الشيخ قدور اليابوسي، أو كما يحلو لأصدقائه و ذويه أن ينادونه، قدور أوسكوم، نسبة إلى قريته سكوم، الكائنة عند مشارف بلدية يابوس بخنشلة، فنان خطا خطوات كبيرة نحو النجاح و التألق، فأصبح نموذجا يقتدي به بقية الفنانين في أداء الأغنية الأوراسية الشاوية الأصيلة التي ساهم في صنع مجدها و شهرتها في المحافل الكبرى، فهو صاحب رائعة «الدمام» أي الترجي، التي طالما ترددت كلماتها المؤثرة على كل لسان في منطقته و المناطق المجاورة، و ظلت مطلوبة في كل الحفلات و الأعراس و المناسبات، و رغم كل ذلك لم ينل قدور حقه الإعلامي، و عانى طويلا من التهميش، فهو لم يحظ حتى بالتفاتة تكريمية من الجهات المعنية. اليابوسي أدى أغنية «الدمام»، فلم يجرؤ أي فنان على تقليده في أدائها المميز ، كما اشتهر بأغنتي «عياشة ممي» و «طلي عليا» و غيرهما من الأغاني التي صدح بها بصوته الأوراسي الشجي الذي طالما فجر عواطفه الدفينة. بحثنا عن أغنية «الدمام» كثيرا في أرشيف الأغاني الأوراسية، فلم نجد لها مثيلا، فقيل لنا أن «الدمام»هي بمثابة رصاصة في القلب و من أكثر الأغاني المطلوبة في الأعراس و الحفلات التي يغني فيها، حتى أن بعض حساده أطلقوا عليه الرصاص في عرس، فأصيب في قدمه اليسرى، إلا أن ذلك لم يؤثر على عشقه للفن، بل كانت هذه الحادثة التي كادت أن تودي بحياته حافزا آخر له، لمواصلة مساره الفني الذي أصبح محفوفا بالمخاطر، بعد أن ذاع صيته و بلغت شهرته ما وراء البحار، وأصبح مطلوبا لدى الجالية الجزائرية بفرنسا، خصوصا وأن طابعه الغنائي يروي لوعة الغربة والفراق و قصص العشق و التضحية و الوفاء... تحدى ضغوط الرحابة و أنشأ فرقة «إثران» الشيخ قدور اليابوسي، اسم فني التصق بعبد القادر بورزام من مواليد سنة 1945 بقرية السكوم ببلدية يابوس دائرة بوحمامة، غرب مقر عاصمة الولاية خنشلة بنحو 75 كلم، يعيش حاليا حياة البادية البسيطة بين أفراد عائلته في بيته الريفي وسط بيئة خلابة ذات الأودية والقمم الجبلية التي زادها اخضرار الربيع جمالا على جمالها الذي يخيل للزائر الذي يراها لأول وهلة، بأنها لوحة فنية... من يريد أن يلتقي بالفنان، يكفي أن يسأل عنه أي شخص، سواء في مركز البلدية أوفي قريته، ليدله بسرعة عليه، فهو معروف بطيبة قلبه وببشاشته و مشهور بفنه الأصيل. عندما يقابلك لأول مرة و تتحدث إليه، خصوصا عندما تنبش في ذاكرته الفنية، يستجمع أنفاسه، و يحفز ذاكرته، ليعود به شريط الذكريات إلى بداياته الأولى، عندما كان في سن الرابعة عشر يقول: «كنت مولعا بالغناء مع فرق الرحابة التي تؤدي التراث المحلي في الأعراس. و الرحابة هي مجموعة من الأشخاص يؤدون الأغاني الجماعية، وبعد مدة كان يتم طردي من فرق الرحابة، و أهدد بالضرب إذا اقتربت مرة أخرى من أي فرقة للرحابة، ربما يعود ذلك إلى صوتي الشجي المميز الذي لم يستسغه بقية المغنيين». كان الشيخ عبد القادر، أو قدور، يغني بصوت قوي و شجي و كانت كلمات الأغاني تنبع من أعماق وجدانه و ذكريات طفولته البريئة التي عبر عنها بميلاد لون غنائي جديد في المنطقة. لقد كان يحاكي قصص العشق في الزمن الأوراسي. لقد اضطر للتريث والتفكير طويلا في كيفية اجتياز العقبات التي كانت حاجزا أمام بروزه كفنان مبدع، إلى أن تلقى دعوة في سنة 1973 من أجل حضور عرس لأحد أبناء المنطقة و قد دعي أيضا الفنان الأوراسي الكبير محند أو ساكر. حضر الحفل أيضا الكثير من الضيوف من الجزائر العاصمة، وأتيحت له فرصة الغناء في تلك الليلة التي كانت بمثابة انطلاقته الأولى، بعد نجاحه في أداء أغان تفاعل معها الجمهور، وهو ما جعل صاحب العرس يلتمس منه مواصلة الغناء، تلبية لطلب مدعويه من العاصمة، فكانت فرصته لتفجير طاقاته والتعبير عن عواطفه الجياشة بأداء ألحان أوراسية لأغان مستلهمة من تراث والده الذي كان هو أيضا فنان و اسمه محمد بن سعيد. هذا العرس كان سببا في مواصلة قدور