.. في سنة 2006 حصل اورهان باموك على نوبل للآداب وقد اختير من طرف مجلة تايم الأمريكية ضمن 100 أهم شخصية في العالم وأكثرهم تأثيرا في العالم، بيع ما يقارب 7ملايين نسخة من رواياته وترجمت إلى ما يقارب خمسين لغة،يقضي معظم وقته في اسطنبول ولا يغادرها إلا لماما، وقد تعرّض لمضايقات سنة 2005 بعدما كتب في جريدة سويسريّة أن بلاده تركيا متورّطة في جرائم تاريخيّة كبرى"مليون ارميني وثلاثون ألف كردي قتلوا على ارض بلاده ولا احد يسال لماذا أو كيف"،كاد يدخل للسّجن بسبب هذا لكن الضّغوط العالميّة أسقطت التّهم الموجّهة ضدّه .. نصوص مترجمة عبد الغني بومعزة [ 1 ] .. سنتان قبل وفاته سلّمني أبي حقيبة صغيرة تحوي بداخلها كتاباته وهي عبارة عن كرّاسات خطّ عليها ما تيسّر له من خواطر و أشعار،كعادته كان ساخرا وحازما وهو يطلب مني أن أقرأها قبله، يعني قبل موته:القي نظرة عليها.."،ثمّ أضاف بإصرار أو هذا ما بدا لي:ربّما تجد ما يصلح للطباعة، تستطيع أن تختار "،كنا في مكتبي ومن حولنا الكتب،كان يتجوّل في أرجاء غرفتي ملقيا النّظر من حوله و كأنّي به يبحث عن مكان ما للتخلّص من حمل ثقيل ومزعج ولا يعرف كيف،أخيرا،وضعها بهدوء في زاوية دون أن يثير انتباهي المتيقظ،بعد انتهاء اللّحظة المثيرة للخجل والغرابة لكنّها لحظة لا تنسى،عاد كلّ واحد منا لدوره المعتاد،دور الأب والابن،لشخصياتنا الكوميديّة العفويّة،تحدثنا في مواضيع معظمها عاديّة،عن الحياة،مشاكل تركيا السّياسيّة،عن مشاريعنا التّي يصعب عدّها و إن كان بمقدورنا انجازها،كلّما دخلت المكتب و لأيّام كنت أدور حول الحقيبة دون أن المسها،حتى بعد مغادرته البيت رغم إنني كنت معتادا على الحقيبة الصّغيرة منذ إن كنت صغيرا،كانت حقيبة أسفاره القصيرة وفي مرّات أخرى كان ينقل فيها وثائقه الخاصة بالعمل،أتذكّر وأنا طفل إنني فتحتها وبعثرت ما بداخلها،استطيع أن أقول بصراحة إنني فتشت محتوياتها،اقصد محتويات ملفات أبي، كانت تفوح منها رائحة لذيذة لعطر من تلك العطور الفرنسيّة التّي كان يستعملها وبالطبع رائحة بلدان بعيدة وغريبة كان قد زارها،أدرك أنها كانت تعني لي الشّيء الكثير،تذكّرني بما هو عائلي وحميم،بماضيّ أنا،بذكرياتي،خاصة منها الطفوليّة،رغم هذا لم اقدر على فتحها،لماذا؟،ربّما بسبب وزن غرابيتها الثقيل!، سأتحدّث عن معنى الوزن،أنّه جوهر عمل الإنسان الذّي يحبس من اجله نفسه في غرفة،يجلس أمام طاولة الكتابة الموضوعة في احد زوايا هذه الغرفة، يتواصل بالقلم والأوراق،بمعنى آخر أعني الأدب،لم اقدر على لمسها أو فتحها من فرط جبني وخوفي،لكنني كنت على دراية بما تحتويه كرّاساته التّي بداخلها،رايته من قبل يكتب عليها،يدوّن ملاحظات عابرة أو يسجّل معلومات تخطر على باله،كنت شاهدا على هذا،ليست المرّة الأولى التّي اشعر فيها بوزن محتوياتها،كان لأبي مكتبة كبيرة،في شبابه وبالضّبط في أربعينيات القرن الماضي كان يرغب بكلّ ما أوتي أن يكون شاعرا،كان قد ترجم للتّركيّة الشّاعر بول فاليري،لكنّه في قرارة نفسه لم يكن لديه قناعة كبيرة لتكريس حياته للشّعر في خضم صعوبات الحياة