بذلك أولى الطلائع التي ستؤطر الجيش الوطني الشعبي وتطوره تنظيما وتسليحا ولما ضبط إطار التكوين، وبدأت المدارس تظهر إلى الوجود كمدرسة أشبال الثورة في ماي 1963 والكلية العسكرية لمختلف الأسلحة بشرشال في جوان 1963. واهتمت قيادة الجيش الوطني الشعبي منذ البداية بالجانب التكويني حيث تم إنشاء هياكل التكوين الأخرى في مختلف الأسلحة بما يستجيب ومتطلبات الجيوش الحديثة والتقنيات العسكرية المعاصرة والتزويد بالأسلحة والتجهيزات المتطورة. جيشنا يهب للنصرة العربية ضد إسرائيل ومع أن الجيش الوطني الشعبي كان ينتظره الكثير داخليا، غير انه لم يتوان في نصرة العربية بعد نكسة 5 جوان 1967، إثر العدوان الإسرائيلي على مصر، حيث هبّ الجيش الوطني الشعبي لنجدتها، وتحركت الطلائع الأولى لأرض المعركة، فحطّت أول طائرة عسكرية جزائرية في مطار القاهرة يوم 06 جوان 1967، ثم وصل بعد ذلك بقليل لواء بري، التحق بالخط الأول للجبهة، ومجددا، كانت قوات الجيش الوطني الشعبي في الطليعة، عندما بدأت حرب الاستنزاف حيث أظهروا قدرات عسكرية عالية المستوى رغم عدم تكافؤ الإمكانيات مع العدو الإسرائيلي، وفي حرب اكتوبر 1973، وبالرغم من طابع السرية المفاجأة التي اتسمت بهما حرب 06 أكتوبر 1973 ضد إسرائيل على الجبهتين المصرية والسورية، إلا أن هذا لم يمنع الجزائر من نصرة الأشقاء في مصر وسوريا حيث احتلت المرتبة الثانية بعد العراق من حيث الدعم العسكري الذي قدّم لهذه الحرب. الخدمة الوطنية.. خزان الجيش من الطاقات والإطارات تحولت الخدمة الوطنية إلى مصدر للطاقات والإطارات الشبانية بعد سن قانون الخدمة الوطنية في 16 أفريل 1968، وقد تعددت الانجازات التي قام بها شباب الخدمة الوطنية، خاصة الدفعات الأولى التي ساهمت في تحقيق عدة مشاريع كالمخطط الرباعي الأول ومشاريع البرامج الخاصة بالتنمية في المناطق الريفية والفقيرة وقد تمثلت هذه الانجازات، في بناء القرى النموذجية ومختلف مرافقها الحيوية، بناء السدود الجديدة وإصلاح القديمة منها، شق الطرق، حفر الآبار ومد الأنابيب، مد الأسلاك وأعمدة الكهرباء والهاتف وفك العزلة عن المناطق النائية وبناء المدارس والثانويات والجامعات والمطارات المدنية في مختلف جهات الوطن خاصة بالمدن الجنوبية، شق الطرق السريعة وخطوط السكة الحديدية، أبرزها طريق الوحدة الإفريقية بإنشاء طريق عابر للصحراء، قصد تمتين الروابط والصلات الوثيقة بالدول الإفريقية بجنوب الصحراء مما يسهّل التعاون المتبادل وتوطيد العلاقات بين الجزائر وهذه الدول، والسد الأخضر حيث تقرر إقامة حزام غابي من اجل مكافحة ظاهرة زحف الرمال والتصحر نحو مدن الشمال، وتجسيد مشروع الألف قرية قصد إعادة التوازن بين المدن والأرياف والحد من ظاهرة النزوح الريفي. هكذا تم هيكلة قوات الجيش الوطني الشعبي تم إنشاء أركان الجيش الوطني الشعبي في 28 نوفمبر 1984، وذلك في إطار عصرنة الجيش التي بدأت بإدخال وسائل قتال متحركة، دون إغفال الجانب التنظيمي والتكويني