لم تكن سنة 2019 المنقضية عادية على الجزائر، فقد كانت سنة مشهودة، ومميزة وتاريخية، ستبقى خالدة في ذاكرة كل الجزائريين والأجيال القادمة، سنة صنع فيها الشعب الجزائري ملحمة سلمية حضارية، هو الحراك الشعبي الذي أبهر العالم أجمع وأنهى عهدا دام عشرين سنة، دون قطرة دم. لقد قرر الشعب الجزائري منذ بداية سنة 2019 أن يسمع صوته ويعلن جهرا رفضه لعهد دام عشرين عاما بكل ما حمله من كل أنواع الفساد، ويحاول الاستمرار تحت عنوان العهدة الخامسة للرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، لكن سارت الرياح بما لا تشتهي سفن هذا الأخير ومن معه في نهاية المطاف. ومنذ بداية الحديث عن العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة المقعد منذ 2013، خريف عام 2018 بدا واضحا أن رفضا شعبيا كبيرا سيقف ضد هذا التوجه مهما كانت الظروف، ويوقف هذه المهزلة التي أصبحت حديث الرأي العام العالمي. وقد ساهمت أحزاب الموالاة في استفزاز و تأجيج الرأي العام الوطني ضد العهدة الخامسة عندما وجهت في خريف سنة 2018 دعوة عبد العزيز بوتفليقة للترشح لعهدة جديدة خامسة، وهو ما سرع من وتيرة الرفض الشعبي دفع كل الشرائح إلى أن تتنظم استعدادا لإعلان الرفض. وبين من كان يتوقع ترشح الرئيس المخلوع ومن كان يرى عدم إقدامه على هكذا مغامرة، وبعد أن سدت كافة المنافذ في وجه الفريق الرئاسي الذي حاول التمديد للرئيس المخلوع، استدعى هذا الأخير في 18 جانفي من العام المنقضي الهيئة الناخبة لانتخاب رئيس الجمهورية يوم 18 أبريل من 2019 دائما. ومع ذلك بدأت موجات الرفض تتقوى وتخرج إلى العلن، لكن السلطة التي كانت قائمة في ذلك الوقت ظلت متجهة نحو تنظيم الانتخابات وترشيح عبد العزيز بوتفليقة وفق الخطة التي رسمتها. كرة الثلج تكبر وظهور «هاشتاغ» 22 فبراير موازاة مع التحضيرات التي كانت تقوم بها الحكومة لتنظيم الانتخابات الرئاسية شرع المواطنون في بعض الولايات في الخروج إلى الشارع وتكسير حاجز الخوف وإعلان جهرا رفضه للعهدة الخامسة، وهو ما حدث بصورة محدودة في دائرة خراطة بولاية بجاية، وجيجل ثم في خنشلة في 15 و 16 فبراير، حيث أسقطت لأول مرة صور الرئيس عبد العزيز بوتفليقة أرضا معلنة بداية عهد جديد. كما نظم بضعة مئات من أفراد الجالية في العاصمة باريس وبالضبط في ساحة الجمهورية يوم 17 فبراير مظاهرات ذهبت في ذات الاتجاه ولنفس الغرض. وعلى شبكات التواصل الاجتماعي كان التجند كبيرا والتهييج الإعلامي في أوجه، حيث نقلت مظاهرات خراطة وغيرها بقوة على هذه الشبكات وبخاصة الفايس بوك، وشهدت تفاعلا كبيرا من طرف المواطنين في كافة ربوع الوطن على الرغم من عدم معرفة الجهة التي تقف وراء ذلك. وعلى هذا النحو بدأت كرة الثلج تكبر شيئا فشيئا وتشكلت قناعة عامة دلى غالبية الناس بضرورة رفض العهدة الخامسة و إسقاط الانتخابات التي أعلن عنها عبد العزيز بوتفليقة بالطرق السلمية، خاصة مع الدعم الذي قامت به حركات وشخصيات في هذا الاتجاه سواء عبر البيانات الصحفية أو عبر النزول إلى الشارع بشكل محدود خاصة في العاصمة و قسنطينة، أو بعض الندوات التي تعقد هنا و هناك لإعلان رفض العهدة الخامسة. 