في بلد فقير،حيث قرّاء الشّعر يعدّون على أصابع اليدّ،جدّي كان مقاولا غنيّا،لذا كانت طفولة أبي سهلة،كانت هذه احد الأسباب التّي جعلته يفكّر كثيرا قبل أن يتخذ قرار بهذا الحجم،أظنّه كان يخشى على نفسه من حياة الضّنك،كان يحبّ الحياة السّهلة والمريحة ومغرم بمباهجها وكنت افهمه،ما كان يمسكني عن فتحها ربّما هو خوفي من إنني لن أحبّ ما كتبه،من المؤكّد انه كان يدرك هذا .. [ 2 ] سبّب لي موقفي هذا الكثير من الألم،أنا الذّي اكتب منذ خمسة وعشرين سنة ويصدر مني هذا السّلوك المخجل،لم أرد أن أكون صارما معه بحيث أجدني ملتزما إلى أقصى حدّ مع الأدب،خوفي الحقيقي أو ما كان يفزعني هو إمكانيّة أن يكون كاتبا حقيقيّا دون أن ادري أو أن اعترف بهذا،اعترف بهذا هو السّبب الرّئيس الذّي كان يمنعني من فتح الحقيبة،والأكثر غرابة إنني لم أكن صريحا بما فيه كفاية مع نفسي،لأنه لو خرج منها عمل أدبي كبير كان عليّ أن اعلم بوجود رجل آخر،مختلف تمام الاختلاف عن أبي،كان شيئا مربكا،لا يصدّق،في سنّي هذه النّاضجة كنت أودّ أن يكون أبي هو أبي و ليس كاتبا أو ما شابه ذلك،بالنسبة لي أن تكون كاتبا هو اكتشاف بالصّبر والفضول وعبر السّنوات الإنسان الآخر الذّي بداخلنا،انه عالم يجعل من حياتنا الأخرى أكثر تكتّما وسريّة،تستحضر لدي الكتابة في المقام الأوّل ليس الرّوايات ولا الشّعر ولا التّرجمة،بل الإنسان المجهول الذّي يجلس هناك،في احد أمكنة الدّاخل المجهولة و قد وضع نفسه في فضاء العزلة الآمنة،فقط وحيدا مع الحروف،يضع حجر أساس عالم جديد،هذا الإنسان أو المرأة يمكنه استعمال آلة كتابة أو حاسوب أو مثلي أنا يقضي ثلاثين سنة من حياته يكتب بقلم على ورق العذريّة والخجل،في خضم ممارسة صنعة الكتابة يمكنه التّدخين،شرب القهوة أو الشّاي ومن حين إلى حين يلقي نظرة من خلف النّافذة على الخارج،يشاهد الأطفال يلهون ويلعبون في الشّارع،هذا إن كان لديه قليل من الحظّ،على الأشجار أو على جدار يمكنه كتابة أشعار،مسرحيات أو مثلي أنا يكتب روايات،كلّ هذه الاختلافات ثانويّة بالمقارنة مع فعل الجّلوس أمام الطاولة و الغوص في الباطن،اكتشاف الزّوايا المجهولة من الذّات،أن تكتب يعني انك تترجم إلى كلمات هذه النظرة الآتيّة من الأعماق،الانتقال إلى الدّاخل خاصتنا و التّشبّع بسعادة اكتشاف بصبر وعناد عالم جديد،تدريجيّا وأنا جالس أمام طاولتي كنت أضيف كلمة إلى كلمة على أوراق بيضاء،مع مرور الأيّام،الشّهور والسّنوات أجدني ابني هذا العالم الجّديد،الخيالي والسّاحر،وكأننا نبني جسر أو قوس نصر،الكلمات بالنّسبة لنا الكتّاب هي حجارة نبني بها أو نبنى منها ، عن طريق معالجاتها،مقارنتها بالأخرى حسب وضعيتها ومكانها وطريقة وضعها،وفي بعض الأحيان يتمّ قياسها عن بعد ومرّات أخرى بعكس ما نقوم به نداعبها بأطراف الأصابع والقلم ثمّ نقوم بوضعها فوق بعضها بعناية وتركيز مبالغ فيهما،كلّ هذا من اجل بناء السّنوات الطويلة دون أن نفقد الصّبر و الأمل،انه الإصرار والعناد اللّذين في العادة أكرّرهما لأنّهما لازمة النّجاح والتألّق في صنعة البناء والكتابة،بالنسبة