الخطاب الفلسفي هو الوحيد من بين جميع الخطابات الذي يؤسس للعقلانية يرى الباحث والكاتب سمير بلكفيف أن الفكر الكانطي ظهر في السنوات الأخيرة بقوة في العالم العربي، وأن اهتمامه كباحث بكانط وفلسفته يعود إلى بدايات دراسته الجامعية. كما يتحدث بلكفيف في هذا الحوار عن أهمية الفكر الكانطي، وكذا عن دوافع اختياراته الاشتغال على موضوعه وفكره وفلسفته، ومقاربته ومحاولة البحث فيه. سمير بلكفيف، كاتب وباحث أكاديمي مختص في الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وبالتحديد الفلسفة الألمانية. أصدر مجموعة كُتب في الفكر والفلسفة والسيكولوجيا، وقد تناول في معظم كتبه وأبحاثه ودراساته كانط وفكره وفلسفته، ما يؤكد ثبات اختياراته البحثية المنحازة دائما إلى كانط. حاورته/ نوّارة لحرش ومن بين عناوين كتبه التي صدرت له: «إيمانويل كانط، فيلسوف الكونية» منشورات الاختلاف. «التفكير مع كانط ضد كانط»، منشورات ضفاف/لبنان، الاختلاف/ الجزائر. «سيكولوجيا القراءة»، عن دار أسامة للنشر والتوزيع في الأردن. كما صدرت له بعض الدراسات والمقاربات الفكرية الفلسفية في العديد من الكُتب الجماعية، في الجزائر وفي بعض الدول العربية. تكاد تتخصص في فكر وفلسفة كانط، إذ تعود إليهما دائما. لماذا، وما الدوافع؟ سمير بلكفيف: من بين الدوافع الذاتية لاختياري «كانط» والاشتغال على موضوعه وفكره وفلسفته، ومحاولة البحث فيه هو توجه اهتمامي الفلسفي منذ دراستي الجامعية الأولى في جامعة قسنطينة نحو الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وبالتحديد الفلسفة الألمانية، ذلك أن موضوع مذكرة الليسانس كان بعنوان «العلم الرياضي في فلسفة كانط»، بقسم الفلسفة بالمدرسة العليا للأساتذة/ قسنطينة، جوان 2006، وكان موضوع مذكرة الماجستير حول كانط أيضا، تحت عنوان: «الكوني في فلسفة كانط» جوان 2010، قسم الفلسفة بجامعة منتوري قسنطينة -سابقا- عبد الحميد مهري/قسنطينة2 حاليا. لقد وجدت في نفسي، ومنذ مرحلة الليسانس ميلا فلسفيا للفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة، وبالتحديد الألمانية، لقد وجدت في الفلاسفة الألمان روحا إغريقية جديدة أعتقد أنها تصنع الاستثناء في تاريخ الفكر الفلسفي عامة، سواء من حيث الموضوعات المطروقة أو التي يتم تأسيسها واكتشافها أو على مستوى المناهج المعتمدة أو التي يتم بناؤها، لقد دفعنا هذا الميل أيضا إلى انجاز كتاب جماعي بمعية باحثين عرب متخصصين في الفلسفة الألمانية بعنوان: «الفلسفة الألمانية والفتوحات النقدية- إستراتيجية النقد والتجاوز» (دار جدوال، بيروت، 2015). يبدو لي أيضا أن من بين الدوافع، تتمثل ربّما أهمها في العودة الفلسفية المعاصرة والراهنة إلى كانط باعتباره مُدشّن الحداثة الفلسفية، من حيث أسسها ومبادئها وإشكالياتها، إن هذه العودة تتسم بنوع من التنوع والاختلاف في المواقف الفلسفية تجاه الموروث الكانطي بين المؤيد والرافض، وهي في كلتا الحالتين عودة استحضار لآليات التفكير النقدي وجاهزياته المفاهيمية. هل يمكن القول أن مرجعية كانط الفلسفية واحدة من المرجعيات المهمة التي استحوذت على اهتمام الفلاسفة في هذا العصر؟ سمير بلكفيف: يُعد «كانط» اليوم مرجعية أولية مهمة للرؤية الإستشكالية في وضعية الأكسيولوجيا المعاصرة، ولعلّ ذلك ما يفسره تأثيره العميق في تشكيل الوجه الأبرز للحداثة الفلسفية سواء من حيث المبادئ أو الإشكاليات، وهو ما تدل عليه أيضا العودة المستمرة من قِبل الفلاسفة المعاصرين، حينما رجعوا إلى فلسفته النقدية من أجل استيعابها أو نقدها أو توسيع مفاهيمها أو تجاوزها أو التضاد معها ابتغاء بناء فلسفات جديدة، ولعل في هذا الاهتمام القدر الأكبر من التساؤلات، ذلك أن فلسفة القيم -اليوم- وفي محوريها الأخلاقي والجمالي مازالت مرتبطة في جزء كبير منها بتفسير أعمال كانط، وهو التفسير الذي يأخذ أشكالا عدة. أيضا، لقد استرجع الموقف الكانطي أهميته في الراهن، ولا أدلّ على ذلك من انتشار بعض الأقوال التي تؤيد ذلك، منها على الخصوص قول يتردد كثيرا في الأوساط الفلسفية مفاده: «أنه بإمكاننا أن نكون مع كانط أو ضده، لكنّنا لا نستطيع أن نتفلسف من دونه». ولعل هذا الاهتمام الواسع بالفلسفة الكانطية يشهد على حيويته في الفكر الفلسفي الراهن، من جهة أخرى تعدد مناحي الفلسفة الكانطية، إذ لا نكاد نلجُ ميدانا من ميادين التفكير الفلسفي المعاصر إلا ونجد كانط حاضرا بشكل من الأشكال، سواء تعلق الأمر بالتفكير الفلسفي حول الميتافيزيقا أو الإبستمولوجيا أو الحداثة أو الفن أو الأخلاق أو الفلسفة السياسية والدينية والحقوقية وغيرها. ثم إن ما يصنع أهمية كانط –فيما يبدو- هو أن ما كتبه في عصره يتمحور أساسا حول مشروع الحداثة والعقلانية والتنوير، وهو مشروع كلّ فلسفة ممكنة وقائمة ومقبلة، لأن الخطاب الفلسفي هو الوحيد -من بين جميع الخطابات- الذي يؤسس للعقلانية وينخرط فيها ويمتثل لها، ويدعو لها أيضا، ومن ثمة فإن تعدد المؤولين -سواء أولئك الذين يمدحون أو يرفضون فلسفة كانط أو أولئك الذين يريدون إتمامها أو تجاوزها- ليخبرنا بأن الكانطية ما تزال بعد فكرا ينبغي أن يحسب حسابه، وأنها مشروع غير مكتمل، وأن عدم الاكتمال ههنا ليس بمعناه الضيق (السلبي) كما لو كانت هناك أجزاء ناقصة في تلك الفلسفة، إن اكتمال الفلسفة هو بمعنى ما نهايتها. لقد اكتملت فلسفة هيغل -حسبه- فأوشكت أن تنهي نفسها، ومن ثمة فإن اكتمال فلسفة ما يفيد الزمنية والتاريخية، بينما عدم اكتمالها يفيد اللاتاريخية واللازمنية الملازمة لكلّ تفكير، وإذ يشكل الواقع المتجدد مجرّد إضافة هامشية لما قد تم التفكير فيه أصلا، وبصفة مسبقة، وإذ يغدو التفكير منطلقا لما هو آت، وعلى الفلسفة أن تحدد وجهة هذا التفكير، بما أن الفلسفة كلّ الفلسفة تحيل إلى جغرافيا التفكير؛ حينئذ تصير ملزمة على الإجابة عن سؤال: ماذا يعني التوجه في التفكير؟ أو أين يمكن أن نتوجه في التفكير؟ وتلك أيضا هي أسئلة كانطية لازالت تطرح اليوم. إلى أي حد يمكن التأكيد على أن الفلسفة النقدية تكتسي أهمية أكبر في هذا العصر بالذات؟ سمير بلكفيف: الحقيقية، يبدو أن الفلسفة النقدية تكتسي جدا أهمية وأولوية في حل أزمات الفكر المعاصر، خاصة وأنّها تتحرر من الأيديولوجيا والهويات، وتنزع نحو ما هو إنساني وكوني، فإنّ الأمر يستوجب تركيز الوعي النقدي على المشروعين الأخلاقي والجمالي معا في الفلسفة المعاصرة، إذ لا يمكن حل مسائل وقضايا عالقة وشائكة في الفلسفة اليوم دون العودة إلى أسسها الحداثية الأولى مع كانط، ودون الرجوع القهقرى لأكسيولوجيا ذلك العصر أيضا. من خلال أبحاثك المتتالية في فلسفة كانط. هل يمكن أن نتساءل معك ما أثر أو أثار كانط في الفلسفة المعاصرة؟ سمير بلكفيف: إن السؤال -في نظرنا- لم يعد يتحدد وفق الصيغة الاستفهامية التالية: ما أثر كانط في الفلسفة المعاصرة؟ أو ما منزلته في إيتيقا وإستطيقا العصر الحالي؟ بما هي أسئلة راهنية، وإنّما يتحدد أيضا وفق الصيغة الاستفهامية المنفتحة على ما بعد الراهن؛ أي وفق هذا السؤال: كيف يمكن توجيه الإنسانية المقبلة وجهة كانطية مرة أخرى؟ إنّه من نوع التساؤل الكانطي الشهير: ما التوجه في التفكير؟ بما يحمله من دلالة الأفق، والديمومة، والمابعد، والاستشراف والمستقبل، حينئذ سيصبح كانط لا يجيب على أسئلة عصره ولا على أسئلة عصرنا فحسب، بقدر ما يستشكل وضعا لم يتشكل بعد، وضعا ممكنا بما هو مابعد الراهن، وضعا إنسانيا بوسعه أن يصير ممكنا، وإن جاز التعبير نحو الميتا-راهن، لذلك ستكون النتائج مغامرة مفهومية -بما هي منفتحة على الممكن أكثر من انفتاحها على القائم فعلا- في استخلاصها على ثلاث مستويات: مستوى التاريخ الفلسفي لعصر كانط ذاته، ومستوى الراهن الفلسفي في علاقته بكانط، ومستوى الأفق والمستقبل الفلسفيين في علاقتهما بكانط راهنا. الملاحظ أن كانط أصبح حاضرا بشكل لافت في الحقل الفلسفي العربي وفي المكتبة العربية أيضا. إلى أي حد يمكن الإقرار بهذا الحضور الكانطي في العالم العربي فلسفة وكُتبا وترجمات. سمير بلكفيف: صحيح، لا بدّ من الإشارة إلى كون المكتبة العربية قد شهدت في العقد الأخير من السنوات أعمالا قيّمة ومهمة في حقل الترجمات الكانطية، كما في مجال الدراسات التي تتناول الجوانب البارزة من الفلسفة النقدية التي أرسى دعائمها كانط، هناك ترجمة عربية جديدة لكتابي: «نقد ملكة الحكم» ل»غانم هنا»، و»الدين في حدود مجرد العقل» ل»فتحي المسكيني»، ومع هذا، فإن المكتبة العربية ما تزال مفتقرة إلى الدراسات والترجمات الكانطية. هناك أيضا دراستان فلسفيتان جادتان للباحثة التونسية وأستاذة الفلسفة بالجامعة التونسية «أم الزين بنشيخة»، الأولى بعنوان «كانط راهنا أو الإنسان في حدود مجرد العقل» منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت،2006، بينما تأخذ الثانية عنوان «الفن يخرج عن طوره أو جماليات الرائع من كانط إلى دريدا»، دار المعرفة للنشر، تونس،2010. إن المتتبع للدراسات والأبحاث الفلسفية يكاد يجزم أن كانط لا يزال يحظى بمكانة فلسفية محترمة وسط الباحثين والدارسين، ولا أدلّ على