لم يكن يتصور عمي عمر المغترب بفرنسا أن نعمة إلتحاقه بالضفة الأخرى من المتوسط ستتحول إلى نقمة وهو في خريف عمره، فبعد أن شتته اليتم في حداثة سنه وشقيقتيه اللتين تزوجتا وبنَتا أسرتين في ضواحي العاصمة أجبر هو على قضاء فترة صفا ومروى بين منزليهما رغم عدم الترحيب الذي لقيه من طرف زوجي شقيقتيه، إبتسم له الحظ فور إلتحاقه بالضفة الأخرى بظفره على مسكن يأويه وعمل قار يقتات منه، لكن لم يضع هذا حدا لمعاناته بما أنه عاش بمفرده في فرنسا إلى أن مشت قدماه إلى قدره وإقتادته إلى غابة لطالما إستهوته في حياته لتحتضنه في موته، بعد تعرضه لنوبة سكري وهو يتجول في الغابة فقد على إثرها الوعي فوجدته الذئاب الفرنسية لقمة سائغة، خالتي عتيقة فتحت قلبها ل«السياسي» وروت حادثة أخيها المتوفى في ديار الغربة. تشرد بين منزلي شقيقتيه فقرر ترك البلد بأكمله عدم الترحيب هو كل ما مني به في منزلي شقيقتيه خاصة وأنه كان يتيم الأبوين، ليضطر إلى المكوث لفترة عند الأخت الكبرى تليها فترة أخرى في منزل أخته الصغرى، ونتيجة الظروف الصعبة التي عاشها في ضواحي الجزائر، قررت الأخت الصغرى مساعدته في الإلتحاق بالضفة الأخرى من المتوسط بما أنها كانت على علاقة ببعض الفرنسيات اللواتي كن يسكن في قلب العاصمة بجوارها في فترة سبعينيات القرن الماضي، حصل على تسهيلات إجراءات السفر بما أن الجارات الفرنسيات لشقيقته الصغرى قمن بالواجب ولم يبخلن بالمساعدة إلى أن قطع عمي عمر البحار ودخل التراب الفرنسي. .. واستقرار بلا رجعة ما إن حطت قدماه الضفة الأخرى من المتوسط سرعان ماظفر بعمل قار في الحدادة وحصل كذلك على منزل صغير مكون من غرفة واحدة يأويه، فقرر عدم الرجوع إلى موطنه الأصلي إلى أن يقضي نحبه، فزار الجزائر مرتين إحداها حين توفيت شقيقته الكبرى وهي في العقد الرابع وتلتها زيارة أخرى بعد ذلك ليقرر ثانية اللاعودة إلى أرض الوطن، خاصة وأنه فقد شقيقته الكبرى بعد فقدانه لوالديه، وإمتنع المغترب عن زيارة أهله حتى في الأعياد وفي الحفلات حيث لم تستهويه«ريحة البلاد» إطلاقا بعدما قطع يمينا بعدم العودة إلى بلده الجزائر، ولم يكن عمي عمر يدرك أن قطعه اليمين سيتحقق ولن يرى أفراد عائلته مجددا إلا قلة من أفراد العائلة الذين كانوا يزورونه بين كل فترة وأخرى كأخته الصغرى وبعض أبناء شقيقتيه. حصة «وكل شيء ممكن» أعادته إلى أهله بعد انقطاع طويل فقدت عائلة عمي عمر الإتصال بقريبها المتواجد بفرنسا لمدة تقارب عقدين من الزمن، بعد أن قلل إتصالاته لظروف ظلت مجهولة كما أن أفراد عائلته عجزوا عن التواصل معه لفترة طويلة جعلتهم يرجحون فرضية وفاته، إلى أن قررت إحدى قريباته إرسال بحث في فائدة العائلات عبر حصة «وكل شيء ممكن» للمرحوم بإذن الله «رياض بوفجي» التي لاقت نجاحا باهرا في ربط العائلات الجزائرية بذوويها المغتربين وإطفاء نار حرقة الغياب فور جمع العائلة ثانية بعد أن فرقتها المسافات، الفرحة دخلت قلوب كل أفراد العائلة دون إستثناء بمجرد إتصال المغترب بأهله عبر الهاتف الثابت الذي ظل وسيلة تواصل بينه وبين أهله لفترة طويلة، إلا أنه أحجم عن زيارته لأهله في الجزائر رغم إشتياقه لوطنه غير أن رميه يمينا بعدم العودة إلى بلده جعله يصرف الفكرة رغم دعوة أهله ومحاولاتهم إقناعه