تشتد مظاهر التعاون والتآزر بين الجزائريين في رمضان، وتظهر معالمها تصرفات شتى تدل على رغبة المواطنين في بلوغ مقاصد الصوم، ولعل أبرز هذه المظاهر خلق مطاعم الرحمة وموائد الرحمان لإفطار الصائمين من الفقراء والمعوزين وعابري السبيل، سواء من طرف المحسنين من المواطنين أو الهيئات العمومية التي تباشر كل سنة مثل هذا العمل كما هو حال المطاعم التي يفتحها الاتحاد العام للعمال الجزائريين هنا وهناك، ومن بينها ذلك المتواجد بشارع حسيبة بن بوعلي والذي زارته (الحوار) لتنقل أجواءه. متطوعون لا يفطرون مع الآذان ومواطنون يزاحمون عابري السبيل يقع مطعم الرحمة لاتحاد العمال لساحة أول ماي في شارع حسيبة بن بوعلي، ارتأت النقابة المركزية ومنذ سنين طويلة أن تجعل من مطعم عمال السكك الحديدية بطاقته الاستيعابية الهائلة مكانا تضرب فيه موعدا وقت الإفطار للمحتاجين والفقراء وعابري السبيل الذين يصل عددهم يوميا إلى 320 شخص بين مشردين ومجانين وفقراء وعابري سبيل وعمال بعض القطاعات، ليزاحمهم هذه السنة كما جاء على لسان المسير السيد ''محمد مشكور'' بعض الشباب والمتقاعدين من سكان الحي، وأكده اقتصادي المطعم السيد ''لزام حسين''. الخامسة والنصف... يتكثف النشاط ما إن تشير ساعة ''عمي محمد'' إلى الخامسة والنصف حتى يعطي الإشارة لفتح أبواب المداخل الثلاثة للمطعم، ليست هي ساعة مباشرة العمل بالنسبة للفريق العامل ولكن ذروة مضاعفة نشاطهم، فمع فتح أول قفل تكون الطوابير الطويلة للمحتاجين وعابري السبيل المصطفين أمام المطعم قد بدأت في التدافع فكل واحد منهم يحاول الوصول إلى اقتطاع تذكرته الخاصة التي تمكنه من الوصول إلى مائدة الإفطار ساعة ونصف تقريبا قبيل الموعد، كما أوضحه لنا ''عمي محمد'' في زيارتنا للمطعم، فيجد هؤلاء الدفء العائلي بالموائد الرمضانية المزينة بطريقة تفتح الشهية، يبقون بانتظار الثلاثين دقيقة التي تسبق الآذان للحصول على الصينية التي تحوي وجبة الإفطار التي لا تختلف عن تلك التي قد تحضرها أيّ عائلة جزائرية ميسورة الحال، سواء من حيث المكونات أو الطعم أو النظافة التي يسهر عليها ''عمي محمد'' بنفسه، ولمسناها منذ أن وطئت أقدامنا باب المطعم في كل الأماكن التي تجولنا بها، انطلاقا من قاعة الطعام وصولا إلى غرف التبريد والتخزين، مرورا بالمطبخ، صانع الحدث، فهو المكان الذي يمضي فيه الفريق العامل المشكل من 11 فردا معظم أوقاتهم من الساعة التاسعة صباحا إلى غاية الساعة التاسعة مساء، أي منذ انطلاقهم في العمل التحضيري كل حسب تخصصه من تنظيف لقاعة الطعام وتنظيف للخضار وتقطيعها ومساعدة الطهاة الثلاثة في إعداد الشوربة التي كانت رائحتها تنبعث إلى خارج المطعم والطبق الرئيسي كان يومها عبارة عن شطيطحة لحم والسلطة. لم نسجل أبدا حالات تسمم تتغير مكونات وجبة الإفطار بهذا المطعم يوميا حسب ترتيب يقرره ''عمي محمد'' المسير والطباخين الثلاثة، حيث تحتوي على حبة تمر، طبق شوربة، الطبق الرئيسي، نوع من الفاكهة الموسمية من تلك التي اطلعنا عليها بغرفة التبريد سواء العنب أو الموز أو الإجاص، قارورة