هل أصبحت الرواية اليوم واجهة الثقافة العربيّة؟، وهل هذا الحضور الكثيف للروايات التي تخرج يوميا من المطابع يدل حقا على ازدهار هذا الفن، وعلى ازدهار القراءة والمقروئية في العالم العربي، أم هو فقط ازدهار لا يتعدّى الحضور الكميّ بعيدا عن الحضور النوعيّ للمنتوج السرديّ؟. يرى الروائي مرزاق بقطاش، أن العدد الكبير من الإنتاج الروائي في البلاد العربية قد لا يبلغ المستوى الفنيّ، ولكنّه إنتاج ضروري لكي نستطيع الحكم على مدى ما تحقق في السّاحة الروائية العربية. من جهته يرى، الروائي عزت القمحاوي، أن هناك خلل في البنية الثقافية وصناعة النشر العربية، وهو السبب الأساسي في ظاهرة الوفرة الروائية التي لا تعكس ازدهارًا حقيقيًا لهذا الجنس الأدبي، بل انفلاتًا يشوش على القليل الجيّد من الروايات. أما الروائي محمد عز الدين التازي، فيرى أن الكم الروائي المنشور، يؤشر على طفرة نوعية تعرفها الرواية العربية. كما يرى الناقد والباحث محمد الأمين بحري، أن معظم الأعمال الروائية التي تُطبع وتجتاح الساحة العربية، لا ترقى فنياً ولا لغوياً ولا أدبياً لأن تُصنف ضمن أي جنس أدبي. في حين يرى الناقد الأدبي المغربي محمد معتصم، أن الكثير من الروايات التي تقذف بها المطابع تُصنف في خانة -ازدهار السرد الذاتي-، وأن التراكم الكميّ للرواية في الوقت الحالي، أسبابه انتشار دور النشر الصغرى التي تكاد تزيح من الطريق الدور الوطنية الكبرى، وانتشار التقنيات الجديدة من حواسيب ومصاحباتها وشبكة الانترنيت. أما الروائي برهان شاوي فيؤكد أنّ الكم العدديّ لا يعني ازدهار الرواية والمقروئية، لاسيما أن الروائي العربي ينشر من روايته ما بين (1000) و(2000) نسخة، وهذا الأمر مثير للسخرية. استطلاع/ نوّارة لحرش مرزاق بقطاش/ روائي و مترجم جزائري الإنتاج الغزير دليل على الثورة التي تحدث في أعماق الروائي العربي أحسب أنّ فنّ الروايّة استقر في البلاد العربيّة بعد أكثر من مائة عام على قدومه إلينا. البعض يظنون أنّ هذا الفنّ موجود في التراث العربيّ، ولكن الحقيقة غير ذلك. ما هو موجود في هذا التراث إنّما هو السرد، والسرد، مثلما هو معلوم، موجود في جميع الحضارات منذ أن عرف الإنسان كيف يوصل هذا الخبر أو ذاك إلى غيره من الناس. الجميل في الروايّة العربيّة هو أنّها صارت مِطواعة لينة بين يديّ الروائي العربي، مشرقا ومغربا. وليس أدل على ذلك من أنّه استطاع أن يُطورها ويتطور معها منذ بدايات السرد الأولى في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. ولقد صرتُ مؤمنا بأنّ فنّ الرواية، بمفهومه المعاصر، حلّ محل الشِّعر اللهمّ إلّا إذا تعلق الأمر بالشِّعر العموديّ، ذلك الذي ما زال يُطرب السامع والقارئ في نفس الوقت. والعدد الكبير من الإنتاج الروائي في البلاد العربية يكشف، حسب رأيي، عن استعداد الإنسان العربي لكي يعانق هذا الزمن بجميع مقتضياته. قد يكون هناك بعض الإنتاج الذي لا يبلغ المستوى الفنيّ، ولكنّه إنتاج ضروري لكي نستطيع الحكم على مدى ما تحقق في السّاحة الروائية العربية. إذ ليس من المنطقيّ أن تكون كلّ رواية يكتبها الأديب العربي في