أشكال الثقافة الجاهزة والمعلبة التي تصلنا، هي قصف مركز لذاكرتنا وخصوصيتنا * على المختصين الإسراع في تدوين الثقافة الأمازيغية لحمايتها من الاندثار يأخذنا في هذا الحوار الباحث سليم سوهالي، في رحلة للتعرف على إحدى أقدم الاحتفالات في المغرب الكبير، والمتمثلة في «الكرنفال» أو الفرجة أو شبه المسرح الشعبي كما يسميه الباحث ويعرّفنا بأسماء هذا الكرنفال والمناسبات التي يقام فيها، والمناطق التي لازالت تحتفل به، ويدعو المختصين إلى الإسراع في تدوين ثقافتنا قبل اندثارها. حاوره: نورالدين برقادي يقام سنويا كرنفال في عدة مناطق من المغرب الكبير، هل من تفاصيل أكثر حول هذا الكرنفال ؟ مازال فلكلورنا الأمازيغي الغني والمتنوع يحتفظ بالكثير من الرموز والعادات الضاربة فى عمق التاريخ، بالرغم مما تعرض له من مسخ وتشويه خصوصا في فترة الاستعمار، بالإضافة إلى إفرازات العولمة وما تحمله من أخطار تهدد الثقافات المحلية، فأشكال الثقافة الجاهزة والمعلبة التي تصلنا بشكل منتظم هي في الحقيقة قصف مركز لعقولنا وبالتالي لذاكرتنا وكل مقوماتنا وخصوصيتنا، وعليه يجب على النخب المثقفة الانتباه والعمل على حماية ثقافتنا الوطنية، أما بخصوص سؤالكم حول المواكب والكرنافلات الشعبية التي عرفتها المجتمعات الأمازيغية والتي يمكن إدراجها فيما يسمى بالفرجة الشعبية أو الشبه مسرحية. هناك عادة تسمى «أيراد» فى غرب الجزائر، وبالضبط في منطقة بني سنوس (تلمسان) وتسمى أيضا «شايب عشوراء» بمنطقة الاوراس، وفى كل من ورقلة وبسكرة مرورا إلى منطقة توزر بتونس الشقيقة، وتحمل نفس الاسم، وهى في مجملها عبارة عن مواكب أو طواف أو كرنفال جبلي كما يحلو لبعض الباحثين تسميته تستعمل فيه أزياء وأقنعة ويتقاسم فيها المشاركون أدوارا معينة ومحددة. أين يقام هذا الكرنفال، وماهي المناسبات التي يحتفل فيها ؟ من حيث التواجد، فهو متواجد في عدة مناطق من دول الشمال الافريقي في ليبيا، في تونس، في المغرب الأقصى والجزائر، ويحمل أسماء عدة ويقام في مناسبات مختلفة، البعض منها يقترن بالذبيحة مثلما هو الحال بالمغرب الشقيق أين يسمى ب «بوسلخن» أو «بويلمان»، ويقام أيام عيد الأضحى، وهناك من الباحثين من يرى أن هذه المناسبة هي امتداد لعادات ومعتقدات قديمة، فحسبهم أن الكبش من المعبودات الأمازيغية، والإله الكبش إذا شاخ يضحى به ويبعث من جديد في صورة حيوان قوي، فربما هذا الاعتقاد كان قائما على عقيدة تجدد دورة الحياة، فقد كانت لديهم أعياد كثيرة تقام في بداية الربيع منها «تافصكا ن تفسوث» أي عيد الربيع، وهناك إله كان يسمى «مادر»، واللفظ مشتق من كلمة «تامدورث»، التي تعني الحياة، وبالتالي ربما نصل إلى سبب اقتران هذه العادة بعيد الأضحى، فالعيد الجديد ما هو إلا قناع تنكري للعيد القديم الذي كان فضلا عن ذلك قد تنكر أولا في الحمل أو الخروف للمسيحية قبل أن يقبع تحت رداء الإسلام. إذا كانت تسمية الكرنفال تختلف من منطقة إلى أخرى، فهل يوجد اختلاف في إقامة الاحتفال ؟ هو من حيث الشكل لا يختلف كثيرا عن «بوسلخن» أو «بويلمان»، هناك أدوار وأقنعة وحبكة وسيناريو، والاختلاف الوحيد هو التوقيت والمناسبات، ففى الأوراس أو ورقلة يحتفل بهذه العادة أيام عاشوراء، لدى سكان بني سنوس ينظم كرنفال «أيراد» الذي تضرب جذوره في أعماق تاريخ هذه المنطقة الواقعة جنوب غرب ولاية تلمسان. وهناك من يرى أن هذا الكرنفال التقليدي، الذي يدوم ثلاثة أيام يعود الى أيام انتصار الملك شاشناق سنة 950 قبل الميلاد، على جيوش الملك الفرعوني، حسب الروايات التاريخية التي أشار إليها الباحث صهريج من بني سنوس في كتابه «نبات الفرفان المذبلة»، مضيفا أنه بعد تلك المعركة أنشأ كرنفال أيراد (الأسد بالأمازيغية) الذي