أكتب الشعر لأنني أعتقد بأنه لا يضر أحدًا على الأقل أزراج عمر شاعر ومفكر وكاتب جزائري من مواليد عام 1952 عمل في التعليم والصحافة وعاش في لندن لمدة تفوق 20 سنة من مجموعاته الشعرية: "وحرسني الظل" من منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر عام 1975، "الجميلة تقتل الوحش"، عن نفس الشركة عام 1978، "العودة الى تيزي راشد" عن مطبعة لافوميك بالجزائر عام 1984، "الحضور" كتاب مقالات عام 1977، "أحاديث في الفكر والأدب" الصادر عن دار النشر (الأمل" لعام 2007، وهو كتاب ضخم يقع في ثماني صفحات بعد الأربعمائة، والذي ضم عددا من الأحاديث في الفكر والأدب والسياسة والتراث المشغولة والمهمومة بالأسئلة الفكرية والأدبية التي تحتل حيزا كبيرا لدى الشاعر أزراج، "منازل من خزف" عبارة عن دراسات في السياسات الثقافية الجزائرية عن منشورات رياض الريس ببريطانيا عام1995، "الطريق إلى أثمليكش وقصائد أخرى" عن دار بيسان ببيروت عام 2005، وله 5 مؤلفات أخرى قيد الطبع. ترجمت نصوصه إلى عدة لغات منها الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والفارسية، كما نال عدة جوائز منها جائزة "اللوتس" الأفرو آسيوية للأدب عام 1994 التي يمنحها إتحاد كتاب آسيا وأفريقيا. في هذا الحوار يتحدث الشاعر أزراج عن الشعر والكتابة والسياسة وعن هواجس أخرى لصيقة اللحظة والكتابة والحياة. أجرت الحديث/ نوّارة لحرش - كنت، ربما، أول شاعر جزائري كتب الشعر الومضة، أو الهايكو. أذكر أننا كنا نقرأ لك نصوصا في جريدة "العرب" بهذه التقنية، فهل كنت وقتها مطلعا على تجارب الهايكو؟ أم أنّ التجربة جاءت هكذا من وحي الاشتغال والتجريب والتجاوز؟ أزراج عمر: في البداية أود أن أشكرك على استضافتك لي لكي أتحدث، ولو باختصار شديد، عن بعض ملامح مهنتي كشاعر. أشدّد هنا على عبارة "مهنتي كشاعر" لأن الشعر هو مهنة الدفع بالوجود لكي يلد لغته الخاصة به، ولكي يتم فتح إمكانيات لحظ الإنسان في الحياة. لست متأكدا بأنني كنت، ربما، أول شاعر جزائري كتب شعر الومضة، أو ما يدعى في التقاليد الشعرية في الشرق الأقصى بالهايكو. إنّه ينبغي ترك هذا الأمر للدراسات المقارنة في الحقل الشعري. لاشك بأنني قد اطلعت على بعض تجارب "الهايكو" منذ السن المبكرة عن طريق قراءة الشعر الصيني، والشعر الياباني المترجمين إلى اللغة العربية. لكن شعر الومضة ليس حكرا عبر التاريخ على تجارب الشرق الأقصى. ففي الشعر العربي يوجد هذا النمط من التجربة الشعرية وخاصة عند النفري، مثلا، في ديوانه "ضاقت العبارة". ونجد هذا النوع أيضًا في شذرات نيتشه، وهولدرلين، ورينيه شار، وبول فرلين، وبودلير، ورامبو، وعند شعراء إسبانيا أمثال أدنامونو، ولوركا، ورامون خمينيث، ورافائيل ألبرتي، ولدى العديد من شعراء منطقة بحر البلطيق الخ. ففي التجربة الشعرية الأمازيغية، وخاصة عند الشاعر المتفرد سي محند أومحند، نعثر على القصيدة الومضة التي تكثف وتزحزح التجربة