بناء لم يفطر مع عائلته منذ 20 سنة و"طاكسيور" يفضل الفطور خارج البيت قبل ساعة عن آذان المغرب كنا واقفين أمام مطعم الرحمة لعابري السبيل بمحطة النقل البرية الغربية لحي بوالصوف بقسنطينة.. كانت سيارات الأجرة قد اختفت تماما وحتى حافلات الخواص ترسو متثاقلة في المحطة طمعا في الظفر بأحد الركاب المنعدمين أصلا.. يمر الوقت ثقيلا.. مطعم الحوزي من هناك ومطعم الرحمة لعابري السبيل من هنا.. بينهما قاسم مشترك هي "مائدة رمضان" بين الفينة والأخرى يندلف أمامك شخص اضطرته الظروف ليقصد أحد المطعمين.. الحركة رتيبة في الدقائق الأخيرة ما قبل الإفطار. ركن زميلي المصور سيارته بالقرب من مطعم الرحمة.. وفي هذا الوقت كان بعض الناس يدخلون المطعم لأخذ أماكنهم تحسبا للآذان الذي سيرتفع بعد دقائق فقط. حركة غير عادية قبيل آذان المغرب طاولات مهيأة لاستقبال عابري السبيل.. عمال ينظمون قاعة الأكل المعدة للصائمين، لا تحس أنك غريب عن الدار يستقبلك العمال بابتسامة حتى لا تشعر بأي حرج.. قنينات الماء البارد ووجبة الشربة باللحم المفروم والدجاج وطاجين الزيتون وصحن من التمر. دخلنا أنا وزميلي المصور في سباق مع الزمن حتى نعيش ولو للحظات مع هؤلاء الذين اضطرتهم ظروف عملهم ليفطروا بعيدا عن منازلهم ليتحولوا الى صيد نطاردهم بأسئلتنا عن احساسهم وعن الأجواء الرمضانية التي يعيشونها بعيدا عن ذويهم. 20 سنة وهو يفطر كل رمضان بعيدا عن العائلة التحقت بإحدى الطاولات بينما كان زميلي المصور منشغلا بكاميرته، شدني الى هذه الطاولة شيخ تجاوز الخمسين بين مجموعة من الشباب وكان الوحيد الذي يتحدث وكأنما يريد أن ينبهنا بأن الإفطار عند الحاج لا يحرجه.. سألته عن ظروف مجيئه الى مطعم الرحمة لعابري السبيل فقال: "أنا أشتغل في ميدان البناء وعندي 20 سنة في هذه المهنة قضيت 15 سنة بالعاصمة و 5 خمس سنوات هنا في قسنطينة، وطيلة هذه السنوات، أفضل دائما أن أمضي رمضان في العمل، ولا أحرج أن أفطر في مطعم الرحمة لأني أجد فيه جوا عائليا.. مرة واحدة ارغمت على قضاء عطلتي في شهر رمضان بين العائلة لم أحس بهذا الجو ونكهة الصيام وسط الزملاء.. وأصدقك القول أني مرضت وقطعت عطلتي لأعود الى أحضان الأصدقاء. ويضيف السيد عبد المالك.م وهو من بلدية أحمد راشدي (ولاية ميلة) أن الإفطار في مطاعم الرحمة يتركك تكشف عينات مختلفة من الناس ويضعك أمام واقع لايمكن تجاهله أو الاستهانة به. وفي هذه الأثناء كانت الصالة قد ملأت تقريبا كل المقاعد لم تبق شاغرة، العمال، انخرطوا في ديناميكية حتى أحد ابناء الحاج كان ضمن العمال الساهرين على تنظيم وجبات الأكل، أما الحاج فبعد اطمئنانه على سير العمل يغادر القاعة بابتسامة مهنئا الجميع بإفطار شهي. سألت عن عدد الوجبات المقدمة، فقيل لي أن الأيام الأولى لا يمكن القياس عليها زيادة على ذلك أن أغلبية الناس فضلوا العطلة السنوية في شهر أوت وبالتالي فإن عدد الذين يقبلون على المطعم يكون خاصة في الأيام الأولى ضعيفا، مقارنة بالسنوات الماضية، وهذا يجعل انجاز المهام في المطعم غير عسيرة لأن عدد الوجبات منخفضة ولكن في الأحوال يكون هناك احتياط حتى يمكن تلبية كل الطلبات في حينها. مطاعم الرحمن للجميع وليست لعابري السبيل فقط س.ي 37 سنة رفض تصويره لأن هذا يراه تشهيرا ولكن لا يرى أي مانع في الحديث الى الصحافة، سألناه عن سبب وجوده في مطعم الرحمة : قال انه متعود على ذلك رغم أنه يقطن هنا بمدينة قسنطينة وقال أنه يشتغل سائق سيارة أجرة وهو في هذه المهنة منذ 7 سنوات يحب تغيير الجو، سألته هل أدركك الآذان وانت تشتغل، فأجاب بالنفي معلقا بابتسامة (إنني بلباسي الرياضي معناه اني ذهبت للمنزل وخرجت أتجول ولست في العمل، ولكن بين الحين والآخر أحب تغيير الجو وأكره الروتين في ا لحياة. في طاولة أخرى يجتمع أربعة شبان كانوا منهمكين في الأكل بشراهة، وكان التعب باديا على ملامحهم فسألت أحدهم عن سبب وجوده هنا فقال: جئنا من العاصمة وقد اضطررنا للتوقف في قسنطينة لتناول الافطار ثم نواصل السير الى العنصر (ولاية جيجل). وقال السيد عبد الكريم.م 30 سنة، أن وجوده في هذا المطعم كان صدفة ولم يكن يعلم بأنه يقدم الافطار مجانا لأنه كان يعتقد أن المطعم عادي لوجوده بمحطة نقل المسافرين، ولكن عندما اكتشف بأنه مختص في مائدة رمضان لم يتفاجأ وقرر أن يتناول افطاره مع زملائه، وقال ان الوجبة بالنسبة له كاملة (سلاطة، شربة فريك، والطبق الثاني طاجين الزيتون) وهي بالنسبة له مائدة محترمة تناسب شهية الصائم. مطعم الرحمة يضفي الرحمة على جو الافطار في زاوية قصية عن الناس كان منهمكا في تناول وجبة الافطار بشراهة، بين الفينة والأخرى يسرق نظرة من وجوه الحضور.. كسرت وجومه بفضولي وجلست اليه متحديا رغبته في اختياره الانطواء، احرجته بأسئلتي ولما شعر بالضجر رفع رأسه الي وقال لي: إفطر الأول ثم نتحدث... تيقنت أن الرجل محرج ومتضايق ولا يريد أن يعرفه أحد، فتظاهرت له بأني لا أريد أن أشبع نفسي من فطور المطعم لذلك وددت الحديث معه، فقال لي وهذه المرة بقي مطأطئ الرأس: ليس لي بيت بعد أن خسرت كل شيء الزوجة والأبناء وكل أفراد العائلة فاضطر للجوء الى هذا المطعم لأتناول فطورا ساخنا على الأقل ثم لازم الصمت مفضلا أن لا يعرف أحد قصة تردده على مطاعم الرحمة.