يرمز إلى النصر والسلم. لكنني أنا لا أميل إلى هذا الطرح، لأننا في حاجة الى أدلة ملموسة ومنطقية يمكن أن نقتنع بها، ويتضمن هذا الكرنفال الذي يشكل حفلا شعبيا قديما، بناحية بني سنوس، عدة طقوس وتقاليد مميزة، غير أن تسميتها تتغير من جهة إلى أخرى على مستوى هذه المنطقة الجبلية حيث يعرف عند سكان دوار «تافسرة» ب «الشيخ بوقرنان»، و»كراع فريعة» لدى سكان قرى بني عشير وسيدي العربي وأولاد موسى. ولا يغير هذا الاختلاف في التسمية في شيء من طبيعة الاحتفال وتقاليده المتميزة؛ حيث يقوم في هذا اليوم شبان من المنطقة بارتداء أزياء وأقنعة على شكل «كرنفال» عند حلول الليل ويخرجون ليلتفوا حول الشخص المحوري الذي يرتدي هو بدوره زي أسد ويدعى «أرياد». ويقوم الجميع بالسير في الشوارع على وقع دقات البندير والأهازيج ليعبروا عن فرحتهم وتطلعهم بقدوم سنة جديدة وموسم فلاحي خصب. وتتوسط الأشخاص المقنعين امرأة تحمل «قناع لبؤة» لترقص وسط المشاركين ويعمل «أيراد « كما تقول الأسطورة على نزع كل الحواجز أمامها بواسطة عصا رفقة معاونيه من «الأشبال» ليكون المجال أمامها فسيحا، الشيء الذي يرمز إلى الرفاهية والخصوبة. ويتم طيلة مسيرة المشاركين في الكرنفال جمع مختلف المواد الغذائية المقدمة من قبل السكان والتي توزع على المحتاجين والأرامل فيما يتم الدعاء بالساحة الرئيسية للقرية من أجل تحقيق منتوج فلاحي وافر. ومن خلال الوصف نستنتج أن هذه المشاهد هي بقايا طقوس ترجع الى عهود غابرة ولها علاقة وطيدة بالمعتقدات الضاربة في عمق التاريخ الأمازيغي. هل هذا الاستعراض شبيه بالمسرح ؟ نعم أرى أن هذا النوع من الفرجة الشعبية أو المواكب والمساخر الشعبية بالأقنعة، يمكن إدراجها في خانة ما يمكن تسميته بالشبه مسرح، لكونها تسير وفق سيناريو محدد وأدوار معينة تعكس شخصيات رمزية، وعلى من يتقمصها الالتزام بها كما أن هناك حبكة وخط درامي محبوك، فيه صراع بين الخير والشر أيضا، وهناك حوار وأغاني أو طقاطيق تصاحب هذا النوع من الفرجة الشعبية.. الخ. فالمتتبع لمثل هذه المواكب الاحتفالية يدرك أنها شرح بالفعل والقول يقدمه المجتمع عن ذاته بواسطة هذا النوع من الفرجة في شكل طقسي ودرامي، أقول درامي لأن هذا النوع من الفرجة يرتكز على سيناريو وأدوار يخضع لها المشاركون. فيم يشترك الكرنفال مع المسرح ؟ إذا ما تمعنا بشكل دقيق فى شكل هذه الفرجة الشعبية نجد أن الشخوص المقنعة تؤدي أدوار ومشاهد لا يجوز لمن يتقمصها الخروج على الأداء المعتاد، وهذا يعني الالتزام بالسيناريو المتفق عليه والخروج عنه يعني الإخلال بالدور المطلوب من المشارك أداؤه، فلا يجوز لأي مشارك الإخلال بهذا الشرط، وربما بدايات المسرح فى المجتمعات الإغريقية القديمة كانت انطلاقا من هذا الطرح وتحولت فيما بعد إلى علم المسرح بنظرياته وأسسه وقواعده، فأنا من أنصار إعادة النظر في بعض المفاهيم والنظريات القائمة حاليا والتى هي أساسا ليست من بنات أفكارنا ولا تمس جذورنا الثقافية، فالشك هو أساس اليقين. بم تفسر ارتداء الممثلين للأقنعة ؟ أولا يجب ألا ننسى بأن هناك بعد إفريقي قوي في ثقافتنا ولا يجوز لنا القفز عليه، والمعروف عن المجتمعات الإفريقية أنها مجتمعات متنوعة في عقائدها ولغاتها وثقافاتها، لكنها تشترك في الكثير من الأشياء، فللقناع في الثقافة والعقائد الإفريقية القديمة دلالات ورمزية كبيرة، فلذا نجد أن هذا القناع موجود بقوة في كل الأشكال الثقافية الإفريقية التي نعرفها، فربما قدماء الأمازيغ تأثروا ببعض هذه العقائد كما هو الحال بالنسبة لموسيقى القناوي في أيامنا هذه، فالشعوب الأمازيغية كانت على اتصال دائم بالشعوب الإفريقية، وكانت هناك قوافل تأتي من أعماق إفريقيا لتصل الى شواطئ إسبانيا