اليابوسي مساره الفني بكل حرية في الأعراس والحفلات. و تمكن من تجاوز ضغوط مغنيي الرحابة الذين أرادوا قطع الطريق أمامه، حتى لا يكون معروفا في الوسط الفني. المغني الشاب أصبح حديث العام والخاص بين الأعراش وحتى بين الولايات الشرقية المجاورة، إلى غاية تمكنه من الفوز بفرصة الغناء في الجزائر العاصمة، بعد أن أسس فرقته المشهورة «إثران»، أي النجوم و لازمه الفنان العازف الشهير على آله القصبة عبروز الذي قيل عنه بأنه الرجل الذي يجعل القصبة تنطق ، في إشارة إلى براعته في العزف عليها، ليرافقه في مشواره الفني و يشارك معه في عدة مهرجانات و معظم الحفلات والأعراس وحتى في التسجيلات الفنية التي قام بها الفنان قدور اليابوسي في تاجنانت، بأحد أستوديوهات التسجيل سنتي 86 و87 حيث سجل مجموعة من أغانيه التي نالت شهرة كبيرة. قصة «الدمام» في سنة1976 ،دعي قدور اليابوسي إلى إحياء عرس بعرش أولاد سعيد ببلدية الرميلة، فرافقه العازف على آلة القصبة عبروز، وكان قد أبدع في أغنيته الشهيرة «الدمام» التي يقال بأن لا أحد من الفنانين تجرأ بعده على أدائها بالشكل الفني الذي أداه بها. و أكد عمي قدور للنصر، بأن مشاعره امتزجت بدموعه و هو يؤديها، فكانت قنبلة فنية في زمانه ولا تزال إلى غاية اليوم تبكي الكبار من الشيوخ والنساء، ممن يفهمون جيدا كلماتها الشاوية الأصيلة، فهو ينفرد بها وكانت، حسب العارفين، بمثابة نقلة نوعية في الأغنية الشاوية بمنطقة الأوراس، خصوصا في ولايتي خنشلة و باتنة. كانت هذه الأغنية حدثا فنيا كبيرا لدى سكان الأوراس الكبير ومن هنا أصبح اسمه مرتبط ب» الدمام»و كان نزول شريطه الأول حدثا آخر في تاريخ الأغنية التراثية الأوراسية لتتوالى بعدها أغان أخرى على غرار «عياش»، «انتش بلسيغ» ،بمعنى لقد جرحت، وهي اغنية من رحم الثورة الجزائرية. أما أغنية «عياش» فهي تحاكي أسطورة تاريخية يرددها سكان المنطقة. بينما تجسد كلمات أغنية «الدمام» طلب ابن من والدته أن تعود إليه، و هي بمثابة اختزال لمساره الفني الممزوج بالكلمات الحزينة و الموسيقى العاطفية المميزة التي أبدع فيها صديقه عبروز. في سنة 1979و بعد تأسيس الجمعية الثقافية «يابوس للتراث والفلكلور» تنقل رفقة أعضاء الجمعية إلى الجزائر العاصمة، للمشاركة في مهرجان الأغنية الجزائرية مع الفنان المرحوم ابن منطقته الفنان الهادي بهلولي و العازفين الحاج زريبة و عبروز. و بعد اختتام فعاليات المهرجان تم إحياء حفلات أخرى عديدة بناء على طلب المنظمين، و أصبح عمي قدور مطلوبا في كل مكان ينزل فيه، بعد أن تألق في سماء الأغنية الشاوية التراثية. فنان في قبضة النسيان زارت النصر هذا الفنان بمنزله بالسكوم، تقديرا و عرفانا لما قدمه للتراث الفني الذي لم ينصفه بعد، لقد تقدم به العمر و وجد نفسه مهمشا، إعلاميا و اجتماعيا و ثقافيا، بالرغم من دوره الكبير في إثراء و تطوير الأغنية الشاوية و التعريف بجمالياتها، بشهادة كل من يعرف هذا الصوت الغنائي المميز. قدور اليابوسي قال أنه رغم بلوغه 73 سنة، إلا أنه لا يزال يحن إلى الغناء، لكن أصدقاءه ممن رافقوه في مساره الفني خذلوه وتخلوا عنه.مضيفا بأن أحد العازفين على آلة القصبة، قام بتسجيل الأغاني الخاصة به التي اشتهر بأدائها بين الناس،دون خجل أو وجل باسمه وهو ما يعاقب عليه القانون. و تابع محدثنا بنبرة حزن و أسف بأن العديد من رفاق دربه الطويل، بحثوا عن الشهرة باستغلال اسمه الفني وأغانيه التي سجلها في عديد الأشرطة، لكنه لم ينل حقوقه الفنية ولم يفكر أي أحد في إنصاف هذا الرجل المبدع صاحب الملامح الأوراسية الأصيلة، ما يحز في نفسه. لقد كان نجما ساطعا في الزمن الجميل، لكنه يعاني الآن من التهميش و اللامبالاة و الوحدة، بعد أن خذله أصدقاؤه، و تناسته الجمعيات الثقافية، و وسائل الإعلام و كذا الجهات الوصية المعنية و لم تفكر أيه جهة في التفاتة قصيرة لإنصافه.