ذلك من كثرة الكتابات الأكاديمية والدراسات الجامعية، وكذا الندوات والملتقيات الفكرية التي غاليا ما تُحوّل إلى كتب جماعية (محمد المصباحي، «فلسفة الحق»، «كانط والفلسفة المعاصرة»)، (كانط الحداثة الجمالية والحداثة السياسية، فعاليات ندوة بيت الحكمة، 2004)، هناك أيضا دراسة فلسفية جادة حول كانط استشكلت علاقته بالفلسفة المعاصرة، هي للباحث التونسي «محسن الخوني» بعنوان «التنوير والنقد، منزلة كانط في مدرسة فرانكفورت»، غير أنها اقتصرت على منزلة وأهمية المنهج النقدي في مدرسة فرانكفورت. يبقى أن عودة كانط إلى واجهة أسئلة الفلسفة المعاصرة والراهنة، لا يمكن أن يُفسر بطريقة يسيرة، غير أنه يمكننا أن نعدد تلك العودة في شكل قراءات الفلاسفة المعاصرين لأعماله الفلسفية، واستثمار آلياتها النقدية وجاهزية مفاهيميها، وكذا مدى أهمية استثمارها في قضايا إنسانية راهنة ومستشرفة. أيضا أطروحة الدكتوراه التي ناقشتها مؤخرا في جامعة قسنطينة، كانت عن كانط والفلسفة الكانطية. هل لنا أن نعرف ما الذي شغلك أكثر في هذا البحث والذي كنت تريد الإضاءة عليه أو حوله؟ سميبر بلكفيف: يروم هذا البحث مساءلة فلسفة كانط الأخلاقية والجمالية في ضوء المقاربة الأكسيولوجيا المعاصرة، وبيان ما اقتضته هذه المراجعة النقدية، وأمام هذا التجديد الشامل والعميق لمشهد الأكسيولوجيا الكانطية، وحضورها الدائم في الفلسفة المعاصرة، سيكون علينا أن نطرح الإشكالية التالية: ماذا بإمكان الأكسيولوجيا الكانطية أن تقترح اليوم على المفكرين والفلاسفة المشتغلين على الحقل الأكسيولوجي بقطبيه الإتيقي والإستطيقي؟ وكيف يمكن توظيف الموروث الأخلاقي والجمالي لكانط في عالم اليوم؟ أو ماذا يمكننا أن نتعلم من كانط في عالم اليوم؟ وكيف يمكن تمديد محوري الأخلاق والجمال الكانطيين وصولا إلى الأكسيولوجا المعاصرة؟ ثم كيف ستكون صيغة هذا الانتقال من كانط إلى هذا العصر في قضاياه الأخلاقية والجمالية؟ وفق أية حدود؟ وبأية إجراءات؟ وحسب أية مقاييس؟ وكيف لنا اليوم بفلسفة أخلاقية وجمالية تهدف -على الأقل- إلى يأس منشرح ومسرور -على حدّ تعبير «أندريه كومت سبونفيل»- أو كما يتحدث «نيتشه» عن معرفة منشرحة أو مسرورة (العلم الجذل)؟ وبتعبير آخر ما هو الدور الحقيقي الذي يجب أن تلعبه الفلسفة النقدية على مستوى أخلاقية وجمالية الفكر المعاصر؟ ماذا تبقى من تفاؤلية كانط في عالم اليوم؟ وما مدى راهنيته؟ وكيف لنا أن نكون «كانطيين» في عالم اليوم؟ كيف يمكن توظيف الأكسيولوجيا الكانطية كحل علاجي كفيل لأزمة العصر؟. ثم ما حقيقة هذا الحضور الكانطي في عالم اليوم؟ ولماذا بالضبط على المستوى الأخلاقي والجمالي؟ كذلك ما هي رهانات ومنزلة كانط في الأكسيولوجيا المعاصرة خاصة وأن العالم يعيش أزمة حضارية لعلها تكون غير مسبوقة؟ كيف يمكن لأطروحات كانط الأخلاقية والجمالية أن تصمد أمام أسئلة بعض الفلاسفة المعاصرين؟ لنتوجه في التفكير وجهة تدلنا على صورة لكانط أكثر قابلية للاستعمال في مواجهة مشاكل الإنسان المعاصر؟