مهاجمة نقاد لكاتبات انتقاد شخصي وليس قراءة واعية للنصوص في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد ناصر معماش، عن الشِّعر، وعن الكتابة/التجارب النسوية المتعدّدة والتي يرى أنّ فيها مجال واسع لعوالم الأنثى. كما يتحدث عن الإبداع بشكل عام، والّذي يرى أنّه يحتاج إلى ثقافة راشدة لنشره وتوزيعه وهو مشروع أمة وبرنامج مؤسسات. وعن الأدب الجيّد الذي يرى أنّ جودته لا دخل للأسماء في أناه المؤنثة أو المذكرة. للإشارة، ناصر معماش كاتب وناقد وأستاذ بقسم اللغة والأدب العربي بجامعة برج بوعريريج. لديه مجموعة من الدواوين، منها: «اعتراف أخير»، «فجائع الإسمنت والعرْبر، أو أمسيات الورد والرّمل عند العرب والبربرْ»، «هكذا تكلّم الشيخ السّعيد بوطاجين». حاورته/ نوّارة لحرش وفي مجال النقد صدر له: «النّص الشِّعري النسوي العربي في الجزائر/دراسة في بنية الخطاب»، والّذي خصصه لشِّعر المرأة في الجزائر بالدراسة والتحليل من بنية الخطاب إلى تحليله إلى تناول اللّغة والأسلوب والصورة والرمز وصولا إلى الموسيقى وموضوعات الشٍّعر النسوي. في كتابك «النص الشّعريّ النسويّ العربيّ في الجزائر/دراسة في بنية الخطاب»، تناولت فيه بالتحليل والدراسة والنقد، الشّعر النسوي وخطابه. برأيك ما الّذي يُميز الخطاب الأدبي/الشّعري النسوي. وكيف تراه، وما مدى تطوّره؟ ناصر معماش: الكِتاب هو خلاصة دراسة في المتن الشّعري العربي في الجزائر -خصوصا- ودواعي الخوض في هذه التجربة المليئة بالكلام على الكلام، كثيرة ومعقولة نقديا. ولا يفوتني أن أذكر على سبيل رد الفضائل على أصحابها، أنّ أولّ من أشار إلي بهذا الموضوع، هو المرحوم الدكتور أستاذي الفاضل عمار زعموش الّذي أزعم أنّه تبصّر بكثير من القضايا التي دخلت إلى عالم الجدل النقدي. أعتقد أنّ الكتابة النسويّة أو النسائية -والمصطلح يحدّده آل الصرف- تجربة إنسانية تعبّر عن الواقع البشري بأحداثه وأحاديثه، بسطحيته وعمقه، بواقعيته وأسطوريته، بماضيه وغده، وإلاّ كيف يمكن أن نجد هذا الكم الهائل من الكتابات المختلف في جنسها ونوعها لولا أنّ هناك قضية كبرى تشغل بال المرأة وتحزّ في نفسها لأن تعبّر عن كائن ما. والمؤكد أنّ التجارب النسوية فيها مجال واسع لعوالم الأنثى وانشغالاتها المعرفية والدينية والوظيفية داخل مجتمعها. لا أريد أن أدخل في تفاصيل خصوصية أدب المرأة وأدب الرجل، وأدب الطفل وأدب الشعب، وغيرها من المسميات القابلة للحل والربط، وإنّما أريد أن أمنح النّص وحده تأشيرة التعبير عن كيانه وكسب أحقية التأثير في المتأثرين المتآثرين عليه، وإذا كان بعض الدارسين للشّعر -وأقصد الذين يختارون الأسماء لا النصوص- قد جنوا على كثير من التجارب الإبداعية لكون أنّ الشاعر أنثى أو ذكرا مغمورا –قد كرّسوا- ظاهرة سلبية قزّمت التجربة الشِّعرية في الجزائر، وأدت بالضرورة والمنطق إلى جهل القارئ بخريطة الإبداع في بلده وافتقاده لمعجم مبدعي وطنه، وهذا حد الجهل ومنتهى الغباء الثقافي، ونأتي نحن هكذا ونتقول على أنّنا نعرف غيرنا وهم لا يعرفوننا، ونظن ظنّ السوء أنّهم يريدون تكريس إبداعهم فينا ولا يريدون الانفتاح علينا لغرض في نفوسهم، كلّ هذه الأشياء خارج السياق. الإبداع يحتاج إلى ثقافة راشدة لنشره وتوزيعه، وهو مشروع أمة وبرنامج مؤسسات واجتهاد طاقات. ما هي أهم الموضوعات المطروحة في هذا الأدب النسوي؟ وهل موضوعة الجسد والأنا والذات هي الغالبة؟ ناصر معماش: «الأنا» ظاهرة تكاد تكون عامة في الكتابة الأدبية، وإنّما كانت أكثر فتكا بالنص النسوي لاعتبارات في كثير من المواقف تكون خارج النص، ولكن الأديبات المتمكنات تجاوزن هذا الموسوم ب»الأنا» الأنثوي الّذي عرقل -في نظر النقاد المختصين في هذا المجال أو الذين نصّبوا أنفسهم متخصصين في ما تكتبه المرأة- وأنا لست مع هؤلاء لأنّ الأدب الجيّد جيّد ولا دخل للأسماء في أناه المؤنثة أو المذكرة. أمّا الجسد فقد انتقل تموضعه من الشّعر لينتشر في النثر وخاصة الرّواية، وهي ظاهرة تحتاج إلى دراسة وتمحيص. وماذا عن أهم الموضوعات المسكوت عنها أو المخجول منها بحكم البيئة المحافظة التي تأتي منها أغلب الكاتبات؟ ناصر معماش: حين كتب بعض الأدباء الرجال عن اللا منطوق، أو المسكوت عنه، لماذا لم يكن رد الفعل عنيفا جدا، واكتفى المعارضون الغيورون على «لسنا ندري» بالاستناد على أخلاقيات العرف والعادات والتقاليد، وحكم الدين، وحين كشفت المرأة المبدعة المسكوت عنه، ثارت ثائرة الجميع، حتى الذين كانوا على عهد قريب مع ضرورة صدقية النّص في التعبير عن الواقع. لا يمكن لعاقل أن يتصوّر هذا التناقض الرهيب في نقد النصوص، إذا، معظم خربشات هؤلاء انتقاد للأشخاص وليس قراءة واعية عاقلة للنصوص. أنا لا أدعو إلى إسقاط عنصر فضيلة المتن، ولكن أحسب أنّ الموضوع يحتاج إلى متبصّرين وليس إلى أوصياء تحكمهم نزعة: أقول ما أشاء لأنّني أنا أو لا أحد. تقول في تساؤل: «لماذا تسقط الحضارات ولا تسقط الأشعار». هل هذا سؤال الحضارة أم سؤال الشّعر، أم هو بالأساس سؤال الشاعر؟ ناصر معماش: بالفعل، الحضارات سقطت ونهضت على أطلالها مخلوقات أخرى عجائبية في تحليلها للإنسان الغابر، ويظلّ هكذا الوضع لكي تبقى السيادة لفكرة الضحك على السابق والتقزيم من شأن اللاحق، وهو أمر أشد ما يكون أخطر حين تكون زمنية الأجيال قصيرة المدى مثل ما هو الحال في الجزائر، نحن نرمي بأجمل ما أبدعه الذين جاءوا قبلنا في دائرة اللامبالاة ومن باب أنّهم لم يعبّروا عنا ولا عبّروا عنهم. وهل هذا كاف لأن نعمّم القبح عليهم جميعا، لست أدري من أوصل إلى أذهان المتشدقين بالنقد والمتموجهين في خانة: لا تقرأ غيرك، لأنّه ببساطة لا يستحق القراءة، وفي جميع المستويات الأدبية والفكرية، هل هؤلاء يمكن أن يصنعوا حضارة، الحضارات لا تأتي من عدم، والأمم جميعا تنسخ وتسلخ وتمسخ من تراثها لتواصل تريّثها في السير، وهو سير على خطى واعية للحياة التي يتصورها الإنسان العاقل الشاعر أو المحترم للشِّعر وفلسفة الشِّعر. وإذا ما حدث ودُمّرت حضارة بأكملها، يبقى شِعرها وفقط شاهدا على دمارها وخرابها الأبدي، لأنّ الذّاكرة لا تموت، والشِّعر أقرب أحباب الذاكرة وأجمل أطفالها وألطف أفراد بيتها الماكث في الثبات. والآن العلوم ليست حكرا على أمة دون