تسلط الشاعرة الليبية عائشة إدريس المغربي، الضوء من خلال هذا اللقاء الذي جمعنا بها، بمدينة الجسور المعلقة، قسنطينة، على التجربة الشعرية للمبدعين الليبيين، خاصة فيما يتعلق بنتاج المرأة المبدعة هناك. كما تحدثت عن واقع الشعر اليوم في ظل طغيان النص الروائي على أغلب نتاج دور النشر العربية في السنوات الماضية.. رغم أن الزمن زمن الرواية إلا أن الشعر لم ينهزم يوماً لكل مبدع احتراق أولي مع الكتابة، ترى متى لسعتك جمار القصيدة؟ هل أبالغ إذا قلت لك إنني كتبت الشعر منذ طفولتي وحالة الكتابة تفاجئني بالإحساس بالاختلاف عن الآخرين ورفضي المبكر لدوري كبنت عليها الخضوع للتقاليد ووصاية الذكور. الكتابة جاءت كحالة من التمرد على الواقع الاجتماعي الذي كان يعيشه مجتمعي، وبدأت أخربش كلماتي في كل الاتجاهات، وكان النص الأول نزاري تماما نشر في مجلة النهضة الكويتية، لكن البدايات فعلا كانت مع ديواني الأول”الأشياء الطيبة”، الذي صدر عام 1986 وكان مفعما بالطفولة والتمرد وسمات البدايات. زياراتك المتعددة إلى الجزائر مكنتك من التعرف أكثر على الوسط الثقافي والإبداعي عندنا. كيف يمكنك أن تقيمي هذه الوسط، من منطلق التجربة الشعرية والإبداعية في الليبي، الغنية بأسماء إبداعية كبيرة ساهمت لا محالة في صقل تجربتك وتجربة غيرك من المبدعين الليبيين؟ أزور الجزائر للمرة الثالثة، وكانت أول مرّة في سنة 1999، تعرفت فيها على أدباء وكتاب ومبدعين كنت أعرفهم فقط بالاسم، وشرفني فعلا التعرف بهم والتقيت بنساء جزائريات كنّ رمز للبطولة. والنضال إبان الاستعمار الفرنسي وكانت المفاجأة لي هي اللقاء في أولى زياراتي للجزائر بالسيدة المناضلة والأديبة الرائعة زهور ونيسي، والأصدقاء المقربين هم واسيني لعرج وزينب لعوج والشاعرة الرائعة منيرة سعدة خلخال، وهذا على سبيل المثال لا الحصر. أجزم أن اللقاءات الأدبية تثري التجربة الإبداعية وتغنيها، واللقاء الأخير الذي زرت فيه مدينة الجسور المعلقة، في إطار مشاركتي في مهرجان الشعر النسوي الجزائري، كان زاخرا ومتنوعا ما سمح لي باللقاء بالكثير من المبدعات الجزائريات في الشعر وفي الكتابة النقدية، وتعرفت على تنوع المناخ الثقافي الجزائري، حيث استمعنا إلى أصوات شعرية تكتب بالعربية والفرنسية والأمازيغية وكذلك الشعر الشعبي. كما أدهشتني المتابعات والدراسات النقدية المتنوعة حول تجربة المرأة الأدبية في الجزائر، وكانت هناك كثير من الأصوات النقدية المميزة. وقد فتح لنا هذا اللقاء نافذة على المسرح، حيث شاهدنا عرضا مميزا للمخرجة الجزائرية صونيا، في عملها المسرحي” أمام أسوار المدينة”.. مثل هذه اللقاءات تخلق التواصل الحقيقي بين المبدعين. كيف تنظرين إلى المشهد الشعري في ليبيا، خاصة فيما يتعلق بما تكتبه المرأة المبدعة هناك، ونظرت الآخر إلى ما تكتبه؟ المشهد الشعري الليبي يفتقر إلى الحركة النقدية حتى نتبين ملامحه ومسيرته، فليس من السهل الحكم على كم متراكم من الإنتاج لا تواكبه قراءات نقدية سوى على الصعيد المحلي أو العربي. لهذا فإننا لا نقبض إلا على تجارب متناثرة هنا وهناك رغم تميزها وغناها.. هذا ردا على سؤالك، لكنني أنحاز إلى كون التجربة الإبداعية تجربة فردية تبرز بمعزل عن الآخرين ولا يمكن الحكم عليها إلا بذاتها، ومن هنا أقول إن أسماء مثل علي صدقي عبد القادر والشلطامي وفوزية شلابي ومحمد الفقيه صالح والجيلاني طريبشان وغيرهم، تضيء بقوة المشهد الشعري الليبي. القارئ لنصوصك يجدك منحازة كليا إلى قصيدة النثر، في الوقت الذي لا يجد فيه كاتب هذا النوع من النصوص الترحيب خاصة من قبل النقاد، برأيك لماذا تحمل قصيدة النثر كل هذا القلق؟ التجديد غالبا ما يقابل بالرفض وعدم الترحيب، وكثيرا ما يثير القلق في النفوس المتكلسة الغير قادرة على مواكبة التطور، وهذا يحدث في كل الأزمان وفي كل مكان وتاريخ العالم يبين لنا بوضوح هذه المسألة ليس في الأدب فقط ولكن في أوجه الحياة كافة. وإذا عرفنا أن تاريخنا الأدبي كله يتمحور حول الشعر والشعر عند العرب الذي كان ذاكرتهم وتاريخهم، هو كما عرفه الخليل ”الكلام الموزون والمقفى”، وظلت هذه القواعد تأسر الشعر وتأسر الذائقة العربية فإنه يسهل علينا تفسير رفض قصيدة النثر وما تثيره من قلق، حيث تهدم كليا التعريف المؤطر للشعر. والحداثة لم تنجح في الوطن العربي إلا في تقويض القصيدة الكلاسيكية وهي فرضت نفسها ومنحت الشعر فضاءً غير محدود. ولهذا فان النقاد الذين تقلقهم قصيدة النثر لابد أن يغيروا وجهة نظرهم، وإلا لن يجدوا في القريب ما يلتفتوا إليه إلا الماضي فالغد للشعر الذي تمرد. ويجب أن نعي أن مفهوم الشعر قد تغير شكلا ومضمونا، وليست المسألة مجرد قافية ووزن أو حتى تفعيلة. يقال إن النقد لم يواكب التجربة الإبداعية النسوية، أنت كامرأة مبدعة هل أنصفك النقد؟ على صعيد عربي نعم هناك الكثير من الدراسات والقراءات في نصوصي لنقاد وكتاب من مصر والعراق والجزائر وتونس وفلسطين وسوريا ولبنان والمغرب واليمن، لكن محليا لم ينصفني النقد كما ينبغي وقد نال كتابي الأخير ”صمت البنفسج”، اهتماما أكبر من أعمالي السابقة في ليبيا رغم أن هناك عدة قراءات لا ترقى لمستوى النقد، وكان الاهتمام النقدي عربيا أكثر منه ليبيا. هل تعتقدين أن القصيدة العربية استطاعت أن تتماشى مع ما هو قائم في المشهد العام للمجتمع العربي، وهل ترين أن المبدع وصل بما يكتبه وينشره إلى ذروة، وعليه الآن أن يتنحى جانبا ويتكئ على موروثه الشعري فقط؟ الشعر العربي قوي جدا وحتى مع هذه المرحلة التي يبدو فيها المشهد الثقافي منحازا إلى الرواية العربية، إلا أن الشعر لم ينهزم يوما يجب علينا أن نفهم أن الشعر لا يقاس كميا. ليس المهم العدد ولا الكم.. النص الجيد يبقى ويعطر كون الكلام، وهذا هو المهم، لا يجب أن ننظر للشاعر بعدد الكتب التي ينتجها ولكن بنوع الشعر الذي يكتبه وحتى شهرة الشاعر من عدمها لا علاقة لها بالنص الجيد” ليس في كل الأحوال بطبيعة الحال”، لكن هناك آليات أحيانا تصنع شهرة الشاعر هو في الحقيقة ليس بشاعر، ولغة الشعر هي شرط لكل الأنواع الإبداعية الأخرى من قصة ورواية وخاطرة الخ. وسيظل الزمن زمن الشعر حتى في الوقت الذي نشعر أنه هزم، لأن افتقادنا له يعني أنه الأهم. ماذا يمكن أن تضيف تجربة احتكاكك مع الأصوات الشعرية الجزائرية، خاصة النسوية، إلى تجربتك الإبداعية؟ لقد كانت تجربة جميلة ورائعة، والكتابة هي جملة من تجاربنا الحياتية والفكرية فكما تضيف إليك قراءة كتاب زخم في تجربتك، كذلك اللقاءات والاحتكاك بالآخر واللقاء والاستماع إلى الأصوات الشعرية الجزائرية بتنوعها كانت إضافة وإضاءة لي، كأنما قرأت مائة كتاب، وخاصة أن هذا المهرجان -مهرجان الشعر النسوي - حمل لنا تجارب من كافة المدن الجزائرية وبلغات مختلفة استمتعنا بالاستماع إليها. وواكب هذا الفيض الشعري فيض آخر تمثل في القراءات والدراسات حول التجارب الشعرية الجزائرية، إضافة إلى الفيض الإنساني واللقاء بهذه الأصوات والتواصل معها لما يقارب السبعة أيام وغمر هذه التجربة جغرافية المكان، حيث قسنطينة حضرت في النصوص وفي قلوبنا. كانت تجربة حملتني من العادي واليومي إلى آفاق رحبة ستطبع دون شك تجربتي الإبداعية.. ولا يعني أن كل سفر أو لقاء أدبي سيقود إلى نفس النتيجة.