الحياتية. أرى بأن الشاعر يسأل الكون والعصور، ويحاول أن »يأسر المساحات التي لا حد لها في قدم مربع من الورق ويسكب طوفانا من القلب الصغير بقدر بوصة« كما عبّر يوما الشاعر والناقد الأمريكي أرشيبالد مكليش. فالشاعر يسأل، ومن طبيعة السؤال الإيجاز، أمّا الشعراء المتخصصون في تقديم الإجابات فهم يشرحون التجربة،ولا يكتشفون عوالمها. مرّة قال الشاعر الصيني "لوتشي" ما يلي: »نحن الشعراء نصارع اللاوجود لنجبره على أنّ يمنح وجودا، ونقرع الصمت لتجيبنا الموسيقى«. إننا نفهم من هذا أن النقاط اللامرئية من هذا اللاوجود صعبة المنال، ويحتاج الشاعر لكي يقبض عليها إلى مهارة، وشجاعة، وسرعة النمر. ما دامت اللغة ليست وعاء جاهزا للتجربة بمعناها الشعري، فإنّ هذه الأخيرة هي التي تحدد لنفسها مساحة، أو لنقل فضاء القصيدة. فالفيلسوف يعمل على توسيع الفكرة، أما الشاعر فيعمل على الإيحاء بالشرارة التي تشير إليها، ومن خصائص الشرارة الخطف ثم الرحيل المباغت. يقول مارتن هيدغر تباعا لما قاله قبله هيجل بأنّ الشعر بيت الوجود. وهنا أسأل: كيف يمكن للقصيدة أن تُسكِن كل الوجود فيها؟ هنالك فارق نوعي بين الشاعر والروائي، ويتمثل في أنّ الأول يتعامل مع اللامرئي، ويرى الكل في الجزء، أما الثاني فيثقل خطاه بالكل وتفاصيل المرئي. هكذا أفهم تجربة القصيدة الومضة ولو بعجالة. - في شعرك الكثير من المعرفة، كأنك تقول للقارئ أنا عارف بأشياء كثيرة فتعلّم كي تأمن. وهنا مثلا: "ما أشبه المعرفة بالأمن/أو سوف نأتي يوما من المعرفة/لو نأتي يوما من المعرفة"، مما يعني أنّ المعرفة في شعرك حاضرة بشكل مكثف حتى كمفردة حيث أنّ حضورها جد كثيف؟ أزراج عمر: الشاعر يقدم ما هو معتقد فيه كما تفعل الأسطورة، ولا يقدم اليقين. فالشعر تمثيلات باعتبارها محاكاة للواقع حينا، ولكن سرعان ما يتم تجريدها من أجل الدخول إلى غابات الرموز التي تشير إلى معنى، وليس إلى واقع مثلما قال أحد المفكرين. لا أعتقد بأن في شعري معرفة بما هي معلومات،أو أفكار محددة، أو نظريات تفسر ظواهر الطبيعة، أو تجربة الحب، أو القلق مثلا. لو أنه لديّ معرفة نهائية بأي شيء، أو بأية ظاهرة أثناء ممارسة الوجد الشعري لتوقفت عن كتابة الشعر، ولأصبحت مطمئنا أو يائسا بشكل نهائي. فالقصيدة دهشة،أو سؤال، أو إعلان عن إخفاق الحواس على تعقل تضاريس الوجود والعدم، وعواصف الحياة. إنها "أي القصيدة" إفشاء لضعف معرفة الإنسان رغم كل الإنجازات التي يعتبر نفسه بأنه أفلح فيها لترويضها، وتسخيرها لشؤونه، ولنزواته. ففي الحقيقة، فإنّ الشاعر يدرك بالحلم وبالرؤيا، ويخفق كثيرا في الإدراك باليقظة الميكانيكية. إذا كنت في سؤالك تقصدين توضيح علاقة المعرفة بالشعر فإنني أقول لك بأنها علاقة تضاد في أغلب الأحيان على أساس أن الشاعر يحاول دائما أن يكتشف ما لا تعرفه معرفة العصور بما في ذلك عصره.