لدى إسرائيل رغبة جامحة في تشويه سمعة ريتشارد غولدستون، عقاباً له على تقريره الصادر عن الأممالمتحدة الذي يدين فيه الهجوم الإسرائيلي على غزّة في العام الماضي. هكذا، أثارت حكومتها ضجة إعلامية كبيرة حول الإعلان الذي كشفت فيه، في وقت سابق من هذا الشهر، عن أن غولدستون حكم بالإعدام شنقاً على 28 رجلاً أسود وجلد أربعة، حين كان قاضياً في جنوب إفريقيا خلال نظام الفصل العنصري. قد يشعر المسؤولون الإسرائيليون بأن حسّهم الأخلاقي أقوى من حس نيلسون مانديلا، الذي على رغم معرفته بسجل هذا القاضي، احترم مناهضته الناشطة للفصل العنصري لاحقاً لدرجة أنه عيّنه قاضي المحكمة العليا في البلاد. فضلاً عن ذلك، قد يشرحون كيف أن تعامله بقساوة مع السود دليل على انحيازه إلى الفلسطينيين. لكن سيكون من الصعب عليهم تجاهل واقع أنه حين واجهت جنوب إفريقيا عقوبات دولية شاملة، استمر بلد واحد، إسرائيل، في تزويدها بالأسلحة بكميات كبيرة وساعدها على تطوير قنبلة نووية. نمّ هذا السلوك عن واقعية سياسية تقليدية قائمة على المصالح الخاصة، لأن جنوب إفريقيا كانت بحاجة إلى السلاح، بينما احتاجت إسرائيل إلى اليورانيوم والعملات الأجنبية بعد كارثة حرب أكتوبر في العام 1973. لذلك باعت إسرائيل جنوب إفريقيا أسلحة، مشاطرةً إياها معرفتها بالصناعة النووية ومحوّلة كعكة اليورانيوم الصفراء التي أنتجتها جنوب إفريقيا إلى البلوتونيوم الضروري لصناعة قنابلها. لكن تجذُّر ذلك التعاون وديمومته يدلاّن على كيفية إمكان تحوّل الواقعية السياسية إلى (Weltanschauung)، المصطلح الذي أراد به النازيون الإشارة إلى »الرؤية العالمية«. لعلّ المتعاطفين النازيين ساعدوا على دفع مؤسسي نظام الفصل العنصري إلى السلطة، لكن الرسائل بين القادة في إسرائيل اليهودية وجنوب أفريقيا البيضاء، والمدرجة في كتاب »التحالف غير المُعلن: علاقة إسرائيل السرية بجنوب إفريقيا خلال نظام الفصل العنصري« من تأليف ساشا بولاكوف سورانسكي، بانتيون، تظهر قناعةً مشتركة: »في تلك المرحلة، كانت ثمة أمّتان صغيرتان محاطتان بجماعات عدائية، وكلّ منهما تقاتل من أجل أرضها وهويتها، وتقف كما المتراس ضد بناء الإمبراطورية السوفياتية. حتّى بعد أن فرضت إسرائيل هي أيضاً عقوباتها على جنوب إفريقيا في العام 1987، حرصت على عدم المس بعقود الأسلحة التي وصلت قيمتها إلى ملايين الدولارات سنوياً، وظلّت سارية المفعول إلى ما قبل تفكّك نظام الفصل العنصري في العام 1994 بوقت قصير. معظم هذه القصّة معروف، لكن الكاتب، يسلّط الضوء على العلاقات الشخصية ويظهر كيف تجاوز اللاعبون العقبات الأخلاقية والعوائق السياسية، وذلك عبر استخدام روابطه العائلية لإجراء مقابلات والاطلاع على الوثائق المنزوعة السرية حديثاً في جنوب إفريقيا. يُشار إلى أن الإسرائيليين الذين عقد رئيسهم الحالي، شيمون بيريز، أولى صفقات الأسلحة الأولى فيما أدان في الوقت عينه نظام الفصل العنصري علناً، لم يبدوا استعداداً كبيراً للتعاون في هذا الصدد. هذا ويسد الكاتب فجوات عدّة، مثل الاتفاق السري الذي وافقت جنوب إفريقيا بموجبه على رفع الشروط الوقائية عن نحو 450 طناً من الكعكة الصفراء التي باعتها لإسرائيل للاستخدام المدني، في مقابل حصولها على كميات من مادة التريتيوم المصنوعة في إسرائيل لتطوير قنابلها النووية. وحين هدد إفلاس أحد الوزراء الوشيك في جنوب إفريقيا بإنهاء الاتفاق، ارتأت إسرائيل إنقاذه كي يستطيع الحفاظ على وظيفته. يتضمن هذا الكتاب سرداً بارعاً، سريعاً، منوّراً، وبالأخص حيادياً، لكنه لا يتّخذ موقفاً مثيراً للجدل إلا في الخاتمة حيث يحذّر الكاتب من أن إسرائيل قد تلقى مصير جنوب إفريقيا إن لم تحسّن سلوكها تجاه الفلسطينيين. عبر أخذ سلوكهم الغاضب إزاء غولدستون في الاعتبار، يتبيّن أن المسؤولين الإسرائيليين يعلمون ذلك جيداً، لكنهم لا يزالون يعتقدون بأنهم يستطيعون التبجّح بما صنعوه للنجاة بفعلتهم.