"الصغير"الذي تعلم الرفض يوم الميلاد على الرغم من الدراسات والمذكرات والشهادات التي ظهرت منذ الاستقلال إلى اليوم في الداخل والخارج عن المراحل الحاسمة التي سبقت الثورة التحريرية المباركة وهي:مرحلة الحركة الوطنية، مرحلة 1945 - 1954، ثم مرحلة الثورة التحريرية 1954 - 1962 (تفكيرا وإعدادا وتنفيذا)، فإن الغموض ما زال يلف الكثير من جوانب هذه المراحل سواء من حيث أهدافها أو من حيث توفر وثائقها وتحليل عناصرها وتقييم رجالاتها. وتعد حركة انتصار الحريات الديمقراطية من العناصر البارزة الحساسة في تاريخ الحركة الوطنية وثورة نوفمبر المباركة وتركيبتها البشرية في حاجة إلى تحليل خاص (جماعات أو أفراد) ليس فقط من جهة الانتقاء والولاء والثقافة، وإحياء للذكريات بكثير من الحماس والغيرة، دون بذل الجهد في الدراسة والتحليل والاستنتاج، لأن ثورة نوفمبر 1954 لم تسقط من السماء كما وصفها الشهيد محمد بوضياف. فقد كان وراءها فتية آمنوا بربهم وبشعبهم وبوطنهم وبحتمية الانتصار، فقد دفعوا دمهم وصحتهم ووقتهم وأموالهم وأنفسهم من أجل تحقيق هذا الهدف العزيز، وهو الاستقلال الوطني التام وتأسيس دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية ذات سيادة ضمن المبادئ الإسلامية. ولم يكن التحضير للثورة سهلا أو ممكنا في ذلك الوقت عند الكثير من الناس، داخل الحركة الوطنية نفسها نظرا للوضع العام في الجزائروفرنسا. ففي داخل الحركة كانت هناك ملابسات سياسية وحوارات إيديولوجيا لا تبعث على التفاؤل لا سيما منذ ظهور ما اصطلح عليه بالأزمة البربرية سنة 1949 ثم اكتشاف المنظمة الخاصة (OS) سنة 1950 وما وقع من مشاحنات سياسية داخل الحركة منذ سنة 1952بسبب الخلاف حول من يقود الحركة و حول تأجيل إعلان الثورة أو التعجيل بها ..إلخ بالإضافة إلى الوضعية الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية و التعليمية و الصحية للمجتمع الجزائري التي كانت سيئة جدا. في عمق هذا التفكك و الانشطار و التخاذل و الضياع و الصراع السياسي و الاختلاف حول أساليب الكفاح ظهرت مجموعة من الشباب كانت تعيش في الخفاء والإقصاء والنسيان من قيادتها المعول عليها ففكروا وتدبروا وحضروا ففجروا ثورة نوفمبر 1954 وعقدوا العزم على أن تحيا الجزائر حرة مستقلة تضللها شجرة الحرية التي تسقى بدماء الشهداء. وقال بن مهيدي مقولته الشهيرة -ارموا بالثورة إلى الشارع و سوف ترون كيف يحتضنها الشعب-. فكانت ثورة نوفمبر 1954 الشاملة المعبرة عن البعد الوطني التي ميز تنظيمها في المدن والقرى والأرياف والشرائح الاجتماعية المختلفة وفي الداخل والخارج. وتم التقسيم الجغرافي على مستوى التراب الوطني والتمثيل الخارجي وتم توزيع المسؤوليات كالآتي. ويعد آخر لقاء لمجموعة الستة قبل اندلاع الثورة ذا أهمية كبيرة جدا حيث تم ضبط اللمسات الأخيرة لانطلاق الثورة والمتمثلة في الآتي: 1-ضبط الخط السياسي للحركة السياسية الجديدة –جبهة التحرير الوطني- واعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الجزائري في حربه ضد النظام الاستعماري الاستيطاني الفرنسي وأعوانه. 2-ضبط النظام العسكري للحركة السياسية من خلال تأسيس جيش التحرير الوطني. 3-ضبط الأساليب التنظيمية والإجراءات المصاحبة لاندلاع الكفاح المسلح في الداخل والخارج. 4-التحرير النهائي لبيان أول نوفمبر 1954. 5-توزيع المهام والمسؤوليات على أعضاء اللجنة الستة، مع ترك حرية المبادرة وهامش المناورة لكل مسؤول وفقا للظروف والمستجدات. 