وبمعنى آخر فالشاعر أشبه بالعرافين الذين يقدمون إشارات، وليس نظريات في فيزياء الطبيعة، وفي كيمياء الحب. أعتقد بأن تجربتي الجديدة ببريطانيا قد غيرتني رأسا على عقب. مرّة قال الفيلسوف جاك دريدا بأن الديمقراطية توجد دائما في المستقبل، وأعتقد بأنه يقصد بأن كل أشكال الثقافة، والحضارة، والحكم التي عرفناها حتى الآن لم تحل معضلة العدالة والحرية سواء بين الأفراد، أو بين الدول. فالعدالة، كحلم، وربما كقصيدة، توجد في المستقبل أيضا. نحن نظن بأننا قد قبضنا على المعرفة وأشكالها ومضامينها، ولكن الأجيال التي تولد وستعيش بعد قرون من رحيلنا ستلتفت إلى الماضي، أي إلينا "نحن" كماضٍ وتسخر من أحكامنا ووصفاتنا المعرفية التي جهزناها لها مسبقا. لاشك بأن الذي أقصده في إحدى قصائدي التي تبدأ هكذا:»هل سنأتي يوما من أقاصي المعرفة؟« هو أننا سندرك، وينبغي أن ندرك بأننا سوف نعرف بأننا بشر فانون، وأنّ اللذة التي نعتصم بها لإثبات ذاتيتنا في الدنيا هي ظل من ظلال الموت. في تجربتي البريطانية تعلمت بأنني لا أملك اللغة، بل أنا مملوك لها، كما فهمت بأن الوطن ليس سوى فكرة نحاول أن نختزلها في الناس والجغرافيا وأجراس الطفولة. فالذي يزداد لديّ اتساعا هو اكتشاف براءة جهلي بالحياة. في إحدى قصائده الرائعة قال الشاعر الإيرلندي بطلرييتس بأن الحياة لا يمكن أن تفهم إلا كمأساة. أستطيع هنا أن أضيف بأن الشعر هو محاولة منّا نحن البشر لكي نفهم أن جوهر المعرفة هو الإكتشاف المدهش والدائم لجهلنا حتّى لذواتنا التي نعتقد جازمين بأنها من صنعنا،في حين أنها ليست كذلك بالمرّة. إنّ حقائق التحليل النفسي تؤكد لنا بأننا لا نقدر أن نجد مفهوما ضابطا "للواقعي" The reel لأنه يوجد خارج البنية، كما يرى المحلل النفسي والفيلسوف الفرنسي جاك لاكان بحق، أو لنقل خارج بنية مبدأ الواقع بما في ذلك السجل الرمزي. لقد أعجبت كثيرا باعتراف ايمانويل كانط عندما قال بأنّ »جمال الطبيعة يتعلق بشكل الموضوع، الذي يقوم في التحديد، وفي مقابل ذلك، فإنّ السامي يمكن أن يوجد أيضًا في موضوع غير ذي شكل« ثم يوضح أكثر بقوله»وهكذا يبدو أن الجميل يناسب عرض مفهوم غير محدد للذهن، بينما يناسب السامي عرض مفهوم غير محدد للعقل«. أعتقد أنه على الشاعر أن يقدم لنا كيفية للقبض على موضوع غير ذي شكل ويعطي له الروح وليس المفهوم، وأن يعمل بقوة المخيلة في الفضاءات التي لا يستطيع أن يحدها العقل البشري، أو أن يأسرها في أحكام ومقولات. -هناك من يرى أن القصيدة عندك تحمل سيرة الذات وما ينعكس على مرآتها، فماذا تقول وهل كل قصيدة هي سيرة ذاتية؟ أزراج عمر: أعتقد أنّ استنتاجك في محله. فالشاعر، ربما، يكتب سيرته الذاتية والتي هي في آن واحد هي سيرة ذاتية لمجتمعه ولعصره. ولكن أنا لا أسرد إنّما أحاول أن أجد معادلات موضوعية من خلالها أرى الوجود من خلال ذاتي وأرى ذاتي مبعثرة في برزخ الوجود. الجسد عمارة للروح - ما حكايتك مع الجسد؟ إنّه الثيمة الغالبة في أكثر أشعارك. إنّه يكاد يكون هو التوابل والبهارات، التاريخ والجغرافيا، الآثام والتوبة، الشياطين والملائكة، الشك واليقين، الجحيم والجنة وكل شيء؟ أزراج عمر: أعتقد بأن العناصر المكونة لسؤالك المبني على التأويل، والفهم الحصيف لطقوس تجربة الجسد في شعري، هي الإجابة التي كنت، ربما، سأجيبك بها لو اكتفيت أنتِ بمجرد الإشارة المقتضبة فقط. ربما يمكن القول، عطفا على سؤالك، بأن الجسد عمارة للروح. إنّ هذه العمارة تصبح أحيانا سجنا فتتمرد عليه وتنفجر على ضيقه. أرى بأن حكايتي القديمة مع الجسد التي تسألينني عنها متصلة وفي علاقة عضوية مع الآخرين بما في ذلك الطبيعة كوعد وكرحيل وشتى الأجساد المرئية واللامرئية التي تدور خارج فلكها أو في فلكها ومعها. نعم، فإنّ الجسد، وأي جسد له جانبه الفيزيائي والفضاء الذي يشغله، ويتحرك فيه. ولكن ما يصدر عن بعض أجزاء الجسد ليس بالضرورة فيزيائيا. إنّ غناء الطيور، وخرير الماء لا يمكن أن نراهما بالعين، أو نقبض عليهما بأصابع اليد. إنّهما غير مرئيين. لو أن جسد المرأة، أو الرجل الذي هو موضوع المتعة يمكن قياس أبعاده الروحية والقبض عليها دفعة واحدة لاستقال محبوه منه بعد استهلاكه في شهر، أو في سنة، أو حتّى في عقود من الزمن. إنّ الذي يشعل الرغبة هو التوهم، أو التوق لمضاعفة الحياة، ولاكتشاف المجهول والمستحيل اللذين لا نجدهما، ربما، إطلاقا وإلى الأبد. ومن هنا فإنّ حكايتي مع الجسد هو هذا البحث عن الفردوس اللانهائي والمتخيل، أو عن وطني كفكرة. فالفكرة ليست جسدا. أنا أميز بين الأفق الدنيوي والأرضي من الجسد وبين تلك الفضاءات الروحية التي تشع منه ثم سرعان ما تغرب قبل أن نقبض عليها في شكل أو بواسطة الشكل. ربما كنت حسيّا في بعض قصائدي القديمة، ولكن التجربة الشعرية التي انخرط فيها الآن ليست كذلك. إنّها تحاول أن تنأى عن خرقة الجسد لتطل على معناه الذي يصعب أن أحدد له شكلا أشبه بحركات الإنسان مع ظل الموت الذي يتبعه حينا ويسبقه حينا آخر، ولكن لا يراه. -هل تشهد الموت الإكلينيكي للشعر الجزائري؟ بعض الشعراء عندنا قالوا هذا منذ مدة قصيرة فما رأيك أنت؟ هناك شعريات حاضرة بقوة في الإعلام والصحافة، لكنها لا تمثل المشهد الشعري العام أو الخاص، وهي ربما ليست على قدر من الإبداعية، فما رأيك؟ أزراج عمر: لا أريد أن أتحدث عن الشعر الجزائري في هذا الوقت بالذات. لا أحب التصريحات والأحكام المتسرعة. كل الذي أريد قوله بخصوص السؤالين المطروحين عليّ، هو أن أردد ما قاله الشاعر الألماني فريدريك هولدرين الذي أصابه الجنون وهو في سن الثلاثين: »أنا أفضل هذا النعاس على انفراد وانتظار من غير أصحاب، فلا أدري ما أقول وأفعل؟ ماذا يفيد الشعر في هذا الزمن الحقير؟ - قلت ذات مرة "أقلامنا لا تكتب إلا تاريخ الرجل المتسلط"، ترى متى تكتب أقلامكم تاريخ المرأة المزدحم بتاريخ طويل من تسلط أفكار وأقلام هذا الرجل؟ أزراج عمر: نعم، فالمرأة عندنا تتحرك في غابة الرجال. ولكن هؤلاء الرجال هم نتائج ثقافة متسلطة، وبذلك فهم تعساء وضحايا وجزارون في آن واحد. فالمرأة نفسها عندنا تساهم أيضا عن لا وعي في إنتاج وتكريس ثقافة وقيم التسلط. وهكذا فوراء كل رجل متسلط امرأة بداخلها ثقافة متسلطة ورجعية غرسها فيها المجتمع المتسلط والرجعي مثلما هو حال مجتمعنا الجزائري. فالسؤال في تقديري ليس "متى تكتب أقلامكم تاريخ المرأة المزدحم بتاريخ طويل من تسلط أفكار وأقلام هذا الرجل"، وإنما هو: "كيف ومتى تتغير البنيات الثقافية، والقانونية، والنفسية، والمادية والدينية المعقدة والمتشابكة التي تفرز ظاهرة الموقف المتسلط على مدى تاريخ طويل ولا يزال؟" ففي تقديري أيضا فإنّه ينبغي العمل من أجل توزيع السلطة بعدالة داخل العائلة وفي مستوى الدولة أيضًا. بدون مواجهة هذا الوضع فإننا لن نفعل شيئا باتجاه الحرية، أي تحرير المرأة والرجل معا. إنّ تغيير الثقافة والعلاقات الإقتصادية، وتدمير الموروث النفسي المتخلف هو البداية الحقيقية. ولكي تبدأ هذه البداية فلا بدّ من خلق المسافة مع البنية الكلية للتخلف، والإنفصال عنها ثمّ ممارسة النقد ضدها بقوة وشجاعة. إنّ هذا أمرًا ليس سهلا، بل هو مؤلم وشديد الصعوبة. -إلى أي حد نحن كائنات تراثية كما أشرت في إحدى مقالاتك، وهل الكائنات التراثية هي خارج التطور والعصر أو الحداثة كما فهم البعض من مقالك الذي قوبل بالرفض والانتقاد؟ ينبغي تحليل ونقد سلطة التراث أزراج عمر: أولا إنّ مقالي المنشور في جريدة الخبر والذي أشرت إليه لم يقابل بالرفض، ولعل المقالة التي كتبها الدكتور جباب دليل على أنّ التراث في حاجة إلى تحليل ونقد بعد أن نكون قد تمكنا من الإنفصال عنه وإقامة المسافة بيننا وبينه، وهذا أيضًا أمر شديد الصعوبة والتعقيد لأن التراث هو جزء من الذات العمياء التي لا ترى نفسها كثيرا. فالتراث قيد حين يكون الموتى هم الذين يشرّعون لنا، ويفصّلون الملابس لحياتنا. كما أنه حرية عندما يكون طاقة إبداع ونقد تساعد الحاضر على التخلص من عبء التخلف والنكوص، والتحجر. لا أعتقد بأن التراث هو الكل المادي والرمزي الموجود هناك خارج الإنسان في أي مجتمع بما في ذلك مجتمعنا الجزائري. فالتراث في رأيي هو هذا المجتمع في مواقفه، وسلوكه، وردود فعله، ونفسيته، وأساليبه في الحياة الإجتماعية والسياسية. بمعنى فإنّ التراث هو داخل الإنسان وغالبا ما يكون غير واع به. ولذلك فإنّ المقصود بمصطلح "الكائنات التراثية" الذي استخدمته، واستخدمه غيري أيضًا هو أن الذي يحركنا هو ما ترسب في "طبقات وعينا غير النقدي"، وفي مخزون "لاوعي" هذه "الكائنات التراثية" البشرية. عندما يكون الوضع هكذا فإنه يمكن القول بأن هذه "الكائنات" لا تعيش تراثها لأن العيش يقوم على أساس اختيار أفق وأسلوب ومعنى المعيشة. إنّ "الكائنات التراثية" خاضعة تماما وبدون مساءلة لسلطة التراث ومقاييسه. وفي هذا الوضع بالذات تكمن الديكتاتورية، وتطمس الفاعلية. هذا على المستوى النظري، أما على المستوى العملي فإنّ المطلوب هو تفكيك العلاقة القائمة بين ما هو