ولم تتراجع إلا حين اكتشف الأوروبيون في العصور المتأخرة مسالك بحرية تجارية جديدة أدت الى تراجع المسالك التجارية القديمة. إذا، فالقناع في رأيي تأثير إفريقي وكان يصنع في السابق من جلود الحيوانات وبعض الأصباغ التي تستخرج من بعض النباتات، ومع ظهور «الكارتون» تغيرت الأمور وتطورت بعض الشيء، والمعلوم أن للقناع قوة سحرية خارقة فى أغلب المعتقدات الأفريقية؛ حيث استخدم المصريون القدامى الأقنعة في حياتهم، وكان للموت أهمية طقوسية خاصة جعلتهم يصنعون توابيت الفراعنة على أشكال أصحابها؛ حيث يمثل التابوت قناعاً جسدياً كاملاً للمومياء بداخله وكأنه يربط اتصالها بالحياة أو يعطيها ديمومة الشكل. وفى اليونان كانت الأقنعة أحد المكملات الطقوسية في المراسيم التقليدية، إضافة إلى استخدامها في التمثيل المسرحي، كانت الفرق المشاركة فى تكريم الإله «ديونيسوس» أيضا تستعمل هذه الاقنعة. وبذلك، فالقناع فى رأيي بالنسبة للأمازيغ استعمل فى نفس السياق العقائدي. هل يقتصر الاحتفال بالمغرب الكبير على هذا الكرنفال وعادة ينار أو يناير فقط ؟ من الطقوس الاحتفالية المعروفة في شمال افريقيا بمختلف أنحائها ومناطقها سواء الناطقة بالأمازيغية أو بالعربية العامية، الطقس المعروف ب «تاغنجا» أو «تاسليت ن وانزار» أي عروس المطر، الذي يعد من أقدم الشعائر الاستسقائية، ويهدف إلى استمطار السماء حين تكون الأرض والمحاصيل مهددة بالجفاف. و»تاغنجا» اسم لعروس خرافية على شكل فزاعة، وتتمثل طقوس «تاغنجا» في التطواف بملعقة خشبية مكسوة بزي عروس في موكب تشارك فيه النساء والأطفال، يرددون الأهازيج والأدعية، ويطوفون عبر التجمعات السكنية والقرى والأضرحة، وفي الطريق يتم رش الدمية بالماء من أعالي البيوت من قبل السكان، ويتم تحصيل واستلام العطايا والصدقات من الأهالي. وقد قدمت عملا موسيقيا كوريغرافيا يروي هذه الأسطورة، وهي الآن عند السيدة مديرة البالي الوطني، وأنا انتظر تحقيق هذا العمل ليكون لبنة فى طريق إعادة بناء ذاكرتنا الشعبية. هل من نداء للباحثين وللقراء عامة ؟ إن٬ تسليط الضوء وتعميق النقاش حول مختلف هذه الأشكال الفرجوية في المجتمعات الأمازيغية كعادات «بيلماون» و»إمعشار» و»تاغنجا» وغيرها من الممارسات السائدة بمسميات مختلفة بعدد من مناطق شمال إفريقيا. خاصة وأنها تشهد تراجعا في عديد المناطق الكثيفة السكان، علما وأنها كانت تمتد في كامل شمال إفريقيا خاصة في المناطق الريفية. ويشترك المغرب الكبير في العديد من هذه العادات والتقاليد، منها احتفالية أو كرنفال «إمعشار» كما يسمى في المغرب أو مهرجان «الشايب عاشوراء» أو «أمغار نعشورا» أو «أيراد» كما يسمى في الجزائر، سيساهم دون شك فى تغذية المهتمين بفن المسرح باستغلال هذا الموروث ومواصلة تجاربهم لايجاد أشكال أخرى كما فعل المرحوم عبد القادر علولة، حين حاول توظيف الحلقة كشكل في تجربته المسرحية، واحتفالية «الشايب عاشوراء» هي فن درامي يجسد أحداثا دينية، وقصصا تاريخية وأسطورية، من خلال حكايات شعبية تقام في الليل وهي تحتوي على عدة عروض وكل عرض يحتوي على عدة مشاهد وهي تجمع بين الموسيقى والغناء، والتمثيل، والشعر. وهذا التراث إن تم استغلاله استغلالا علميا وفنيا سيؤدي إلى نتائج قد تخلق موجة جديدة من موجات المسرح الجزائري عندنا. وبالمناسبة اغتنم الفرصة لأقدم نداء إلى السيدة وزيرة الثقافة وأطلب منها مساعدتنا لإنشاء جمعية وطنية أو مركز وطني يكون بمثابة فضاء للمهتمين وكل الباحثين لحماية وأرشفة ما يملكون من معلومات حول هذا النوع من الفنون الشعبية قبل أن تندثر بفعل العولمة، ذلك الغول القادم إلينا ولا يفوتني أيضا أن أشكر جريدتكم التي أتاحت لي هذه المساحة للتعبير عن رأيي في هذا الموضوع.