نحو تحرير الروحي من الدُّوغماتي لن تكون مداخلتي هذه عن الروحانية بمفهومها السَّائد أو التقليدي الذي يضعها مباشرة في مواجهة المادية أو في صدام مع كل ما هو جسدي – حسي كما درجنا على ذلك. لن تكون، بمعنى ما، انخراطا في النقاشات والمواقف المكرورة التي تستثمرُ في تلك القسمة المكرسة منذ فجر الفلسفة بين ما هو روحاني وما هو مادي، بين اللطيف والكثيف، بين البسيط والمركب، بين العلوي والسفلي. تلك ثنائياتٌ مثلت براديغم النظر إلى العالم منذ أصبحت الأفلاطونية رؤية معقولة للعالم امتدَّ تأثيرُها حتى إلى الأديان. نتذكر في هذا مقولة نيتشه في كتابه "بمعزل عن الخير والشر" عندما أشار إلى المسيحية باعتبارها "أفلاطونية موجهة للشعب" كما يعبِّر. جذرُ الرؤية القديمة للعالم واحد في العمق. لن أقفَ، بالتالي، على ذات الأرضية الميتافيزيقية التي أنتجت صراع الثنائيات المذكورة، وإنما سأحاول أن أحرِّرَ النظر إلى الروحي من أصداء التمذهب المغلق الذي جعله شاحبَ الحضور في حياتنا وبعيداً عن مغامرة الذات الفعلية في اكتناه المعنى واحتضان السر والسَّفر المُضني إلى ردم الهوة بين الذات والعالم ممَّا يشكل جوهر الروحانية. أحمد دلباني لن أنظر، أيضا، إلى الروحانية باعتبارها تجربة دينية بالأساس. فالروحانية قد تأخذ أشكالا كثيرة و تتمظهرُ في صور تفلتُ من الاعتقاد الديني في شكله المعروف. هذا يعني أنَّ الروحانية لا ترتبط، ضرورة، بمنظومة العقائد المقرَّرة في البناء اللاهوتي المُبلوَر تاريخيا من قِبل كل طائفةٍ دينية. كما أنها ليست تقليداً وعقائديات جامدة تدَّعي امتلاك مفاتيح الحقيقة المطلقة. إنها تجربة وسفرٌ إلى الأقاصي، وتحرُّرٌ من العالم لحظة يكشفُ عن محدوديته وعجزه عن تجاوز نفسه أو إخماد نار الأسئلة. الروحانية استسلامٌ لندَّاهة السفر إلى جنة البدايات. وهي، انطلاقا من ذلك، أبعدُ ما تكونُ عن الركون إلى الإجابة التي يقترحها الشرعُ أو العقل أو التعاليم الثقافية لمشكلات المعنى والحقيقة والقيمة. هذا ما يتضاربُ مع اعتقادنا السائد بأنَّ الروحانية تدريبٌ على الامتثال والانصياع للأوامر والزواجر وكل أشكال إرادة محو الذات ورغائبها الكيانية العميقة لصالح الجماعة وتقاليدها. إنها أبعدُ شيءٍ عن ثقافة الأمر أو طمس الذاتية و الفرادة والإصغاء إلى نداءات الكينونة المعذبة في منفى الوجود. الروحانية زادُ من ينتظرُ، في منفاه الوجودي، انكشافَ السر الأعظم والعودة إلى الرحم الأولى. يبدو لي أحيانا أنَّ الروحانية يمكنُ النظرُ إليها وفهمُها من خلال استحضار أسطورة إيكاروس Icare اليوناني الذي صنع أجنحة من الشمع وأراد بلوغ الشمس بطيرانه فما لبث أن سقط في البحر بعد احتراق الجناحين. هذه هي الروحانية كما أراها. عذابٌ ورحلة تمثل، في أقصى تجلياتها وصورها، فشلا مقدسا في بلوغ الوحدة المأمولة مع ضوء البداية أو مع سر العالم والكون. يُذكِّرني هذا الأمرُ بما كتبه الراحل الكبيرُ محمود درويش في أبدع أعماله الشعرية، أعني بذلك حواريته العالية مع الموت في عمله الملحمي "جدارية" عندما قال: " سأصيرُ يوما طائراً، وأسل من عدمي وجودي. كلما احترقَ الجناحانِ اقتربتُ من الحقيقة، وانبعثتُ من الرماد. أنا حوارُ الحالمين، عزفتُ عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني وغاب. أنا الغيابُ. أنا السَّماويُّ الطريدُ." وضمن نفس السياق أتذكرُ جيِّداً ما افتتح به شهابُ الدين السهروردي