المستوى المطلوب فنيا وموضوعيا. نحن في حاجة إلى الكم قبل أن نصل إلى النوعيّة والجودة. وأومن بأنّ الرواية الجزائرية، سواء منها تلك التي كُتبت بالفرنسية أو بالعربية أو حتى بالأمازيغية، ناجحة على صعيديّ الفنّ والموضوع. وكذلك الشأن بالنسبة للكثير من الروايات التي صدرت في المشرق العربيّ خلال النصف الأخير من القرن العشرين ومطالع هذه الألفيّة الثالثة. الرواية العربية، حسب نظري، ما زالت تحترم نفسها إن جاز التعبير، بمعنى أن الروائي العربيّ لم يأخذ بأسباب السرد المعمول به اليوم في العالم الغربي، وفي أمريكا بالذات. هذا الروائي الغربي صار يكتب وعيناه مصوبتان نحو السينما، أيّ إنّ معظم ما يكتبه يبتعد عن الشاعرية التي يتطلبها الفنّ الروائي. وهذا، والحمد لله، ما لم يحدث الآن في الرواية العربية مشرقا ومغربا. إنّني أشعر بأنّ هذا الفنّ بخير عندنا، وقد استطعنا تطويعه وفقا لأذواقنا وأفكارنا ولمتطلبات مجتمعاتنا العربيّة. ويبقى النقد الأدبيّ عاجزا عن مواكبة هذا الفن. هذا ينهج نهج الواقعية، وذاك نحو النقد التطبيقي، وثالث يحذو حذو النقد الماركسي القديم وهلم جرا. في حين أن الرواية العربية صارت تتجاوز ذلك كله. أوجز القول فأشير إلى أنّ الإنتاج الروائي العربي الغزير في أيامنا هذه دليل على الثورة التي تحدث في أعماق كلّ روائي عربي حيال ذاته وحيال مجتمعه وواقعه السياسي. وكلّ ذلك يبشر بخير. عزت القمحاوي/ روائي مصري التحلي بالحياء من شأنه أن يحجب ثلاثة أرباع ما يُنشر في روايتي «غرفة ترى النيل» يقول رفعت بطلها المُحتضر: «نحن لا نكتب إلا بما نملك من صفاقة». ظلّ رفعت روائيًا مؤجلًا، لم ينشر شيئًا لأنّه كان في كلّ مرة يهم بارتكاب هذا الفعل يُفكر بعدد الروايات الجميلة التي قرأها فيستحي «ماذا بوسعي أن أقدم بعد كلّ هذا الجمال؟!»، وهكذا مات من دون أن يعثر في داخله على قدر من الصفاقة يعينه على نشر رواية. أظن أن التحلي بشيء من الحياء من شأنه أن يحجب ثلاثة أرباع ما يُنشر من روايات لا تتوفر على الحد الأدنى من شروط الكتابة الروائية، وهذا افتراض خيالي بالطبع، فليس بوسعنا التعويل على الوازع الذاتي لدى من أدركه ولع الأدب كي يتخلى عن ولعه. على أن رغبة المواطن الصالح في أن يصبح كاتبًا ليست كافية وحدها لتحويل نزوته إلى كتاب مطبوع. هناك بالطبع خلل في البنية الثقافية وصناعة النشر العربية، وهو السبب الأساسي في ظاهرة الوفرة الروائية التي لا تعكس من وجهة نظري، ازدهارًا حقيقيًا لهذا الجنس الأدبي، بل انفلاتًا يشوش على القليل الجيّد من الروايات، كما يصيب الأجناس الأخرى من الإبداع والفكر بظلم واضح. نحن أمام بنية ثقافية كاذبة، ولابد لمن يؤمن بالأنساق أن يعترف بأن الكذب الثقافي طبيعي لأنه جزء من النسق السياسي الاجتماعي، فعندما يكون البرلمان يشبه البرلمانات من حيث الشكل فحسب، وتكون الانتخابات صورة زائفة عن الممارسة الديمقراطية، من الطبيعي أن تكون الثقافة مجموعة من الإجراءات والمؤسسات التي تقوم بانتقاء السطحي والزائف المنسجم مع نسق الزيف العام. خلال عقود طويلة كانت هناك دائرة مغلقة قوامها المؤتمر والمجلة