لي سرّ مهنة الكاتب لا تتمثل في ذلك الإلهام الذّي يكون مصدره المجهول بل في الإيمان والقناعة المطلقة والصّبر الشّجاع،استذكر في هذا الموقف مقولة تركيّة جميلة"حفر بئر بإبرة"،أحبّ وافهم صبر فرهاد الذّي حسب الأسطورة عبر الجّبال من اجل عيون شيرين الجّميلة التّي كان مغرما بها إلى حدّ الوله المجنون،في روايتي اسمي احمر ، من كثرة رسمهم لنفس الحصان في منمنماتهم ولسنوات أصبح باستطاعة الرّسامون الفرس رسم نفس الحصان وبعيون مغلقة،بالطبع وأنا أتحدّث عن هذا اقصد أيضا و بطريقة غير مباشرة صنعة الكتابة ، أتحدّث عن حياتي الخاصة .. [ 3 ] يبدو لي انه إذا أردنا أن نسرد حياتنا كما هي أيضا حكاية الآخرين فمن الأفضل أن ننهل من تجاربنا الكثيرة وسيمنحنا هذا بالطبع أجمل شيء يرغب فيه الكاتب إلا وهو موهبة الحكي،الكاتب ذاته وبتفاؤل من واجبه أن يهب سنواته الفانيّة لفنّه وصنعة الكتابة التّي حسب اعتقادي لا يضاهيها أيّ شيء من حيث الجّمال والعطاء والتّضحيات،الإلهام أو صوت القلب الذّي يسكننا عن دون غيرنا حسّاس لثقتنا به،حسّاس كذلك لهذا التّفاؤل،هذا التّفاؤل الذّي هو هواية الحالمين،بالطبع العالم يدرك أن صانعي الجّمال شاعريون ومثاليون،وكلّما شعر بعزلته كلّما زاد يقينه بقيمة جهوده وأحلامه وقناعة ثابتة بما يكتبه،اقصد عندما يدرك بان تاريخ الآخرين هو في الحقيقة تاريخه هو،بان الإلهام أو صوت القلب يقدم ليهبه الحكايات،الصّور وأحلام العالم الذّي يعيشه وعالم آخر يكافح لتشييده،الإحساس الأكثر اضطرابا في مهنة الكتابة والتّي أعطيتها كلّ حياتي هي فكرة غريبة لكنّها أيضا فكرة جديرة بالطرح،انه في بعض الأحيان أفكّر كثيرا في تلك الجّمل والصّفحات التّي غمرتني سعادة فأقول انها من وحي قوّة خارجيّة اجهل ماهيتها،أعود لحكايتي مع حقيبة أبي، مازال هاجس فتحها يؤرقني،الخوف من فتحها وقراءة محتوى الكرّاسات وسبب هذا الخوف بصيغة أخرى علمي بأنه قد اكتشف انه لن يتعرّض لما تعرّضت إليه من صعوبات،كان بعكسي يكثر من الصّداقات ويبغض الوحدة وما شابهها،يفضّل الغرف الغاضة بالضّيوف،السّهرات،جلسات الأصدقاء، مزاحهم ونكاتهم،لكن فيما بعد أضفت إلى هذه الأسباب سببا آخر إلا و هو الصّبر،الزّهد،كلّ هذه التّصاميم التّي شيدتها من وحي تفكيري وتخميناتي قد لا تكون أكثر من أحكام مسبّقة،مرتبطة بتجربتي الشّخصيّة وحياتي ككاتب،أدرك انه لا يعوزنا هذه الطينة من الكتّاب الرّائعين والذّين يبدعون في خضم حياة أقل ما يقال عنها انها شبيهة بملعب كرة قدم،ملتهبة بحماسة الفوضى والجّنون البشري وفي واقع اجتماعي أو عائلي سعيد،زيادة على هذا و هذا ما يؤلمني انه تخلى عنا ونحن صغار ليهرب من مسئولية الحياة العائليّة،هل عرفتم لما ينتابني هذا الشّعور كلّما فكرت في فتحها؟