والتدريبي، حيث تم إنشاء، في 3 ماي 1986، القوات البرية، وأعيد تشكيل وهيكلة القوات بالحجم الذي يؤمن القيام بنشاطات عملياتية، وقد شهدت سنوات الثمانينيات أعمالا تنظيمية كبيرة مسّت مختلف القوات إنطلاقا من دراسة ميدانية عميقة تم استخلاصها خلال سنوات طويلة من العمل العسكري المتواصل الذي أدخل تحسينات نوعية على المورد البشري من حيث مستواه التكويني، النظري والتطبيقي، كما ظهر تشكيل وحدات قتالية من نوع الفرق والتي تعتبر نموذجا بالنسبة للقوات البرية، كما تم تنظيم قوام المعركة بتزويدها بمنظومات أسلحة جد متطورة، وفي 27 أكتوبر 1986، تم إنشاء القوات البحرية، القوات الجوية، المفتشية العامة للجيش ومندوبية الدفاع الشعبي. تحوّل نحو الصناعة الإستراتيجية عرفت الصناعة العسكرية تطورا كبيرا في الجزائر خاصة وان القيادة أولت أهمية كبيرة لتجديد العتاد وتطويره، حيث كانت البداية بعملية تجديد العتاد التي كانت توكل فيما مضى إلى الخبرات الأجنبية كمرحلة أولى، اما في المرحلة الثانية، فكان التركيز على عصرنة هذا العتاد ووضعه في مستوى التكنولوجيات الجديدة، وتعتبر القاعدة المركزية للإمداد ببني مراد للصناعات الوطنية ذات البعد الإستراتيجي، كقاعدة صناعية متكاملة على مستوى القوات البرية، ساهمت في الرفع من القدرات القتالية لعدد معتبر من وسائل القتال من خلال عمليات التجديد والتطوير، وحسب موقع وزارة الدفاع الوطني في جانب تاريخ الجيش، تقوم هذه القاعدة بتصنيع قطع الغيار الميكانيكي والمعدني والتجهيزات البترولية والهيدروليكية والمنجمية والصناعة الميكانيكية، التصليح الميكانيكي الثقيل والإلكتروني، تجديد السيارات وقطع الميكانيك التكميلية، تليين أطواق العجلات، التحليلات الكيماوية والمعدنية وتجارب الميكانيك والتكوين المهني، بالإضافة إلى السهر على رفع قدرات وتطوير بعض العتاد العسكري. ومن بين أهم المؤسسات التي تفتخر بها الجزائر، مؤسسة البناء والتصليح البحري بالمرسى الكبير "القوات البحرية"، وتتمثل مهامها في تصليح وتجديد وعصرنة الأسطول العسكري البحري، نشاطات ذات الصلة بتطوير البناء والتصليح البحري، تسويق الإنتاج والخدمات التي من شأنها استثمار القدرات التقنية، الصناعية والتجارية، فيما تقوم مؤسسة صناعة الطائرات بطفراوي "القوات الجوية"، بتوفير حاجيات الشركاء والمتعاملين بمختلف أنواع الطائرات، كما تقدم خدمات ما بعد البيع، أعمال المراقبة، الصيانة، المتابعة التقنية والتكوين والتأهيل، بالإضافة إلى مؤسسة البنايات الميكانيكية ومؤسسة الإنجازات الصناعية، حيث أسندت للأولى مهمة صناعة الأسلحة الخفيفة، تلبية لاحتياجات الدفاع الوطني والتقليل من التبعية الخارجية، أما الثانية، فتختص بإنتاج الذخيرة من العيار الصغير بكل مكوناته، كما يتعدى نشاطها إلى مجالات أخرى كإنتاج القطع والأدوات الموجّهة لصناعة منتوجات عسكرية ومدنية، زيادة على صناعة الشارات، الرتب، الأوسمة العسكرية وشبه العسكرية، الأوسمة