والشاشة، تلح على بعض الأسماء، فأصبح لدينا الروائي الشهير رغم أنه بلا قُراء، ومع الوقت يصبح هذا الشهير قدوة للمنتسبين الجدد، وتصبح طريقته طموحًا لديهم. بعد ذلك دخل المتغير الجديد الحاسم، وهو الجوائز ذات القيمة المادية الكبيرة بالتزامن مع تحول إيجابي في المجتمع العربي تمثل في تزايد الرغبة في القراءة، وهكذا لم تعد الزعامة الروائية معلقة في الهواء كزعامة القذافي، بل صار هناك قراء، وجدوا النوع الزائف هو المعمم، أي الأقرب من أياديهم. وطالما تعلق الأمر بالشهرة، فقد اجتذبت الظاهرة الروائية مشاهير حازوا شهرتهم من مجال آخر، منهم على سبيل المثال عمرو خالد، الداعية المصري الذي يجمع بين تقنيات الدُعاة وأساليب نجوم التنمية البشرية ومطرب الراب المصري زاب ثروت. وكان من الممكن أن تنكسر هذه الدائرة على أبواب دور النشر، لو كانت لدينا تقاليد نشر مهنية، لكن صناعة النشر لن تخالف النسق، وليس بوسعها أن تخرج وحدها على منظومة الزيف، فصارت الدور مشدودة لا إلى الرغبة في ترسيخ كتابة تؤمن بها، بل في الاستفادة من شهرة المشهور توزيعيًا، والنشر لكلّ من لديه استعداد لتمويل طباعة كتابه! وهكذا صارت لدينا الوفرة الخطرة التي يعدها البعض ازدهارًا!. محمد معتصم/ ناقد أدبي مغربي الكثير من الروايات التي تقذف بها المطابع يوميًا خالية من القيمة و النوعية بات من المؤكد أن صعود أو تراجع الأجناس يرتبط بحركة المجتمعات ودرجة اهتمام القارئ، والفئة المتحكمة، والتي تفرض ذاتها ووجودها وثقافتها باختيار جنس أدبي معين للتعبير عن ذاتها، في تجاوز لفئة اجتماعية وبنية فكرية سياسية ثقافية سابقة عنها، وقد توفرت في العقود الثلاثة الأخيرة أسباب تراجع الاهتمام بالشعر «رسميا» لفائدة «السرد» عموما، القصة والرواية والقصة القصيرة والقصيرة جدا. من بين الأسباب الرئيسية الخارج نصية، أو كما يُقال عادة، السوسيو ثقافية، ظهور أفكار جديدة سياسية وثقافية بدأت فيها الفئات الاجتماعية المتحكمة في دواليب الحكم في أهم الدول العربية والعالمية، تحصد نتائج مخططاتها القديمة بتقسيم العالم العربي، أو لنقل، إعادة تقسيم العالم العربي، وهذا يدل على أن الصوت الواحد والإيديولوجية الموحِّدة قد انتهت، ومن تبعات ذلك، خفوت الصوت الشعري، الحماسي، والمُحرض، على التجمع والمقاومة، وسمح بالعودة إلى الذات المنفردة، ولم يعد هناك التزام جماعي، وتخلّص الكاتب والكاتبة من قيد الدفاع عن المستضعفين أو حتى الإعلان عن موقف معين، والسرد، قصّة أو رواية، طويلا أو قصيرا وقصيرا جدا، يسهم في «استرسال الذاكرة» وفي تدفق «البوح الجمعي أو الفردي» الذي لا يقف في موقف أو زاوية محددة، لكنّه يقول ذاته وهمومه الخاصة والشخصية. ومن بين الأصوات المنفردة «شخصية أو جماعية»، نجد أن عددا من الروايات التي تقذف بها المطابع تُصنف بحسب رأيي الشخصي الذي لا يلزم أحدا، إلى: -ازدهار السرد الذاتي، السير الذاتية لكُتاب وسياسيين وشعراء، والسير الفكرية أو الذهنية، سير الاعتقال وتصفية المواقف والتخلص من كل التزام والمطالبة بالحق في التعويض عن النضال وعن سنوات الحبس، الروايات المتدفقة