كتابه "عوارف المعارف" مناجيا الذاتَ العلية: "يا من أحرقت سبحاتُ وجههِ الكريم أجنحةَ طائر الفهم". في الحالتين معا نقفُ على رمزية النار والاحتراق والتلاشي دون بلوغ السر أو عناق شمس الحقيقة الأولى. في كلتا الحالتين سفرٌ وتجربة خيبةٍ تراجيدية في بلوغ مقام المعرفة الكلية أو التأله بمعنى ما. من هنا ارتباط الروحانية في تراثنا العربي – الإسلامي بالتجربة الصوفية تحديداً وهي التي جعلت من المعرفة شأنا قلبيا ومعاناة ومكابدة وتدرجا في المقامات حتى الفناء في المحبوب. ما أردتُ أن أقول من خلال كل ذلك هو أنَّ الروحانية لا يمكنُ تناولها باعتبارها تراثا ثقافيا أو تقليداً اجتماعيا أو إكراها عقائديا لأنها بالأساس تجربة ترتبط ببحث الذات عن الألفة في عالم يمثل مسرحا للسقوط من جنة الوحدة البدئية. الروحاني، بمعنى آخر، آدم آخرٌ لا تسَعهُ أيُّ أرض وهو يجتهدُ دوما في الرجوع إلى فردوسه الأول. ربما كان من المفيد أن نُشيرَ إلى أنَّ الروحانية ارتبطت في الماضي بهذا النزوع إلى الخلاص من سجن الجسد. فمن المعروف أنَّ النظامَ المعرفيَّ وأفقَ المعرفة عموما في العصور القديمة والوسطى ظل أسيرَ التصور الكوسمولوجي الذي يعرضُ العالم في صورة تدرج ينتقل من الأدنى إلى الأعلى ومن كثافة المادة إلى لطافة الروح. لقد كانت الروح، بمعنى ما، سجينة الجسد. وكان إنكارُ الجسد بالتالي علامة على التحرر من عبودية الشهوات ومن السدود التي تقفُ حائلا بين المرء ورؤية الحقيقة أو الاتحاد بها. نتذكرُ في هذا فلسفة أفلاطون وأتباعه وكيف استعادها بعضُ مفكري الإسلام كالشيخ الرئيس ابن سينا. إنَّ قصيدته العينية شهيرة في هذا الباب وهو يعرضُ بصورةٍ بديعة لقصة الحمامة البيضاء التي سكنت الخراب البلقع وظلت تحنُّ دوما إلى الفضاءات الوسيعة التي هبطت منها. هذه هي قصة الروح في المدونات الفلسفية والدينية والغنوصية القديمة برمتها. إنها حكاية العودة إلى الأصل والتحرر من سجن المادة. قرأتُ، يوما ما، في "طبقات الصوفية" لأبي عبد الرحمن السلمي أنَّ أحدهم سأل بايزيد البسطامي "بمَ بلغت هذه المعرفة؟" فأجاب "ببطن جائع وبدنٍ عار!". لقد كانت مجاهدة الرغبة وقمع الجسد مدخلا ضروريا لبلوغ درجةٍ تشف فيها الروح ويتمُّ فيها عتقُ جذوة النور الداخلي من بحر الظلمات المرتبطة بالنفس وغواياتها. ولكن ماذا عن الروح في الفكر المعاصر؟ من الملاحظ أنَّ الفكرَ الراهن لا يتبنى - دون حذر - مفهومَ الروح التقليدي الذي عراه الشحوب منذ بداية انهيار التصور الكوسمولوجي التراتبي القديم للكون. إنَّ ميلاد المكان الفيزيائي الموحَّد المنسجم الخاضع لنفس القوانين حرَّر الروحَ ذاتها من اغترابها في الميتافيزيقا الكلاسيكية وجعلها تعود إلى الأرض من خلال قلب المعادلة حيثُ أصبحت تتولد من إكراهات الصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي لتُصبحَ، بدورها، سجنا للجسد وعائقا أمام التحرر الفعلي للذات الخاضعة التي يجتهدُ المجتمع المعاصر في إنتاجها وإعادة إنتاجها كما يذهب إلى ذلك ميشال فوكو مثلا في بعض تأملاته. فربما لم تكن الروحُ إلا خدعة ومظهراً أو عنصراً من عناصر تكنولوجيا السلطة في المراقبة والتأديب وتطويع الذوات. لذا يبدو لي، انطلاقا من ذلك، أنه من غير الدقيق أن نتحدَّث عن الروح هكذا بإطلاق دون فهمها باعتبارها نتاجا خطابيا أيضا أفرزته سياقاتٌ ثقافية وحضارية متباينة ومختلفة. فالروح القديمة كانت مفهوما