،أدرك عن قناعة انه يوجد بداخلها تلك الكرّاسات التّي كان في ما مضى يكتب عليها خواطره وأفكاره وربّما ذكرياته،لأنّه بعد فترة من تخلصّه منها في مكتبي،أقول بعد سنوات من حادثة الحقيبة بدا في الحديث عن تلك الفترة الغير العاديّة من حياته،في طفولتنا أيضا وهذا ما كان بإمكاني تذكره،كان يتحدّث و باقتضاب عنها،لكن دون أن يتطرّق عن حالات ضعفه وهشاشاته،ولا حتّى عن رغبته أن يكون شاعرا،ولا عن حالات القلق المرتبطة بالحياة التّي قضى جزء منها في الفنادق الفرنسيّة دون أن يدري ماذا يفعل فيها وما هو السّبب المقنع الذّي جعله يتخلى عن حياته السّابقة،كان يحكي لي انه كان يشاهد أو هذا ما يخيّل له سارتر يتمشّى على أرصفة باريس،يتحدّث عن الكتب التّي قراها والأفلام التّي شاهدها بشغف كبير وكأنّه شخص يحمل أخبارا مهمّة،بالتأكيد لا استطع التّخفي أو إنكار ما يخبّأه لي قدري ككاتب يرى والده لا يملّ من الحديث عن الكتّاب الكبار أكثر من حديثه عن الباشاوات أو رجال الدّين و الذّين تزخر بهم ثقافة بلادي وشعبي،مثلي أنا،كان يرغب أن يكون بمفرده في غرفته ليكون برفقة حشد من الأحلام،ممدّد على الصّوفا المقابلة لمكتبته،يضع بجانبه مجلة أو كتابا ويغوص في لحظات تفكير عميقة،تظهر على وجهه عبارة جديدة،مختلفة عن سابقتها من تلك العبارات المتعوّد على سماعها أو استعمالها،في وسط جعجعة التهكّمات والنّكات السّاخرة والشّجارات والاغاضة بينما نظرته تحنو للحظة الدّاخل وسكينة الشّعور .. [ 4 ] استنتجت منذ طفولتي وفي بدايات سنوات شبابي بان أبي كان رجلا قلقا،الآن فقط عرفت وبعد سنوات بان هذا القلق يجعل من المرء كاتبا،لكي تصبح كاتبا يجب أن يكون لديك قبل الصّبر وطعم الحرمان،حاسة الهروب من النّاس،المجتمع،الحياة العاديّة،الأشياء اليوميّة المتقاسمة بين الآخرين و الانزواء في غرفة،نحن الكتّاب نحتاج للصّبر والأمل للبحث في دواخلنا عن أسس عالم نحاول تشييده يوميّا،لكن الحاجة للانزواء في غرفة،اقصد غرفة مليئة بالكتب ستكون دافع حقيقيّ للكتابة،الشّخصيّة الأدبيّة التّي سجّلت بدايات الأدب الحديث وهي أيضا المثال الكبير للكاتب الحرّ والقارئ المتحرّر من القيود والأحكام،الذّي شيّد عالمه بالحوار مع الكتب الأخرى،اقصد بالطبع[Montaigne ]،هو الكاتب المفضّل لدى أبي،يحبّ قراءته كثيرا وكان يشجّعنا على قراءة كتبه،لذا أفضّل وأريد أن اعتبر من المنتمين لهذا التّقليد،أن أقارن بهذا النّوع من الكتّاب الكبار أيّ كان انتماءهم شرقا أو غربا،بالنّسبة لي الإنسان المنزوي في مكتبته باعتبارها المكان المناسب الذّي يذوب فيه مع الأدب الحقيقي،ورغم أن عزلتنا في هذه الغرفة التّي نسجن فيها أنفسنا ليست بذلك الكبر الذّي نتخيّله إلا أننا محاصرون ويا للمتعة بالكلمات،بحكايات الآخرين وكتبهم،وكلّ ما نسمّيه بالتقاليد الأدبيّة،أظن أن الأدب هي الهبة الأكثر ثراء و التّي تسمح للإنسانيّة اكتشاف ذاتها وفهمها،تصبح المجتمعات الإنسانيّة،القبائل والأمم ذكيّة أو ترتقي بنفسها إذا أخذت بعين الاعتبار كتابات كتّابها و أعادت الاعتبار لأدبها واستلهمت الحكمة من مثقفيها،وكما نعرف جميعا فان محارق الكتب واضطهاد الكتاب يبشّر الأمم بأزمنة ظلاميّة وسنوات عجاف من التّخلّف والجّهالة،يجب أن يعرف الجّميع بان الأدب أو الثقافة عموما ليست مسالة وطنيّة،فالكاتب الذّي يجلس في غرفته مع حبيباته من الكتب و المؤلّفات ويسافر عبرها في رحلة داخليّة