أمة، هي قضية اهتمام واجتهاد ونظام واستمرارية، أي أمر إذا يميّز الأمم عن بعضها البعض، ربّما وقد يتضاحك البعض وفي نفسه بكاء حسرة حين أقول إن مقياس التمييز بين الناس هو الفنّ ولا شيء غير الفنّ، وليفهم القارئ أنّ الفنّ أشمل ممّا يُتعارف عليه في ثقافتنا الترقيصية، هو كلّ ما له علاقة بالشِّعر، ولأنّ الشِّعر ببساطة رؤية و وضوح نظر موجود في كلّ الفنون وفي كلّ أنواع النصوص وبين بياضات الفصوص وسواد البياض. ألا تري معي أنّ الشِّعر هو الباقي والثوابت الأخرى كلّها متحوّلة. برأيك أي الأشعار تسقط وأي الحضارات تبقى وترقى؟ ناصر معماش: كلّ تابع متبوع، إلاّ في الشِّعر، التابع يندثر ويتلاشى ولا يبقى من شعره إلاّ وجه كلماته التي يُفعل بها ما يُفعل. والتاريخ يرصد في جمجمته أسماء محدّدة لأسباب مقيدة مسّها الخلود، ولا شيء إلاّ لأنّها استلهمت وأضافت وسايرت وجدّدت. والبقية الباقية تلحق بالعمران وأطلالها وكُتب التاريخ وأخبارها وأشياء أخرى على شاكلة: إنّ أجمل بيت، إنّ أروع هجاء، إنّ أقبح مدح،،، وهكذا... والشِّعر والحضارة مرتبطان متلازمان متحدّان، لو عدنا إلى الذين طردوا الشعراء من مماليكهم ومملكاتهم وملكهم، و فرْوَدنا (من فرويد) نفسياتهم لأدركنا وأدرك الطب النفسي كم كانوا يحسدون الشعراء، وليس كلّ الشعراء طبعا. ويخافون ردة فعلهم ونقدهم وحسهم الذكي لأفكارهم ونوازعهم. لذلك منعوهم من الكلام، فوقعوا في شباك الكلام وجسدهم التاريخ صورة لكائنات أرادت أن تخرّب العالم لا أن تحمي الإنسان من الخراب. «القصيدة التي تأتيك بلا واقع دائما عرجاء وغير مهذبة لأنّها مجرّد عبث بالكلمات» هذا ما تقوله، ألا ترى أنّ الشِّعر دائما وفي أغلبه يأتي من الخيال لأنّه ابن الخيال قبل الواقع؟ ناصر معماش: لا أقصد بالواقع واقع المعاملات اليومية ولا الواقعية بأنواعها وأضربها وأساليبها الإنشائية، ورغم ذلك فهو شيء من الالتزام والانتظام، ولكني أقصد واقع القصيدة كما يجب أن يكون في عالم الفن والفكر، القصيدة التي لا تحمل ثقافة وتضيف رصيدا وتعلّم جديدا وتمتع نفسا بشرية وتوسّع من حيزّ الجمال في العالم، أين نصنفها؟، وأين نضعها؟، حقيقة واحدة لا جدل فيها، هي أنّها امتداد للهو ونسل ينضاف لسلالة العبث بالعمر، وتبذير للوقت واستهلاك غير مفيد للورق والحبر. نريد على الأقل نصا -مستفيدا ومفيدا- وهذا لا يمنع الشعراء من أن يجرّبوا ويجددوا ويقلّدوا ما شاء لهم، لأنّ الأدب في أصله وفصله: رسالة مُمتعة أو مُتعة هادفة، وللنقاد كلام على الكلام. عنوان مجموعتك «فجائع الإسمنت والعرْبر، أو أمسيات الورد والرّمل عند العرب والبربرْ» طويل ومربك ونصوصه تمجد الوطن وتحكي بعض أوجاعه لكن أيضا ذهبت صوب الأنا والآخر وصوب نبض الإنسانية بشكل أعمق وأكثف. برأيك أين ومتى يجد الشِّعر أفقه الأرحب؟ ناصر معماش: تجربة «فجائع الإسمنت والعرْبر، أو أمسيات الورد والرّمل» (عند العرب والبربرْ)، تصنع أفق انتظارها من رؤية لواقع تاريخي وثقافي غلبت عليه المفاهيم المغلوط في أمرها منذ البدء، لأنّ الإنسان الّذي يولد على فطرة ترابية ماء وجوده وينمو في وسط ممنوع عن التراب يفقد قدرته على الانتماء للأرض التي جاء منها وإليها يعود، وبذلك كلّ المشاعر التي تنتابه في مراحل وعيه بالوجود زائفة ومزودة بأدوية تنشيط الكذب على الذات، وحين تفقد البشرية رائحة التراب باختلاف الفصول، يفقد الإنسان حلاوة الإحساس بجمال الأشياء، لأنّ المدنية -مدنيتنا نحن- مصنوعة من إسمنت وفقط، والإسمنت (روتيني) حتى وإن أضفت إليه مساحيق التجميل كلّها. أبحث عن إنسان يحترم نفسه ويكرم أوّل ما يكرم مادته التي صنع منها، وهيوليته التي حًرّك بها. نحن في حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب أحاسيسنا من الداخل، ثمّة ينابيع الجمال والحضارة والرقي والإنسانية، وإلاّ فلا فائدة من تقسيم العالم إلى أفكار وفلسفات. هذا هو الكائن الإسمنتي الّذي أردت أن أعلمه بمرجعيته الإنسانية، ربّما لنوقف ولو خطوة من خطى الدمار القادم نحونا ونؤجل على الأقل موت الشِّعر الصافي. في الشق الثاني من التجربة، يتعلق الأمر بثقافة المغرب العربي الكبير، أو الشمال الإفريقي، أو عرب وأمازيغ القارة السمراء، كلّها مسمّيات، ولهؤلاء الناس عبر التاريخ واللا تاريخ ثقافة يجب أن يعرفها العالم، وأوّل الناس استهدافا بذلك العرب المنتشرون في المشرق، ولا يكفي أن نظل نتقول على الحقيقة وندعي العبقرية والتميّز ونحن لم نقدم عن أنفسنا ما يعرّف بنا وبقدراتنا وإبداعنا وتاريخنا، وأمجادنا وأساطيرنا وخرافاتنا وإنسانيتنا، يجب أن نحمّل النصوص بكلّ هذا، وليس الأمر من باب التعصّب وإنّما من باب أن الجمال يعرفه العام والخاص وهو مطروح في كلّ الأماكن والجهات، والعِبرة للمثقفين والفنانين والمفكرين في تنوير الآخرين بقيمنا وذاكرتنا الممتازة. وهكذا كانت كلمة العربر (كما نحتها أخي الدكتور الشاعر يوسف وغليسي) مفتاحا لنصوص المجموعة الشِّعرية. أيضا في مجموعتك «اعتراف أخير» نصوص تمجد وتبكي الوطن والعروبة في ذات اللحظة، هل مازال للشِّعر دور في هذا الزمن المنتكس عربيا بالخصوص؟ ناصر معماش: الشِّعر لاعب أساسي في كلّ الأدوار، ومهما كانت نتائج انتصار المجتمعات أو انكسارها، يبقى النفس الأخير للشعراء، والوطن أو الانتماء أو الإحساس بالغربة أو التمتع بالشًرقة -إن صح التعبير- كلّها حالات لوجود. لا أظن أنّ الانتكاسات المتتالية تًشعرنا بالإحباط وفقط، وإنّما هي تفضحنا وترفع عنّا غطاء الكذب على أنفسنا أولا وعلى الآخرين ثانيا وعلى المستقبل ثالثا وأخيرا. وأخوف ما نخافه أن يكون لنا شِعر بلا مستقبل، وأدب بلا وعي، وأوطان من ورق قابلة للتمزّق في أي لحظة. هذا ما أردته –إن أردته- حين كتبت عن الوطن والعروبة، وكفّرت عن ذنوب السكوت عن الحق، والحق باب من أبواب الشِّعر. متى يكون الشِّعر ضرورة للكائن البشري. وهل هو ضرورة حقا أم هو مجرّد متعة جمالية آنية لا تدوم؟ ناصر معماش: إذا كان الشِّعر تعبيرا صادقا عن حالات الإنسان وحياته فهو بالضرورة والحتمية الرياضية يقوم بالدورين معا، ولا أحسن من أن نقرأ جيدا ما خلص إليه المرحوم العلامة ابن خلدون في باب: مراتب السيف والقلم. والإنسان منذ أن وجد وهو في صراع إمّا بكذا وإمّا عن طريق كذا...