"قراقوز" أوعندما يتحول الكابوس إلى حلم جميل بإمكان الكوابيس أن تتحول إلى حلم جميل في اليقظة، لأن أشعة الشمس تحرص على نشر بصيص الأمل مع مطلع كل صباح، مثل ذاك الصباح الذي خرج فيه محرك عرائس القراقوز لزرع البهجة في قلوب أطفال قرية معزولة بين أحضان طبيعة مترامية لكن أحداث مفاجئة تتلاعب بمصير دماه و تتسبب في ضياعها جميعها ليضطر في الأخير إلى الاعتماد على حلم ابنه لإنقاذ الموقف. كل العناصر الفنية اجتمعت لتجسد واقع تمكن المخرج الشاب عبد النور زحزاح من إعادة كتابته بلغة سينمائية راقية بإيحاءات بانتصار الأمل وانقشاع الغيوم لبروز نهار جديد بجزائر عانت شتى أنواع المعاناة بين الفقر و الفساد و التطرف الديني فكاد يحرم البراءة من حق المتعة بالحياة و الطفولة بأسمى معانيها لولا إصرار محرك الدمى "مختار"على تجسيد عرضه لرسم البسمة على شفاه الصغار مهما كلفه ذلك من ثمن بدأه بتقديم إحدى العرائس المفضلة عند ابنه نبيل و التي كان طيلة مسافة معتبرة ردد خلالها دوره كطفل باستعارة صوته للقراقوز "كيكو" كهدية لطفلة بالعائلة التي ساعدته في الحصول على بعض الماء الذي كان بحاجة إليه لإعادة تشغيل محرّك شاحنته القديمة و الذي تعب أحد أفراد العائلة في جلبه من بعيد على ظهر حماره بين المسالك الجبلية الوعرة، و التي نقل من خلالها المخرج المشاهد إلى الجزائر العميقة التي لا زال سكانها يواجهون الصعاب من أجل جرعة ماء، قبل أن يواصل طريقه بين ألوان الطبيعة الساحرة و الهادئة لحد الخوف و الشعور بغربة المكان في إسقاط واضح على ما يحدث على أرض الواقع من متاهات مرة بين فساد و طمع رجال الأمن الذين لا يترددون في أخذ أبسط شيء عنوة من المارين عبر الحواجز الأمنية التي بدل أن تضمن الآمان للمسافرين باتت تثير استياءهم و خوفهم و هم يجرّدون أو يرغمون على تقديم رشوة لتفادي تغريمهم ظلما مثلما حدث مع والد نبيل الذي أرغم على مفارقة ثاني أعز دمية إلى قلب ابنه و هي "ميمية" التي ملأت الفراغ الذي تركه "كيكو" و وجد فيها نبيل ما يعوّض به دوره في العرض قبل أن تأتي أيدي رجل الأمن و تأخذها عنوة كهدية لابنته كما قال بكل جرأة. و لم تتوقف مواقف الصدمة بالنسبة لنبيل عند هذا الحد بل استمرت إلى ما هو أخطر وصلت القصة من خلالها إلى عقدة ثالثة اختصر فيها المخرج ظاهرة التطرف في لحظة توقفه لمساعدة مجموعة من الرجال فاتهم وقت الصلاة فنقلهم على متن شاحنته لاختصار الوقت و المسافة و بدل أن يشكروه على خدمته أخذوا ينتقدون احترافه لما وصفوه بعمل الشيطان لأن الفن في نظر المتطرفين حرام و من عمل الشيطان و راحوا يمزقون و يدمرون عرائسه التي صنعها بكل حب و حماس ليجد نفسه أمام أطفال متعطشين للمسة سحر تنسيهم مآسي أكبر من أعمارهم دون مصدر بهجتهم"عرائس القماش" ، و لولا روح الفنان المبدع و بذرة النجومية التي غرسها في ابنه نبيل لما تمكنا من ضمان العرض و إبهاج البراءة التي كانت تنتظر قدومه بشغف يتخلله شك و عدم ثقة في وصول صاحب العرائس إلى دشرتهم البعيدة في مثل الظروف الصعبة التي عاشتها البلاد منذ فترة. و ربما بدا الإيقاع رتيباً في المشاهد الاستهلالية للفيلم لكن الأمر المؤكد أن كل شيء كان محسوباً بدقة في "القراقوز" ،سواء من حيث السيناريو المُقتحم بلا تردد ،والحوار الرصين أو الصورة التي لعبت دوراً كبيراً في تعميق المعنى وتوصيل الرسالة، والإشراف الفني الذي حافظ على وحدة الشكل والجوهر فكل العناصر اجتمعت في الفيلم لتجسد وتوصل معنى الصدمة على مستوى القول والفعل والصورة ، و في رسالة يغمرها الأمل في صورة كابوس يتحوّل إلى حلم جميل لأن مجموعة الأشرار التي رآها الطفل في منامه لم تتمكن من إيذائه بفضل والده الذي كان هناك لإنقاذه. "قراقوز" الفيلم القصير الذي لا تزيد مدته عن 24دقيقة نجح بحبكته في استقطاب اهتمام أعضاء لجان التحكيم و النقاد و المتابعين بمختلف التظاهرات السينمائية الدولية و أحرز على عدد معتبر من الجوائز منذ صدوره عام 2010 منها جائزة الفيلم القصير الفرانكفوني خلال مهرجان "فولز اون فلان" بفرنسا و جائزة الأهقار الذهبي لأحسن شريط قصير التي حاز عليها مناصفة مع المخرج التونسي ماليك عمارة خلال الدورة الرابعة لمهرجان وهران و غيرها من الجوائز كان آخرها جائزة الحصان الذهبي بالمهرجان الإفريقي للسينما والتلفزيون "فيسباكو" ببوركينا فاسو. مريم/ب