22 فبراير.. ميلاد نواة الحراك كانت شبكات التواصل الاجتماعي قد أخذت في الترويج بقوة ليوم الجمعة 22 فبراير.. يوم ظل مرتقبا بالنسبة للغالبية من المواطنين لرؤية ماذا سيحدث فيها وآي مجرى سيتخذه التاريخ بعده، و كل هذا بين متخوف ومتحمس لهذه الجمعة التي سيكون لها شأن عظيم. وبالفعل فقد خرج الشعب في ذلك اليوم 22 فبراير بالملايين في كل ولايات القطر تقريبا بصوت واحد يعلن رفضه للعهدة الخامسة ويطلب من بوتفليقة الرحيل بشكل واضح وصريح، وبطريقة سلمية وحضارية لم تسجل فيها أي تجاوزات أو أحداث مؤسفة. وقد صنع ذلك نوعا من الثقة في نفوس المواطنين وإحساسا بإمكانية إنهاء عهد الرئيس بوتفليقة لو استمر هذا الزخم من الرفض الشعبي على نفس المنوال، وبعد يومين فقط تحركت الجالية الوطنية في الخارج في نفس الاتجاه لتعلن دعمها للحراك الشعبي الداخلي. وفي 26 فبراير تحرك الطلبة ليعلنوا بداية ثلاثاء الغضب والرفض لدعم الحراك والحفاظ على زحمه من جانبهم وواصلوا على ذلك المنوال إلى اليوم، ثم توالت تحركات وانتفاضات فئات عمالية ومهنية ضد الضغوط التي تتعرض لها وأعلنت وقوفها إلى جانب الحراك الشعبي على غرار الصحفيين، والمحامين وعمال الصحة القضاة في وقت لاحق وغيرهم، ومعه ظهرت شعارات «ماكانش الخامسة يا أولاد فرنسا» و « ماتزيدش دقيقة يا بوتفليقة» و «ارحلوا»و «تتنحاو قاع» وغيرها من الشعارات الخالدة للحراك. وفي 27 فبراير يتم تسريب تسجيل بين علي حداد رئيس منتدى رؤساء المؤسسات و عبد المالك سلال مدير الحملة الانتخابية للرئيس المترشح عبد العزيز بوتفليقة، تسريب يخص التحضير للحملة الانتخابية لكنه استفز بقوة شعور المواطنين وأدى في النهاية إلى الإطاحة بسلال من على رأس مديرية الحملة الانتخابية لبوتفليقة ليخلفه بعدها عبد الغني زعلان وزير النقل والأشغال العمومية آنذاك. وفي 28 فبراير يستفز الوزير الأول الأسبق، أحمد أويحيى، هو الآخر من قبة البرلمان الشعب بتخويفه من السيناريو السوري، فيزداد الاحتقان والإصرار في نفس الوقت على مواصلة الحراك الشعبي، لتكون الجمعة الثانية المصادفة للفاتح مارس قوية جدا ومحافظة على روح وزخم الحراك الشعبي الذي صار قائما بذاته وبدأ يكبر. وعلى الرغم من كل هذا الحراك الشعبي يصر عبد الغني زعلان المدير الجديد للحملة الانتخابية للمترشح عبد العزيز بوتفليقة على دفع إيداع ملفه لدى المجلس الدستوري في الثالث مارس وهو آخر أجل لإيداع الملفات، ما يزيد من حدة الاحتقان الشعبي والإصرار على مواصلة حراكه ورفضه للعهدة الخامسة و للأمر الواقع. لتكون بعد ذلك ثالث جمعة مصادفة للثامن مارس عيد المرأة جمعة كبيرة جدا وحراكا لا مثيل له دعم بقوة من العنصر النسوي، وأدخل محيط بوتفليقة في ارتباك حقيقي، وبدأ التفكير الجدي على مستوى مؤسسات الدولة في تأجيل الموعد الانتخابية ليوم 18 ابريل والبحث عن حلول سلمية وواقعية للأزمة. 