السرد، من قبيل البوح الشخصي بهموم شخصية... أيضا -ازدهار سرد- الانتماء العرقي أو القبلي أو الطائفي، لقد نُشرت روايات كثيرة في العقدين الأخيرين، بتشجيع من دور النشر أو بتحفيز الجوائز ومؤسسات موجِّهة تقترح موضوعات من هذا القبيل، من باب «حقوق الأقليات» المستضعفة في المجتمعات الطوليطارية، وهي أفكار مسمومة، تروم التفرقة تحت لواء تعدد وتنوّع النسيج المجتمعي، لأنّ السرد الحميم أو السرد المُلتاع، لابد أن يتجرف نحو الخصوصية الذاتية، التي تحتاج بالضرورة إلى التميز أو التمييز، بينها وبين الكيانات والثقافات والعرقيات المجاورة لها وبالتالي المفاضلة، والتفاخر، وهذه كانت من أسباب ازدهار الخطاب الشعري، تحت ما يُعرف «الشاعر لسان حال قبيلته» يذود عنها ويفاخر بها، أو «الشعر الذاتي» لأنّ الأنا تتعالى وتتسامق مفاخرة بمميزاتها وبتفوقها. كما نجد ازدهار السرد-الكتابة، وهو نوع من الروايات التي لا تتخذ موقفا من أي شيء ولا تحمل أية قضية إنسانية أو قومية أو اجتماعية، وتحتفي فقط بالكتابة والتنويع على الأشكال الخارجية، دون أن تمنح «الشكل» أي الصيغة السردية للخطاب الروائي حمولة فكرية تذود عن الحق في الوجود لكلّ الفئات الاجتماعية. مما سلف نستنتج أن التراكم الكمي للرواية في الوقت الحالي، يمكن قراءته من زاويات متعددة، بعضها يرتبط بالتطور الحاصل في البنيات التحتية، ومنها انتشار دور النشر الصغرى التي تكاد تزيح من الطريق الدور الوطنية الكبرى، وانتشار التقنيات الجديدة من حواسيب ومصاحباتها وشبكة الانترنيت الدولية، وفسح المجال أمام النشر الفردي والشخصي، ثم ظهور فئات سياسية وفكرية واجتماعية جديدة متحكمة في الميدان السياسي والاقتصادي والمالي التي لا تهتم كثيرا إلّا بالمظاهر وبالكم دون اعتبار للنوعية والقيمة، لأنّها فئات «لقيطة»، بدون قيم أو انتماء حقيقي، وإن كان الكم عادة يُنظر إليه بأنّه غير ذي أهمية تُذكر، فلا ينبغي الاستهانة به، فالكتلة علميا قادرة على إحداث التحوّل. وهذا الذي نجده الآن، فالتراكم ساهم، في الوقت ذاته، في ظهور أسماء روائية وروايات جيدة بتركيزها على القضايا الحقيقية الإنسانية والقومية والمجتمعية، وأتمنى حقا أن يكون قادرا على الإسهام في المقروئية وفي توسيع دائرة الاهتمام بالأدب والكتابة. والخلاصة أنّ الخطّاب الروائي يتقدم الخطابات الإبداعية إلّا أنّه في الحقيقة لا يسود، ولا يلغي وجود الخطابات الأخرى ومنها الخطاب الشعري. محمد عز الدين التازي/ روائي مغربي الإنتاج الكمي دليل تشكل خطاب روائي عربي جديد لا يشك أحد، قراءً ونقادا ومتتبعين، في التصاعد الهام الذي عرفته الكتابة الروائية في العالم العربي، من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وإلى اليوم. وهو تصاعد يرتبط بالإبداع الروائي، حيث تكاثر عدد الروائيين وتجدد بأسماء جديدة جاءت إلى كتابة الرواية، كما أن هذا التصاعد قد وجد في دور النشر العربية استعدادا لنشر الرواية أكثر من غيرها، وخاصة الشِّعر والقصّة القصيرة. يُضاف إلى ذلك، تعدد الجوائز العربية المخصصة للرواية، وتأسيس النقد الروائي بكل مناهجه واتجاهاته على