تعتبر المقابر الوجهة الثانية لأبناء الجالية الوطنية المقيمة في المهجر، حيث بعد الاطمئنان على الأهل والأحباب يأتي دور زيارة الموتى بالمقابر، وهي الفرصة التي لا يفوتها المغتربون في كل زيارة لأرض الوطن، فهم يجدون في زيارة المقابر إعادة إحياء ذلك الرابط مع الماضي البعيد، فهناك من يزور قبر الوالد والوالدة، وهناك من يعود إلى تاريخ أجداده ويحاول في كل مرة استحضار الذكريات البعيدة وسردها على أبناء الجيل القادم. زيارة المغتربين لأرض الوطن تكون في كل مرة مبرمجة ضمن مخطط نقل يعد خصيصا للمناسبة والذي يعتبر تقليدا سنويا لأبناء الجزائر في المهجر، فاللقاء الأول مع ارض الوطن سواء كانت وسيلة النقل جوية أو بحرية هي الصورة الأولى التي يتم التقطاها في كل زيارة، بعدها تعود اللغة العربية أو اللهجة المحلية لكل مغترب بصفة تلقائية، ليشرع مباشرة بعد أن تطأ الأقدام أرض الوطن البحث عن الأحباب والأهل وسط الحشود التي تتنقل يوميا للمطار والميناء لاستقبال ضيوف الجزائر، وبعد الاطمئنان على الصحة والأحوال وتحديد قائمة الزيارات فيما بينهم، تشد الأرض الحنين لأبنائها حيث تجدهم يتنقلون بين المقابر لزيارة قبر الوالد أو الوالدة أو أحد أفراد العائلة الكبيرة، وهو ما لمسناه في زيارتنا لعدد من المقابر وسط العاصمة، "لا يمكن أن أزور الجزائر دون زيارة أفراد عائلتي الذين انتقلوا إلى جوار ربهم، كما تحصل خلال فترة غيابي حالات وفاة بين العائلة، وبسبب ظروف عملي يستعصي علي التنقل، لذلك أحاول خلال زيارتنا الصيفية استدراك الأمر" هكذا فضلت إحدى السيدات مقيمة بفرنسا الإجابة عن تساؤلنا، في حين أشارت أخت المتحدثة وهي في نفس وضعيتها قائلة "أحرص في كل زيارة على أن أجلب معي أبنائي ليتعودوا هم كذلك على زيارة أفراد عائلتهم من الموتى، هي فرصة للحديث عنهم وعن خصالهم لأبناء جيل المستقبل". ونحن نتجول بمقبرة العالية صادف وجودنا عائلة مقيمة في المهجر تحاول بمساعدة أحد أعوان الحراسة البحث عن قبر والدة رب العائلة، تقربنا منه فرد علينا " في كل مرة تتسع مساحة المقبرة وهو ما يصعب علي إيجاد القبر، لكن الحمد لله أنني أحفظ رقمه فأطلب في كل مرة مساعدة الأعوان" وما لمسناه في هذه العائلة التي كانت مكونة من الأم والأبناء، أنها لا تزال محافظة حتى على تقاليد الجزائريين في زيارة موتاهم، حيث حملت الأم معها ربطة من نبتة "الريحان" في حين وضعت الفتاتان خمارات على رؤوسهن، وهو ما حرصت الوالدة على تأكيده "صحيح أننا نعيش خارج الوطن، لكن أصولنا وتقاليدنا لا يمكن أن تمحوها سنين الغربة، فأنا أحاول في كل مرة تدريب أبنائي على التصرفات الحسنة سواء خلال زيارة الأهل أو المقابر" مضيفة "أملي أن أدفن في أرض أجدادي ويأتي أبنائي لزيارتي" هذه هي الرسالة التي يحاول المغتربون غرسها في أذهان وتصرفات أبنائهم بعدهم. ... والسياح الأجانب يتفقدون المقابر المسيحية زيارة القبور لا تنحصر على أبناء الجالية الوطنية المقيمة في المهجر، بل تسجل يوميا زيارة أعداد كبيرة من السواح للمقابر المسيحية بالعاصمة على غرار مقبرة بولوغين أو العالية، والغرض من ذلك على حد تعبير أحد أعوان الحراسة سواء لزيارة أحد أفراد الأهل المدفون هنا بالجزائر منذ الحقبة الاستعمارية، أو الاطلاع على ظروف العامة لهذه المقابر، وهناك حسب المتحدث حتى من قرر ترك وصية لأبنائه ليتم دفنه هنا بالجزائر بعد أن أعجب بجمال طبيعتها أو لرباط قديم يربطه بالجزائر، وهو ما يسجل خاصة لدى الفرنسيين ممن عاشوا فترة من حياتهم هنا بالجزائر، شهادات العامل تمكنّا من تأكيدها بمقبرة المسيحيين ببولوغين التي وجدنا بها زوجا متقدما في السن يتجولان بين الأضرحة بحثا عن قبر أحد الأصدقاء يعود إلى الفترة الاستعمارية، وحسب تصريح الزوج "استغربت عندما سألت عون الاستقبال بالفندق الذي نزلت فيه عن مصير المقبرة القديمة، حيث أكد لي أنها لا تزال مفتوحة ويمكني زيارتها في أي وقت، ولا أنكر أنني وجدتها في حالة جيدة بعد اهتمام السلطات بها طوال هذه السنوات".