6- تحديد تاريخ بداية العمليات العسكرية المسلحة المعلنة عن بداية الثورة التي لا تتوقف إلا بعد تحقيق الاستقلال الوطني. إن هذه التحضيرات والقرارات المتخذة جاءت بعد مخاض عسير، لم تكن سهلة كما قد يتصورها البعض، وجاهزة على طبق من ذهب. لقد كانت نتيجة نضال وجهاد وأيام قاسية ومتعبة دفع فيها هؤلاء وغيرهم أغلى ما يملكون وهي الشهادة في سبيل حرية الوطن و سيادته ومن هؤلاء الذين فكروا و حضروا و خططوا وأشرفوا على انطلاق الشرارة الأولى لثورة نوفمبر المظفرة الشهيد البطل مراد ديدوش. مراد ديدوش الابن الأصغر لعائلة مكونة من ثلاثة أولاد كان والده أحمد، يملك مطعما شعبيا صغيرا وسط العاصمة. وتشاء الأقدار أن يولد مراد في يوم 14 جويلية 1927 والذي يصادف العيد السنوي للثورة الفرنسية، ولكن وطنية الأب واعتزازه بدينه وكرهه للاستعمار، وعملائه خاصة جعله يسجله بالبلدية على أنه ولد يوم 13 جويلية 1927 بدل الرابع عشر. وتكون بذلك هذه الحادثة بمثابة درس لقنه الشيخ " أحمد" لابنه الأصغر في الوطنية حتى لا يحتفل بعيد ميلاده يوم 14 جويلية، وعند بلوغه أربع سنوات أخذه أبوه عند الشيخ أرزقي ليلقنهُ القرآن الكريم ولما بلغ سن السادسة سنة 1933زاول دراسته الابتدائية بالعاصمة(بالمرادية) التي تحصل فيها سنة 1939 على الشهادة الابتدائية لينتقل بعدها إلى المدرسة التقنية"بالعناصر" حيث درس إلى غاية سنة1942 حيث يقرر مراد الانتقال إلى قسنطينة لمواصلة دراسته فيها وسنه 16سنة وهنا في قسنطينة بدأ مراد يتعاطى السياسة مع بعض زملائه في خلايا حزب الشعب الجزائريبقسنطينة وكان ذلك جليا في رسالة بعثها لأسرته والتي أثارت دهشة شقيقه "عبد الرحمن" الذي قال:" لقد بعثناه ليدرس فلماذا يتعاطى السياسة"؟فأجابته الأم بحنان :" ذلك هو قدره..." . في سنة 1944 يلتحق مراد بمؤسسة السكك الحديدية بالعاصمة بعد حصوله على شهادة الأهلية وذلك كموظف في إحدى محطات القطار بالعاصمة وينخرط في نقابة العمال، وبعد شهور قلائل، أشرف مع نخبة من شباب الحركة الوطنية على مظاهرات الأول من شهر ماي 1945 بالعاصمة، وينضم إلى حزب الشعب الجزائري وحركة انتصار الحريات الديمقراطية بصفة دائمة ويغادر بذلك مؤسسة السكك الحديدية في منتصف سنة 1945. من هذا التاريخ إلى غاية سنة1948 نشط الشهيد في عدة جوانب بدءا من النشاط الكشفي حيث أسس سنة 1946 فرقة للكشافة الإسلامية الجزائرية، ثم انظم إلى المنظمة المسلحة(os)، وسنة من بعدها أنشأ ناديا رياضيا لمختلف الرياضات سماه"راما" "Rama"، الراسينغ الرياضي الإسلامي الجزائري والذي كان لاعبا فيه بالإضافة إلى كونه المشرف عليه ماديا، تنظيميا. ثم جمد نشاطه بعدما قرر الحزب إرساله إلى قسنطينة حيث عين كمسؤول للحزب على مستوى عمالة قسنطينة سنة 1948. وقد اشتهر آنذاك باسم"LePetit" لقصر قامته (1.68 م تقريبا) وهو الاسم الذي ظل أولاد الحي وكل من عرفه في تلك الفترة ينادونه به حتى من الميدان النضالي والسياسي. مكث في قسنطينة مدة سنتين نشط خلالها في كثير من القرى والمد اشر المحيطة بقسنطينة وخاصة قرية "السمندو" وقرية " بيزو" التي تحمل إسمه اليوم، إلى غاية التحاقه بجبال الأوراس رفقة نخبة من شباب الحركة الوطنية لأسباب أمنية، ليتدربوا هناك على السلاح. وفي سنة 1952، يرجع ديدوش إلى العاصمة ليعين كمسؤول في ناحية البليدةوفي تلك الفترة أثبت لكل من عرفه أنه صاحب مغامرة وشجاعة نادرا ما تكون عند المسئولين. ثم قرر الحزب إرسال ديدوش إلى فرنسا رفقة محمد بوضياف، باسم مستعار فكان" قاسي عبد الله عبد الرحمن" هو اسمه الجديد، بعد أن حكم عليه غيابيا بعشر سنوات لانتمائه للمنظمة الخاصة (os). ويمكث بفرنسا إلى غاية 1954ثم يرجع إلى أرض الوطن أشهرا قليلة قبل اندلاع الثورة ليساهم في إنشاء اللجنة الثورية للوحدة والعمل، ثم مشاركته في اجتماع 22ويعين في أكتوبر من نفس السنة مسئولا على منطقة قسنطينة للإشراف على تفجيرات الثورة بالمنطقة الثانية، وليعرف هنا باسم: السي عبد القادر. وكان مراد ديدوش أصغر الستة المفجرين للثورة وهم: بن بوالعيد، بن مهيدي، بوضياف، كريم، بيطاط، ديدوش. وكان الشهيد من الأوائل الذين سقطوا في حرب التحرير وذلك يوم 18جانفي1955 بعد معركة بوادي بوكركار خاضها رفقة 17 مجاهدا يرأسهم بنفسه وبمساعدة زيغود يوسف الذي سلمه ديدوش كل الوثائق وأمره بالإنصراف قبل أن يستشهد وتصدق مقولته ويبرهن للجميع أنه عاش بحق من أجل الجزائر ومات من أجلها ولم يحمل في قلبه غير حبها وحب أبنائها المخلصين لها، وهو صاحب مقولة: إن الشعب سيروي عنا الأساطير.