تجديد المفاهيم وآليات مقاربات في اتجاه بناء نظرية للرواية العربية، هي التي يسمها بالرواية العربية الجديدة، لا على سبيل تقليد أو محاكاة الرواية الجديدة في فرنسا، ولكن من حيث تحديث أشكال الكتابة وتجديد خطاباتها وانفتاح عوالمها على المتخيّل والأسطوريّ والشعريّ، وتحطيمها للأشكال التقليدية بخلق أبعاد تعبيرية جديدة، من بينها احتواء الرواية لفنون أخرى، كالمسرح من خلال مسرحة الخطاب الروائي، والشِّعر من خلال شعرنته، والسينما من خلال اعتماد الوصف الروائي الذي يشتغل على الكتابة بالصورة، وغيرها من تجليّات تحديث الكتابة الروائية. إنّ الاشتغال الذي قام به العديد من الروائيين العرب، على بناء أشكال روائية جديدة، لم يكن بعيدا عن تشخيص الواقع واستلهام التاريخ والتراث. فالرواية العربية الجديدة لم يعد من سماتها أن تحاكي الواقع عبر مرآوية تعكسه، بل إنّ تشخيصه يتأتى من خلال تفجيره والنظر إليه من زوايا متعددة هي رؤيات الشخصيات للعالم، وأنماط وعيها ومسلكياتها في الحياة، ومعيشها ومتخيلها، وآمالها وإحباطاتها. كما أن استلهام التاريخ يضع حدا فاصلا مع الرواية التاريخية، لأن الاستلهام يدفع بالروائي إلى كتابة جديدة للتاريخ، تقوم على خرقه وتحويله يأخذ معنى جديدا يجعله ممتدا في الحاضر. أمّا التراث بأشخاصه المعروفين الذين يتحولون إلى شخصيات، وما يحيل عليه من وقائع وتوقعات، فقد أصبح مصدر استلهام آخر، يستلهم منه الروائي التراث العربيّ والإنسانيّ في أبعاده المتعددة وتجلياته المتباينة. نحاول هنا في عجالة رصد أهم تجليات الرواية العربية الجديدة، دون أن ننسى أن اجتهادات بعض الروائيين العرب، في خلق الأشكال وصوغ المضامين بما يجعل من الكتابة الروائية مغامرة تجريبية، قد تزامنت مع حضور روائيين آخرين ساروا على درب الرواية التقليدية ونمطيتها في محاكاة الواقع، وهو وضع طبيعي، يُغني تجارب الكتابة الروائية واتجاهاتها بين التكريس والتحديث. نلاحظ أن الكم الروائي المنشور من سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وإلى اليوم، يؤشر على طفرة نوعية تعرفها الرواية العربية، وما الكم الروائي سوى طريق للوصول إلى التحولات النوعية في الأشكال والمضامين. كما نلاحظ قلة الروائيين العرب، الذين أصدروا عشر روايات أو أكثر، وندرة الروائيين العرب الذين أصدروا عشرين رواية أو أكثر، بالنظر إلى تجربة الروائي العالمي نجيب محفوظ، التي تكونت من أزيد من أربعين رواية. إن الاشتغال على إنجاز كم من الروايات، يعني في تقديري توسيع عوالم الكتابة الروائيّة وتخصيب الواقع الاجتماعيّ وتنويع بناء الأشكال، وهي كلّها ما يرتبط بالروائي الذي يخلص للكتابة الروائية ويداوم على الكتابة والنشر. أما تقييم ما يُنتج عن ذلك من إنتاج فهو ما يقوم به النُقاد وما يقدمونه من دراسات ومقاربات. وأما مقروئية الرواية في العالم العربي، فهي على ضعفها ترتبط بأزمة القراءة لا بأزمة في الكتابة. محمد الأمين بحري/ ناقد و باحث أكاديمي جزائري هوس غذته الجوائز و السوق و البحث عن لقب من منظور النصف المملوء من الكأس أعتبر التدفق الطباعي المهول للأعمال