إلى عوالم الصّمت والحكمة البيضاء سيكتشف عبر السّنوات نظريّة بسيطة وأساسيّة:الأدب هو فن الحديث عن تاريخنا كما هو تاريخ الآخرين وان تاريخ هؤلاء هو أيضا تاريخنا،للوصول إلى هذا الهدف،لنبدأ أولا بقراءة الحكايات وكتب الآخرين،كان لأبي مكتبة كبيرة تضمّ ما يقارب ألف وخمسمائة كتاب والتّي أرى انها تشبع نهم أيّ كاتب وعندما كان عمري اثنان وعشرون سنة لم اقرأ كلّ هذه الكتب ولا ادّعي هذا لكن بالمقابل كنت اعرفها كلّها وكان بإمكاني ذكر معظم عناوينها وكنت اعرف أيّها أكثر أهميّة وأيّها كانت قراءتها متعة وأخرى بسيطة وخفيفة بالمعنى الأدبي .. [ 5 ] في بعض الأحيان أجدني أتأمّل من بعيد هذه المكتبة،متخيّلا إنني في يوم ما سيكون لي منزل ومكتبة مثلها وربّما تكون أفضل،سأشيّد عالما خاصا بي من الكتب،عندما انظر بعيدا تبدو لي مكتبة أبي كأنها صورة مصغرة للكون،في الحقيقة هي أشبه بعالم صغير نشاهده من زاوية ضيّقة،مثلا من اسطنبول و محتوى المكتبة يشهد على هذا،أنشأها من كتب كثيرة اقتناها في أسفاره أثناء فترة شبابه،خاصة من باريس وأمريكا وأخرى اشتراها من عند باعة الكتب في اسطنبول وكانت معظمها كتب للأدب الأجنبي في السّنوات الأربعينات والخمسينات وكتب أخرى كان يقتنيها من مكتبات كنت اعرفها،عالمي خليط بين المحلي والعالمي،الوطني والغربي،ومنذ سبعينات القرن الماضي بدأت في إنشاء مكتبتي،حتى قبل أن أقرّر أن أصبح كاتبا،وقد تعرضت لهذه التّجربة في روايتي[اسطنبول]،كنت اعلم إنني لن أكون فنانا تشكيليّا ولكن أيضا كنت اجهل أيّ طريق ستسلكها حياتي،كان لديّ فضول أعمى ونهم غير مروّض لمعرفة العالم وعطش للتعلّم المفرط والسّاذج،ومن جهة أخرى كنت أحسّ بان حياتي مكرّسة لحالة من اللارضى والاستياء من المجهول،محروم أنا من أشياء هي بالنسبة للآخرين في متناول اليدّ،هذا الإحساس وليد فكرة إنني بعيد عن المركز،قلقي الآخر وهي إنني اسكن في تركيا،بلد لا يعير أدنى اهتمام للفنانين أيّ كانوا،يمارسون الرّسم أو الكتابة،بلد يتركهم يعيشون حالات اليأس والقنوط المجرم،في السّبعينات عندما كنت اشتري الكتب القديمة، المغبّرة والباليّة من باعة الكتب في مدينتي،كنت افعل هذا ليس من باب التّرفيه كما كان يظنّ البعض،لا،كنت افعل هذا عن طموح مقرونة بالسّخرية و تكملة لحياة لا تأتيني كما كنت ارغب،المظهر البائس للباعة في ساحات المساجد،في زوايا الشّوارع،الاضمحلال والفقر المدقع لهذه الأمكنة التّي تزرع اليأس كانت تأثّر في أكثر من الكتب،أما مكاني في هذا الكون،شعوري في كلّ الأحوال بأنني كنت مبعد،مهمّش وبعيد كلّ البعد عن هذا المركز،سواء في الحياة أو في الأدب،في مركز العالم كانت توجد حياة غنيّة وممتعة ومثيرة عن التّي كنت أعيشها،وأنا المسكين كنت محروما منها كغيري من زملائي، اليوم،أظن بأنني أشارك هذا الإحساس مع الأغلبيّة المهمّشة والصّامتة في العالم،كان هناك أدب عالميّ،مكانه بالضّبط في المركز الذّي أجدني بعيدا جدّا عنه،لكن ما كنت أفكّر فيه كثيرا،ليس هذا الأدب العالمي لكن الثقافة الغربيّة و نحن الأتراك للأسف كنا مبعدون عنه ..