قيود وتسلط في التراث، وبين الممارسات التي تعيد إنتاج ذلك التسلط على مستوى الأفراد والجماعات، والمؤسسات، وأجهزة الدولة الإيديولوجية مع تشريح المبررات، ونقد الآليات الدفاعية التي تكرس استمرار وباء التخلف في مجتمعنا وهو نموذج صالح للدراسة. - سُئلت مرّة ماذا يعني لك الشعر فكان جوابك : "الشعر لا يعني لي شيئا، ولكن الحياة تعني لي الكثير، لأنها سفر لا ينتهي في هذا الكون العجيب". هل يعني أن الشعر عندك في بعض الأحيان هو مراحل ترفيه أو تأملات عابرة فقط، وأنه لا يرادف الحياة في بعض مراحلها؟ أزراج عمر: ليس الشعر عندي يا صديقتي نوّارة مراحل، وترفيها أو تأملات عابرة. أنا أكتب الشعر لأنني أعتقد بكل براءة بأنه لا يضر أحدًا على الأقل. أكتب الشعر، ربما، لأعوض به عن الفقدان، ولأنني أخاف من الوحشة الروحية أن تغزوني دفعة واحدة، وإلى الأبد. نعم، فالشعر لا يعني لي شيئا محددا، بل يعني لي الحياة التي لا يمكن أن يحدها أو يحددها أحد ما، أو شيء ما. فأنا أكتب الشعر حينا، وأتوقف عنه سنوات، ثم نعود إلى بعضنا، وثمّ نبدأ في التعرف على ألم الفراق الطويل. مرّة سألني صديق إنكليزي هذا السؤال: هل ستتخلى عن الشعر لو حقق لك أحد ما كل ما تريده في هذه الحياة فأجبته ب"لا"، ثم قلت له بصوت يشتعل رهافة: إنني أريد معنى الحياة ذاتها، وليس ما يوجد في هذه الحياة!... - إلى جانب الشعر تكتب أيضًا في الفكر والسياسة، هل قدر الشاعر أن ينشغل بالسياسة أيضًا، وهل السياسة قدر الشاعر غالبا؟ السياسة هندسة للحياة وليست مجرد انتخابات وحقائب وزارية أزراج عمر: صحيح بأنني أكتب الشعر، وأكتب في الفكر، وفي السياسة. أفعل ذلك، ربما، لأنني أريد كل شيء دفعة واحدة قبل أن يعتقلني الموت إلى الأبد خاصة وأنا بدأت أكبر في السن. وقد يعود هذا التعدد إلى انغماسي، منذ مغادرتي للجزائر لمدة 25 عاما، في محاجات فكرية متعددة الحقول تتكامل فيها الفلسفة، والتحليل النفسي، ونظرية الثقافة، والفكر السياسي، والآداب. وهكذا، فإنّه عندما فقدت الجزائر التي ولدت فيها، ثم فقدت الأمل فيها لم يبق لي إلا الكتابة لعلها تساعدني أن أرغب في الإستمرار في الحياة مع الناس، وربما هذا ما يفسر هذا التعدد في المداخل والمنظورات. أعتقد أنّ الشاعر يجرب كل شيء له علاقة بالإكتشاف المعرفي، وهذا حق له. فالسياسة عندي هي فلسفة ومعرفة وهندسة للإنسان الجديد وليست مجرد انتخابات وحقائب وزارية كما يروج لذلك في الثقافة الجزائرية المتخلفة عن العصر، ومن ذلك التخلف المعرفي برزت لدينا السياسة كحيل لتأبيد هذا التخلف مع الأسف. ما الذي في أفقك الأدبي الآن، هل ننتظر شيئا بهذا الخصوص، وهل من كلمة تود قولها في الأخير؟ أزراج عمر: لديّ عدد من الكتب الجديدة، منها ديوان شعر، سأنشرها قريبا في الجزائر وبيروت. لا أريد الدخول في التفاصيل، ولا أرغب في سرد العناوين. سأترك الأمر عند هذا الحد وأقفل أقواس حديثي إليك لأعود مباشرة إلى عملي ومهنتي كشاعر.