الروائية فرصة لإبراز المواهب أكثر منه تمييعاً للجنس الروائي. لأنّ الأمر يتعلق بولادة فكر إبداعي لا يختلف كثيراً –كما قال سقراط- عن ولادة البشر، فإن أخذنا بهذه النظرة سنجد كثيراً من الأعمال تولد ميتة، وأخرى تعيش لفترة معينة قبل أن تنتهي صلاحيتها ويذهب ريحها، بينما هناك أعمال تفرض وجودها على الساحة، وأخرى تتجاوز حدود موطنها، وأخرى تخلد مع أبطالها وأصحابها وهكذا، والعامل الحاسم في مصائر ما يُكتب من أعمال هو القارئ دون منازع سواء كان هاوٍ أو أكاديمي، أو ناقد، أو مبدع. أما من منظور النصف الفارغ من الكأس، فقد كان هذا الركام الطباعي لما يُكتب باسم الرواية نِتاجاً لهوس صنعته عدة ظواهر تغذت منه وغذته في آن معاً، وسنستوقف هنا ثلاث منها: أولاً: ظاهرة الجوائز الأدبية المحلية والدولية، (سواء أكانت سياستها مُنصفة، فاختارت الأجدر، أم كانت مُجحفة فاختارت الأقل قيمة)، ويُتوخى في الجوائز حيث المبدأ أن تمحص الغث من السمين في هذا الركام. وتصنف الأحق بالتتويج في قوائمها الطويلة والقصيرة، من خلال شروطها ومعاييرها الترشيحية. فضلاً عن مكسب التكريس في الأوساط الأدبية، الصيت الإعلامي الذي يُزكي العمل الفائز وكاتبه وناشره، مما حفز هوس النشر لدى المثقفين ودور النشر على السواء. ثانياً: كساد سوق النشر وتحول كثير من دور النشر إلى مقاولات تُعلي معيار الربحية على معيار النوعية، وجودة المنشورات ففجرت السوق بأكداس لا ترى سوى عائداتها وجردها، دون محتواها وقيمتها الفنية، في غياب لِجان القراءة أو لِجان المراجعة اللغوية، أو التقنية، وغياب أية سياسة ومبادئ نشر على أساسها ترفض وتصوب أو تقبل المادة المقدمة إليها. وإن وُجِدت هذه الدور المحترمة نجدها مهجورة الجانب، ومغيبة في سوق النشر التي رهنتها الذهنية الربحية المقاولاتية. ثالثاً: انعكاس الظاهرتين السابقتين على جمهور المثقفين بتحول معظمهم إلى روائيين في وقت قياسي، (وقد كانوا في مجالات أخرى: الشعر، المسرح، الإعلام.. أو ميادين مجاورة كالتعليم، والإدارة.. دون نسيان فئة المثقفين البطالين)، وبروز ظاهرة: «أنا أنشر إذاً أنا روائي»، وهي ذهنية ناتجة مباشرة عن كساد سوق الكتابة والنشر وعدم وجود أي معيار أخلاقي أو احترافي يحكمها، وكان أول ضحايا هذا الوضع تلك الفئة التي تصر على النشر بغض النظر عن محتوى ومستوى ما يُنشر، بما أن الهم الأول والأخير هو حمل لقب «روائي». وسيناله طبعاً بمجرد طبع حزمة أوراقه سواء تمت قراءتها أم لا. فاجتاحت الساحة جموع غفيرة لركوب الموجة، وطباعة أعمال معظمها لا يرقى فنياً ولا لغوياً ولا أدبياً لأن يُصنف ضمن أي جنس أدبي. ومع ذلك يحملون لقب «روائي»، وتحمل أعمالهم عنوان «الرواية». وينشئون لها صفحات خاصة على مواقع التواص الاجتماعي، وتجد دوماً من يغرد لها افتراضياً، لكن.. مهلاً.. فذلك اللقب وتلك الطبعات والتغريدات وحتى الجوائز الممنوحة لن تشفع لأيّ كاتب مهما بلغ صيته، مادام الحكم الأخير بيد جمهور القراء، وهو من سيقرر إخراج هذا العمل من الميدان، واستمرارية ذاك الذي يفرض نفسه على الأذواق، وكم من الأعمال أُطيح بها وبأصحابها حتى