ملتبسا بثقافة العصور الوسطى والبناء اللاهوتي – الفلسفي الذي اقترح رؤية للعالم ونظاما قيميا يقوم على التراتب الأنطولوجي بين الأدنى والأعلى والمحسوس والمعقول. إنَّ هذا المعنى الذي عرضناه للروحانية يعني أنها لا تعيشُ خارج العالم. فهي تتأثرُ بالسياقات التاريخية والثقافية المختلفة التي تستثمرُ فيها أو تحدُّ من تطلعاتها. هذا ما جعل من الروحانية - في شكلها الصوفي عندنا مثلا - مدارَ حرب تأويلية كبيرة خاصة في العصر الحديث ومنذ بدايات نشوء وعينا النهضوي ونحن نعيش ما سمَّاه أدونيس "صدمة الحداثة". وربما وجدنا أنفسنا أمام "صدام قراءات" إن جاز التعبير في هذا المجال. لقد كان من اللازم والضروري التمييز بين التاريخ والدلالة أو بين الحركة التاريخية والمعنى العميق بخصوص التجربة الصوفية في التراث العربي – الإسلامي. إذ قد يعترضُ الكثيرون على وصف بعض التجارب الفكرية والروحية الكبرى في عصرنا بالصوفية لاعتقادهم أنَّ التصوفَ يرتبط بالدين الإسلامي ويخضعُ لعدة اعتبارات سلوكية وعقدية لا تخرجُ عمَّا تقرَّر تاريخيا لدى أهل التصوف. كأنَّ التصوف مذهبٌ مغلقٌ ومدرسة تعاليم جاهزة تقوم على التقليد والانصياع وامتثال المُريد للشيخ. ربما كان هذا صحيحا - إلى حدّ ما - لو أخذنا في الحسبان ما آل إليه التصوف في القرون الأخيرة بعد أن تصلبت شرايينُه مع الطُرقيَّة وخمدت جذوته الأولى التي أنتجت مغامراته الكبرى فأصبح تقليداً ونظاما سلوكيا وانعزالا عن العالم. نعم هذا صحيحٌ نسبيا. ولكنَّ التصوف، في العمق، ليس تاريخا فحسب وإنما هو روحٌ معذبة تتطلع إلى التجاوز وإلى كسر كل الحدود التي تجعل الذات تعيشُ منفاها الوجودي بعيداً عن الكل. التصوفُ يصدر عن شعور مرير بالمنفى وكأنَّ الإنسان يستعيدُ فاجعة سقوطه من جنةٍ ما، فيحاول أن يسردَ قصة بحثه عن أمومةٍ كونية ووحدةٍ مع العالم في محاولة للظفر بتلك الجنة من جديد. بهذا المعنى يكون التصوف مسلكا إنسانيا لا إسلاميا فحسب. فقد عرفت كل الثقافات هذا الأمر كما يكشفُ عن ذلك التراثُ الشعريُّ والديني والثقافي بعامة عند كل الشعوب. هذا ما قصده أدونيس، مثلا، عندما تناول الصوفية مع السوريالية باعتبارهما حركتين تشتركان في هم واحد - بمعزل عن المضامين الفكرية والإيديولوجية لكل حركة – كما تشتركان في المسلك الباطني الرؤيوي الذي يعتمدُ الحدس والقلب وتجاوز الظاهر المرئي الذي يكرس الثنائيات إلى نوع من الوحدة. إذ من المعروف أنَّ أقسى ما يواجهه المتصوف هو شعوره المرير بالطلاق مع جوهر الوجود في ظل عالم تتنازعه الثنائياتُ وينهضُ فيه الوجودُ المرئيُّ على التناقض الظاهريِّ الذي يقفُ سدّاً أمام إدراك كنه وحدته العميقة. فإذا كان السورياليُّ يبحث، بحسب بريتون، عن "النقطة العليا" التي تزول معها التناقضاتُ والخلاص من عالم لا يزال "تحت هيمنة المنطق" كما يُعبِّر، فإنَّ الصوفيَّ يريد اختراقَ حُجب الظاهر نحو الباطن الذي يكشفُ عن وحدة الذات مع الآخر أو المطلق أو الله من خلال الفناء. هذا ما يجعل من التجربة الصوفية تجليا إسلاميا تاريخيا لهاجس إنساني عام يُسمَّى الروحانية في شكلها الذي ذكرنا ملامحه العامة آنفا. إنَّ اهتمامَ أدونيس بالتصوف – منذ بدايات نشاطه الإبداعي والفكري –يرجع إلى اعتباره هذا الجانبَ من التراث لم ينل نصيبه من القراءة المُحرِّرة التي تستكشفُ أبعادَه ولا تطمسُ ضوءَه داخل قمقم القراءات السائدة. لقد خصَّص لذلك