ماء معدني وقارورة مشروب غازي تحصلت عليه النقابة المركزية كهبة من إحدى الشركات الرائدة في مجالها. قال ''عمي محمد'' في هذا الشأن: ''لا نحرص فقط على أن يحظى كل فرد بوجبته الكاملة، وإنما على أن تكون صحية ونظيفة حضرت وفق جميع معايير النظافة الصارمة التي نتبعها منذ سنوات والتي نتحصل بفضلها على تقديرات من طرف مصالح مراقبة النظافة لبلدية سيدي أمحمد وولاية الجزائر'' وأضاف محدثنا: ''لم نسجل أبدا حالات تسمم غذائي ناجمة عن وجباتنا، كما أننا نحتفظ دائما بطبق شاهد على حدة ليكون دليلا في حال حدوث تسممات''، ليتدخل السيد ''لزام حسين'' قائلا'' نحن نخشى حدوث حالات كهذه لذا نسهر على النظافة التامة، وكأننا في منازلنا للحفاظ على صحة أبنائنا وأحفادنا الذين نبتعد عنهم خلال هذا الشهر عوض أن نجتمع معهم على طاولة إفطار واحدة، فلقد تعودنا منذ سنة 2002 على تأجيل موعد إفطارنا تلبية للواجب فلا نجد أحيانا حتى لحظة واحدة لكسر صيامنا من شدة انشغالنا بتلبية طلبات الفقراء والمحتاجين الذين يعتبروننا عائلتهم الكبيرة''. لا يزاحمهم الأفارقة ولكن سكان الحي استفسرنا ''عمي محمد'' عما إذا كان الأفارقة أو حتى العمال الصينيين يقصدون المطعم خلال رمضان هذه السنة، مثلما حدث في السنوات الثلاث الماضية في غالبية مطاعم الرحمة بالعاصمة وحتى باقي المدن الكبرى، فنفى استقبال مطعم اتحاد العمال للفئتين، في حين أكد لنا أن المطعم الذي يتقرر أن يستقبل 300 شخص يوميا، حسب ما يتوفر فيه من طاولات وكراسي وحسب عدد التذاكر التي توزع عند المداخل، يتجاوز هذا العدد بكثير ليصل إلى 320 أو أكثر في بعض الأحيان. فالفئات التي تقصد المطعم هم المشردين من أطفال ونساء اعتادوا الإفطار به كل سنة والمختلين عقليا والمجانين وعابري السبيل من المسافرين المستعملين لمحطة القطار ''آغا'' وحتى بعض العمال الذين لا يستطيعون ترك مناصب عملهم لحظة الإفطار كأعوان الأمن في محطة القطار الذين يصل عددهم 12 شخصا فيأتون قبل موعد الإفطار لحمل وجبتهم معهم لأماكن عملهم. فيما شد انتباهنا ''عمي محمد'' إلى فئة أخرى صارت تنافس المحتاجين على المكان في هذا المطعم، وهم شباب من أبناء الحي وشيوخ متقاعدين وجدوا في الإفطار عندنا طريقة لتوفير نصيبهم من الأكل لباقي أفراد عائلتهم، التي وقف غلاء المعيشة حائلا دون اجتماعها حول مائدة إفطار رمضان كما اعتادت عليه، وليس بيدنا من حيلة سوى السماح لهم بالدخول والإفطار عندنا، احتراما لهم ومعرفة منا أنهم مكرهين على ذلك. وتذكر''عمي محمد'' أن حتى بعض المرضى في المستشفيات أو مرافقي المرضى يقصدون المطعم، كما هو حال إحدى السيدات كانت حاملا قصدتنا في ثاني أيام رمضان وقالت إنها متواجدة بمستشفى مصطفى باشا وترغب في الإفطار معنا، فلم نجد سوى أن نرأف بها ونشفق على حالها، وأدخلناها إلى غرفة الطعام المخصصة للنساء والمكونة من 12 كرسيا، فنحن نفصل بين النساء والرجال حتى وإن كن قليلات تجنبا للمشاكل التي قد تنجم بين الحين والآخر عندما يقوم أحد الشباب المشردين بمضايقتهن أو معاكستهن فنتدخل لتهدئة الوضع.