بعد النشر والإشهار ونيل الجوائز.. فقط لأن هناك من يقرأ ويكشف أصالة العمل من زيفه، ولو بعد حين. وعلينا ألّا ننسى بأن للتاريخ الأدبي سجل ذهبي لا يدون إلا الأصيل مهما ندر وقل، وسلة مهملات تتسع لكل غث هزيل مهما تعاظم وكثر. برهان شاوي/ روائي عراقي الكم العددي لا يعني الازدهار و لا المقروئية في العالم العربي في عصرنا، وفي العالم كله، صارت الرواية هي الواجهة الحقيقة للكتابة الأدبية، قياسا إلى الشعر أو النصوص المسرحية أو القصة القصيرة. نعم، هذا الحضور الكثيف للروايات التي تخرج يوميا من المطابع يدل حقا على ازدهار هذا الفن عربيا مقارنة مع فنون الكتابة الأخرى، بل أن دُور النشر تعتذر أحيانا عن نشر المجاميع الشعرية.. وكما قلت فهي ليست ظاهرة عربية فحسب وإنّما عالمية، لكن في الغرب، ولأسباب عديدة لا مجال لذكرها، تدخل الرواية ضمن المشاريع التجارية، حيث يُعد لها ويخطط بدقة وترصد الأموال للدعاية لها، فمثلا هناك ما يُسمى ب»روايات محطات القطار» وهي روايات يشتريها المسافر ليقضي الطريق والوقت معها ثم يتركها عند النزول أو يلقيها في صفيحة القمامة.. أي روايات لا قيمة إبداعية لها، سندويتش أدبي. لكن مثل هذه الروايات تتصدر إعلانات دُور النشر العربية باعتبارها روايات أدبية ويُروج لها.. بل إنّ كُتّابها يتصدرون سماء الرواية العربية منذ سنوات!. في الغرب يتم صناعة الكاتب النجم بعناية، مثلاً.. دار النشر التي تبنت إصدار رواية «الجحيم» لدان براون اتفقت مع 30 مترجماً بكل لغات العالم، ودعتهم جميعهم إلى مكان خاص.. ووفرت لهم كلّ ما يحتاجونه، وبدأوا بالترجمة سوية. مشترطة أن لا يسرّبوا أيّ شيء من ترجمتهم، وأن ينقطعوا عن العالم.. محددة تاريخاً موحدا للانتهاء من الترجمة بجميع اللغات.. ويوما محدداً لإصدار الرواية ونزولها إلى المكتبات بكل اللغات.. وطبعا رافق ذلك دعاية هائلة وتسريبا لهذه المعلومات المثيرة عن الترجمة.. فخلقت نوعا من الفضول العالمي حولها، بحيث تم حجز نسخ الطبعات الأولى من قِبل القراء قبل صدورها..!، علما أن الرواية برغم جودتها لكنها لا تتعدى مستوى رواياته السابقة عليها..!، وقد حققت دار النشر والمؤلف مئات الملايين من الدولارات!. وعودة إلى السؤال أقول إنّ الكم العددي لا يعني ازدهار القراءة والمقروئية في العالم العربي، لاسيما إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الكاتب الروائي العربي ينشر من روايته ما بين (1000) ألفا و(2000) ألفين نسخة وهذا العدد لأكثر من 250 مليون عربياً فإنّ الأمر مثير للسخرية. لكن هذا لا يعني أننا نفتقد الكتّاب الذين يكتبون بمستويات راقية جداً وذات عمق وتقنيات توازي ما هو موجود في الروايات التي تصدر في العالم، لكنّهم يبقون قلة وسط هذا الضجيج الإعلامي الذي تثيره الجوائز ودُور النشر.. لاسيما في ظل وضع يغيب فيه النقد الأدبي المنهجي بكل تياراته، حيث أن المشهد النقدي العربي، (وهناك استثناءات بالتأكيد)، يعاني من أمراض كثيرة، أهمها المحاباة، والشللية، وعدم الموهبة في تحليل النصوص، والعجز عن تطبيق المناهج النقدية بشكل مبدع عند تناول النصوص السردية.