بعض دراساته الشهيرة التي حاول من خلالها إعادة الاعتبار للتجربة الصوفية بوصفها تجربة في المعرفة وفي الكتابة معا. كما حاول أن يُنبِّهَ إلى أبعادها الإنسانية على اعتبار أنها روحانية تجدُ أساسها في الحب لا في علاقات الهيمنة والسيطرة التي تقيمها العقلانية الأداتية أو الدين في أشكاله الشرعية التقليدية مع الآخر. وهنا تكمنُ قيمة الصوفية تحديداً في أبعادها الأخلاقية. فهي، من هذا الجانب، فرصة عظيمة لإنسانية مريضةٍ بالانغلاق الهوياتي تدعوها إلى مراجعة نفسها ووضعها الذي لم يعُد إلا مَعينا للعنف ورفض الآخر المختلف. يبدو جليا، انطلاقا من ذلك، أنَّ أدونيس يبتعدُ كليا عن تناول الصوفية باعتبارها مدوَّنة عقدية مذهبية، وإنما بوصفها حركة تجاوز لثقافة الظاهر والشرع والقوانين والعلم الذي يقفُ على أعتاب المنطق العقلي الجامد لا يتجاوزه. يقول عن الصوفية إنها "تجاوزت تراثَ "القوانين" لكي تُقيمَ تراثَ "الأسرار". ويُضيف "لقد أسَّست لشكل آخر للمعرفة، ولحقل معرفيٍّ آخر". كما نجده يستحضرُ الجسد – مُفعما بكل الإنجازات والفتوحات المعرفية التي أزاحت النقاب عن وجه قارة اللاشعور والمكبوت – من أجل تحرير التجربة المعرفية من أشكالها التقليدية القائمة على قمع الجسد وعلى استبعاد اللامعقول. فمن غير الممكن البحثُ عن الإنسان الكلي المكتمل المتصالح مع ذاته ومع الكون دون الالتفات إلى الجسد والتجربة الجسدية باعتبارها تجربة صوفية بالأساس تمثل دخولا في ليل العالم – عبر الجنس – بحثا عن لحظة الانخطاف والتماهي مع المطلق الذي يجاورُ الفناءَ والموت. يضيف قائلا "إنَّ فعل الحب يعني التوحد مع الكون، عبر الجسد، إنه يعني التوحد مع جوهر الكون." هكذا يعطي أدونيس للحب معنى ميتافيزيقيا كاشفا عن أبعاده التي تربطه بينابيع الكون وبالمعرفة التي تتجاوز عتبة الظاهر المباشر إنقاذاً له من الابتذال الذي أصبح سِمة لحضارة الاستهلاك والمتعة العابرة في عهد شيخوخة الليبرالية. إنَّ الحب، بهذا المعنى، كالشعر كيمياء ترومُ البحث عن النور في إغفاءةٍ لذيذة يكون فيها الموتُ صنواً لحياةٍ أعلى وأكثر شفافية. وهل ثمة طريقٌ أخرى للمطلق؟ لن يُنقذ الروحانية اليوم، في اعتقادي، إلا انفلاتها من قفص المذهبيات التي أوقعتها في الطقسية والتكرار وجعلتها سلعة معلبة ومومياء جفَّ في أوصالها ماءُ الحياة. لن يكونَ للروحانية شأنٌ جديد متجدد إلا من خلال صلتها بالنداءات البعيدة الغور في الذات – تلك التي كانت في أساس انبثاقها. قال المتصوف أبو بكر الشبلي "الصوفية أطفال في حِجر الحق." ولكن ما دلالة الطفولة هنا؟ أليست إشارة إلى البكارة: بكارة الرؤيا؟ أليست إشارة إلى براءة الكيان؟ إلى البداية؟ إلى الدهشة في حضرة ما لا ينتهي؟ إلى النسيان العظيم المُطهِّر من ثقل التقاليد وإملاء المؤسَّسات الوصية على الروح؟ هذا ما يمنحُ التصوفَ عظمته باعتباره تطلعا لا يفتُر إلى السر وسفراً وإبحاراً دائما إلى شواطئ قد تومئ من بعيد ولكن لا يمكن بلوغ تخومها بصورةٍ نهائية. كتب الفرنسيُّ أندري جيد في يومياته "لن أكونَ رجلا أبداً، بل طفلا شاخ!" وكأنه يستعيدُ ما كتبه الصوفيُّ المسلم قبل قرون. ولكنني سأختمُ بما قاله أدونيس نفسُه يوما ما عندما كتب "ما أحوج شيخوخة الكلام إلى طفولةِ الأبجدية". هذا جوهرُ المشكل: التحدي الذي يواجه الروحانية اليوم هو أن تستعيدَ طفولتها وبداياتها قبل أن تسقط في شيخوخة التمذهب والدوغماتية.