11 مارس بوتفليقة يعلن تأجيل الانتخابات ويطلب التمديد يزداد الضغط الشعبي ويتعاظم يوما بعد يوم ومعه يدرك المحيط الرئاسي أن عهدة خامسة أصبحت من المستحيل، وعليه وجه الرئيس بوتفليقة يوم 11 مارس رسالة إلى الأمة أعلن فيها تأجيل الانتخابات الرئاسية، و عدم ترشحه لعهدة خامسة، و أفصح عن جملة من الإجراءات تخص إدخال تعديلا على تشكيلة الحكومة، و أعلن عن تنظيم ندوة وطنية مستقلة للحوار تحت إشراف حصري للجنة وطنية مستقلة للانتخابات قبل الذهاب إلى هذا الاستحقاق وكل هذا قبل نهاية العام 2019. وهو ما يعني أنه طلب تمديدا لمدة عام على الأقل ليأتيه الجواب مباشرة بالرفض المطلق لهذا المخطط الجديد الذي حاول من خلاله الفريق الرئاسي وحلفائه ربح بعض الوقت لترتيب الأمور وترشيح من يرونه مناسبا، وبعدها بيومين يعلن المجلس الدستوري بصفة رسمية تأجيل الانتخابات لعدم توفر المرشحين بعد انسحاب العديد منهم من السباق. 19 مارس الفريق الراحل قايد صالح يدخل على الخط حرك الحراك الشعبي السلمي المتواصل والمتزايد والمصر كافة مؤسسات الدولة وبخاصة منها مؤسسة الجيش الوطني الشعبي التي بدأت تفكر في أنجع الحلول وأسلمها لتجاوز الأزمة التي دخلت فيها البلاد، ومن الناحية العسكرية الثالثة التي كان بصدد زيارتها قال الفريق الراحل أحمد قايد صالح نائب وزير الدفاع الوطني رئيس أركان الجيش الوطني الشعبي يوم 19 مارس أن «شهر مارس يحمل للجزائريين رائحة العمل المخلص لله وللوطن وهو شهر الشهداء» وأشار لأول مرة للحراك الشعبي الذي يحتضنه الشارع. وبدأت القيادة العليا للجيش تعقد اجتماعات لدراسة الوضع العام في البلاد على ضوء التطورات المتسارعة، ويوم 26 مارس يعلن قايد صالح من الناحية العسكرية الرابعة أن تطبيق المادة 102 من الدستور يشكل حلا أمثل للخروج من الأزمة، وهي المادة التي تنص على أن يقدم رئيس الجمهورية استقالته. وأمام تماطل بوتفليقة في الاستجابة للمطالب الشعبية بالتغيير أشرف الفقيد أحمد قايد صالح على اجتماع مهم بمقر وزارة الدفاع الوطني يوم الثاني مارس ودعا بوتفليقة إلى ضرورة أن يقدم استقالته بشكل فوري لتفادي إدخال البلاد في نفق لا تعرف نهايته. وأمام هذه الرسالة الواضحة من المؤسسة العسكرية يقدم بوتفليقة في مساء ذات اليوم استقالته لرئيس المجلس الدستور الطيب بلعيز لتدخل البلاد بذلك مرحلة جديدة.