إلا أنه إكتفى بسماع أخبارهم عبر الهاتف وتبادل الصور العائلية التي ساهمت في تعريفه حتى بأفراد العائلة الجدد. فرنسا أوَته لكن لم تطفئ حنينه عاش عمي عمر وحيدا منفردا في فرنسا ولم يسعفه الحظ حتى في بناء عائلة تطفئ نار الغربة وحنين الأهل بالموطن الأصلي خاصة وأنه في إحدى المرات تعرف على صديقة جمعته وإياها علاقة كادت تنتهي بزواج إلى أن قرر إرسال صورتها إلى أختيه بالجزائر للتعرف عليها فأخبرته شقيقته الصغرى بأن الشقيقة الكبرى لم تعجبها صديقة أخيها بما أنها قصيرة القامة، وبما أنه يحترم أخته الكبرى وينصاع إلى طلباتها قرر العدول عن فكرة الزواج حتى أنه لم يناقش الفكرة التي لا أساس لها من الصحة، وظل يعيش بمفرده في منزله الصغير إلى أن غادره وإستقر بدار الراحة في عقده السادس نظرا لحالته الصحية المتدهورة والتي تستدعي إهتماما طبيا خاصا، فمكث هناك لفترة لقي فيها إهتماما صحيا بالغا ساعد على إستقرار حالته المرضية. .. وتخصيص ميزانية معتبرة من راتبه ليدفن في مسقط رأسه ظل يقتطع جزء معتبرا من راتبه الشهري حتى يتمكن من تأمين دفع مستحقات إعادة نقله إلى المديةمسقط رأسه ليدفن بجانب والديه فور وفاته، خاصة وأنه لم يستسغ فكرة دفنه في المقابر المسيحية المترامية في أنحاء أروبا، فلجأ إلى تأمين ظروف نقل جثمانه إلى مسقط رأسه وهو على قيد الحياة، ويؤكد أقرباء عمي عمر أنه على الرغم من مقاطعته إلى الجزائر التي لم تطأها قدماه منذ زيارته الأولى لبلده ورميه يمينا بعدم دخول أرض الوطن بعد وفاة أخته إلا أن حنينه إلى بلده جعله يرتب لدفنه في أرض الوطن وهو حي يرزق. توفي وحيدا في الغابة فنهشت الذئاب أجزاء من جسده في يوم مشؤوم خرج عمي عمر إلى إحدى غابات فرنسا للتنزه منفردا خاصة وأنه يفتقر إلى عائلة تلتف حوله غير أنه لم يعد إلى منزله إلى أن عثر عليه جثة هامدة في الغابة شرعت في التعفن بعد أن نهشت الذئاب أجزاء من جسده وشوهت وجهه، ورجحت وفاته إلى تعرضه لإحدى نوبات داء السكري التي تزوره بين الفينة والأخرى، ولم تكن عائلته بالجزائر على علم بوفاته إلا بعد مرور عدة أيام وبالتحديد حين إتصل إبن أخته للإطمئنان عليه فتعذر عليه الإتصال به إلى أن إتصل بجاره الذي أخبره بالفاجعة التي حلت على أفراد عائلته بالجزائر كالصاعقة ثم إستسلمت العائلة لقضاء الله وقدره فشرع إبن أخته في إتمام معاملات نقل جثمانه من فرنسا إلى الجزائر وتشييع مراسيم الجنازة وتحقيق أمنيته بدفنه بالقرب من والديه. نصيحته للشباب: «أقعدوا في بلادكم» «أقعدوا في بلادكم» هكذا كان يجيب عمي عمر أفراد عائلته الذين كانوا يزورونه بين الفينة والأخرى في منزله بفرنسا خاصة وأن العديد منهم كانوا يمكثون لفترة طويلة هناك قاصدين الإنضمام إلى مغتربي الجزائر هناك بما وراء البحار، غير أنه وبشهادة أفراد عائلته كان يكرم ضيوفه إلى أقصى درجة وحين إطالتهم لمدة الإقامة هناك يضطر إلى إقناعم بالعدول عن فكرة إغترابهم وضرورة عودتهم إلى حضن العائلة في الجزائر وهو ما حدث لإبني أخته الذين رتبا أمورهما هناك بعد ظفرهما بمنصب عمل غير أنه رفض الفكرة وأقنعهما بالعودة إلى أرض الوطن وهو ماحدث فعلا، ويؤكد أفراد عائلته أنه كان في كل مرة يطرح عليه موضوع الغربة يجيب بعبارة «أقعدوا في بلادكم».