التذكارية، الميداليات، وتقوم بصناعة مثبتات خارجية لعظام الأطراف العليا والسفلى في إطار تعاملها مع المستشفى المركزي للجيش وبعض المراكز الاستشفائية الجامعية. إلى جانب هاتين المؤسستين، توجد وحدات صناعية أخرى أوكلت لها مهام تزويد الجيش الوطني الشعبي بما يحتاجه من مستلزمات كالديوان الوطني للمواد المتفجّرة ومؤسسة الصناعات الميكانيكية ووحدة الألبسة والتأثيث ومؤسسة الملابس والأحذية. وبالتوازي مع إنشاء مختلف القوات وإعادة التنظيم الشامل للبنية الهيكلية للجيش الوطني الشعبي، تجّلت الانعكاسات الإيجابية لهذه العملية الكبرى على مستوى التكوين والتدريب داخل المؤسسة العسكرية، وهكذا تم إنشاء المدرسة التطبيقية للدفاع الجوي عن الإقليم في أكتوبر 1985، ثم تلتها المدرسة العليا للدفاع الجوي عن الإقليم، وفي نفس السياق التكويني والتدريبي، نجد المدرسة العليا للدرك الوطني بيسر وكذلك المدرسة التطبيقية للهندسة ببجاية والمدرسة التطبيقية للإشارة بالقليعة، وفي عام 1998، أسّست المدرسة الوطنية التحضيرية لدراسات مهندس، التي ينتظر أن تتخرج منها أول دفعة هذه السنة. ويذكر أن الجيش الوطني الشعبي خطا خطوات كبيرة على طريق العصرنة والاحترافية من خلال التركيز على طاقاته البشرية مع ضمان التكوين على أعلى مستوى وعلى الانتشار الواسع في جميع المجالات الحيوية مع التحكم في أحدث التكنولوجيات دون الحياد في الإستراتيجية المتبّعة في الميدان عن مبادئ ثورة نوفمبر المظفرة. مبادئ ثابتة لا حياد عنها إن الجيش لعب دورا كبيرا في عرض مسار التشييد وإعادة البناء الوطني في فترة الستينيات، إقامة مشاريع كبرى، وكان من الطبيعي أن يساهم الجيش في هذا المسار بصفته القوة الوحيدة المنظمة آنذاك حيث خوّلت المادة الثامنة من دستور 1963 صلاحيات اجتماعية وسياسية واقتصادية، واعتبرت أن الجيش، وطني وشعبي، في خدمة الشعب والجمهورية ويشارك في النشاطات السياسية، الاقتصادية والاجتماعية في إطار الحزب، حيث نصت المادة 82 على "تتمثل المهمة الدائمة للجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني ودرع الثورة، في المحافظة على استقلال الوطن وسيادته والقيام بتأمين الدفاع عن الوحدة الترابية ومياهها الإقليمية وجرفها القاري ومنطقتها الاقتصادية الخاصة بها"، أما المادة 83، فنصت على أنّ "العنصر الشعبي عامل حاسم في الدفاع الوطني"، "الجيش الوطني الشعبي هو الجهاز الدائم الذي يتمحور حوله الدفاع الوطني ودعمه". وهذه هي المبادئ الاساسية لسياسة الدفاع الوطني التي لم يتراجع عنها والتي تتضمن سلامة التراب الوطني وعدم المساس بحدوده الثابتة وحرية الأمة في صياغة اختياراتها، كما تحدّدت أيضا على أساس قدراتها الاقتصادية الوطنية والمتطلبات المرتبطة بموقعها الجغرافي. ولقد كانت حصيلة الخبرات التي تجمّعت أثناء الشدائد مرجعا عكس عبقرية قواتنا المسلحة التي اضطلعت بواجب التصدي لكل الأخطار والاعتداءات التي من شأنها المساس بأمن البلاد وسلامة التراب الوطني.