لقد تمكن الحراك الشعبي السلمي والحضاري المتواصل منذ 22 فبراير ليس فقط من منع العهدة الخامسة للرئيس بوتفليقة ولكن أيضا دفعه إلى تقليص عهدته الرابعة ولول ببضعة أيام والرحيل استجابة لمطلب التغيير الذي رفعته ملايين الجزائريين عبر كافة ربوع الوطن، ومعه رحلت عشرين سنة من حكم تميز بالفساد والعديد من التجاوزات وعدم تحقيق الطموحات المشروعة للشعب الجزائري. ولم يتوقف الحراك السلمي للشعب الجزائري عند هذا الحد بل واصل الضغط من أجل رحيل كافة رموز نظام بوتفليقة وبخاصة ما أطلق عليه الباءات الثلاث وهي بلعيز الطيب رئيس المجلس الدستوري، وعبد القادر بن صالح رئيس الدولة المؤقت الذي نصب في التاسع أبريل وفقا لأحكام الدستور، ونور الدين بدوي الذي خلف أويحيى على رأس الحكومة وأعلن عن تشكيلة طاقمه الجديد يوم 31 مارس. و قد رحل بلعيز بالفعل، إلا أن بدوي وبن صالح استمرا إلى غاية انتخاب رئيس جديد للبلاد يوم 12 ديسمبر، لكن الحراك الشعبي استمر على نفس المنوال رغم تقلص زخمه من حين لآخر إلا أنه لم يتوقف طول العام، و قد أفضى إلى تساقط أحجار نظام بوتفليقة واحدا تلو الآخر، وما زاد في قوته مرافقة المؤسسة العسكرية له حتى تحقيق جميع مطالبه المشروعة، كما أعلن عن ذلك مرارا الرقم الأول فيها الراحل أحمد قايد صالح. «العصابة» مصطلح يولد من رحم الحراك وأكثر من ذلك شكل الحراك الشعبي قوة دافعة وداعمة للعدالة التي أعلنت تحررها من الضغوط التي كانت تمارس عليها من طرف النظام السابق ومن سيف الهاتف الذي كان مسلطا عليها،و باشرت فتح ملفات فساد ثقيلة أدهشت الرأي العام الوطني، وأدت إلى توقيف مسؤولين كبار في الدولة مدجنيين وعسكريين، ورجال أعمال، والزج بهم في الجبس المؤقت بسجن الحراش بتهمة الفساد ونهب المال العام، وإخضاعهم للمحاكمة. و قد أبدع شباب الحراك في وضع الشعارات والهتافات والصور والعبارات التي ترفع كل يوم جمعة، بشكل لا مثيل له أبان عن درجة وعي كبيرة لدى الحراكيين، ومنه ذلك ظهر مصطلح «العصابة» الذي صار يستعمل من طرف قائد الجيش قياد صالح وغيره من السياسيين والمواطنين، وهو يعبر بصدق عن المجموعة التي كانت محيطة بالرئيس بوتفليقة والتي تصرفت في البلاد كأنها ملكية خاصة. السلمية والحضارية تبهر العالم بدأ الحراك الشعبي الجزائري يوم 22 فبراير سلميا وحضاريا بصورة ناصعة وحافظ عليها إلى اليوم رغم بعض المحاولات التي كانت تريد الزج به في الفوضى والعنف، وكان فعلا مبهرا للعالم بشهادة الكثيرين، ولم يسجل أحداثا مؤلمة، وكان صور الشباب وهو ينظف الشوارع بعد نهاية مسيرات يوم الجمعة فريدة ولا مثيل لها. لقد ظهر الحراك الشعبي من أجل التغيير السلمي وظل يطالب بذلك في إطار سلمي، رغم محاولات بعض الجهات ركوبه في منتصف الطريق و الانحراف به عن أهدافه الأولية الرئيسية والمشروعة، و قد تمكن من تحقيق العديد من هذه الأهداف اليوم.سيبقى الحراك الشعبي الجزائري لحظة فارقة في مسيرة البلاد، وحركة مشهودة، ومرحلة متميزة في تاريخ البلاد، وحركة اجتماعية شعبية تتطلب المزيد من الدراسة والتوقف، و قد انتقل بالبلاد من مرحلة إلى أخرى وصنع التغيير، وتوقف بالجميع عن لحظات لم يكن يتصور الكثيرين منا الوصول إليها، وسيبقى الحدث الأبرز في سنة 2019 دون منازع.