يسود العاصمة المالية باماكو هدوء حذر غداة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي تخللتها أعمال عنف سقط على إثرها عدد من الضحايا, في الوقت الذي تسعى فيه السلطات جاهدة لاحتواء الأزمة. فقد شهدت باماكو احتجاجات واسعة يومي السبت والأحد - دعا إليها تحالف معارض - حيث احتشد آلاف المحتجين في "ساحة الاستقلال" بالعاصمة باماكو, في ثالث احتجاجات تنظم في البلاد منذ مطلع يونيو . ودعا قادة المظاهرات أنصارهم لاقتحام مبان رئيسية والسيطرة عليها بما يشمل مكتب رئيس الوزراء ومقرات حيوية أخرى في بداية "حملة عصيان مدني" تهدف لإجبار الرئيس المالي أبوبكر كايتا, على الاستقالة بسبب "إخفاق" الحكومة في تقديم حلول لمشكلات البلاد الأمنية والاقتصادية, حسب وسائل الاعلام المحلية. وقد حاول المحتجون السيطرة على مبنى البرلمان وهيئة البث الرسمية, ما تسبب في توقف بث التلفزيون الرسمي (أو.آر.تي.إم), الأمر الذي اضطر قوات الأمن لاستعمال القوة وأدى إلى اندلاع مواجهات عنيفة مع المتظاهرين, راح ضحيتها أربعة قتلى, حسب مصادر طبية. وفي باماكو دائما, نصب محتجون, حواجز في عدد من أحياء العاصمة, وقاموا بإحراق إطارات ونفذوا عمليات تخريب استهدفت مواقع عديدة بينها مكاتب المجلس الأعلى للمجموعات السكانية. وقد تأسف الرئيس المالي, في كلمة موجهة للشعب, لأعمال العنف والتخريب التي تخللت الاحتجاجات وكذا محاولة السيطرة على مؤسسات الدولة الاستراتيجية. كما عبر عن مواساته لعائلات الضحايا وللمواطنين الذين تعرضت ممتلكاتهم للسرقة والتخريب. ويعبر المحتجون عن استيائهم من العديد من الأمور من تدهور الوضع الأمني إلى "عجز" السلطات عن وقف العنف والهجمات الارهابية في البلاد و"الركود" الاقتصادي و"فشل" خدمات الدولة و"الفساد" في عدد من المؤسسات. ويشترط قائد ما يعرف ب "حركة 5 يونيو-تجمع القوى الوطنية" المعارضة - وهو تحالف متنوع يضم رجال دين وشخصيات سياسية ومن المجتمع المدني - عددا من المطالب منها "استقالة الرئيس وحل البرلمان ووضع جمعية تأسيسية وإقالة أعضاء المحكمة الدستورية ورئيس الوزارء ووضع خارطة طريق لبناء الدولة من جديد, والإفراج عن زعيم المعارضة سومايلا سيسي", للتخلي عن تحركها في الشارع المالي. وهي المطالب التي كان قد رفضها الرئيس المالي خلال اجتماعه الأسبوع الماضي مع عضو الحركة البارز , رجل الدين محمد ديكو, وقادة المعارضة في القصر الرئاسي بباماكو. وعلى خلفية تحريضهم للمواطنين على العنف, اعتقلت القوات المالية عددا من قادة المعارضة الرئيسيين مساء الجمعة, كما تدخلت بأعداد كبيرة أول أمس السبت, خلال اجتماع للمعارضة كان مخصصا لتدارس الخطوات التالية "تحت شعار العصيان المدني". وعقب ذلك خرج الإمام محمود ديكو, رجل الدين الذي يتمتع بشعبية كبيرة ويقود الاحتجاجات , ليدعو أنصاره إلى "التهدئة". --- الرئيس يحل المحكمة الدستورية في محاولة لخفض حدة التوتر --- وبهدف تهدئة الأوضاع, وكدليل حسن نية في التغيير, أعلن الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا مساء السبت, عن إلغاء مراسيم تعيين قضاة المحكمة الدستورية التسعة, ما يعني - كما قال- "حل المحكمة فعليا", وذلك بعدما كان قد تعهد في وقت سابق بإصلاح المحكمة محل جدال واسع في البلاد. فقد شكلت إقالة القضاة التسعة, أحد أبرز مطالب قادة حركة الخامس يونيو, بعد إلغاء المحكمة الدستورية لنتائج الانتخابات التشريعية - التي جرت خلال شهري مارس وأبريل الماضيين - في نحو ثلاثين دائرة, فيما يؤكد عشرات المرشحين أن النتائج الرسمية للمحكمة تختلف عن نتائج مراكز الاقتراع. وقال الرئيس كيتا, يوم الأربعاء الماضي, أنه منفتح على تشكيل حكومة وحدة وطنية وتغيير أعضاء المحكمة العليا, وحل البرلمان إذا لم يتسبب ذلك في أزمة جديدة. ومن جهته, تعهد رئيس الوزراء, بوبو سيسي, بتشكيل حكومة انفتاح "سريعا جدا", مؤكدا أنه والرئيس كيتا, منفتحان للحوار, وأنه سيشكل حكومة "في وقت سريع جد". وسعى الرئيس المالي, منذ بداية الأزمة قبل أسابيع, لفتح باب الحوار مع المعارضة بغية إيجاد حلول ناجعة من شأنها إخراج البلاد من الأزمة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها , منذ عدة أشهر من خطر الانزلاق الأمني, حيث التقى في الخامس يوليو الجاري, في باماكو بوفد من قادة حراك الخامس يونيو المعارض وطلب منهم المشاركة في حكومة وحدة وطنية . وشكل الاجتماع في حد ذاته, بالنسبة للرئيس كايتا, انتصارا لمالي, غير أن وفد المعارضة, اختلفت قراءته للاجتماع تماما, حيث يرون أن الرئيس كيتا "تجاهل" مطالبهم في المذكرة, بما في ذلك تعيين رئيس وزراء من المعارضة "لتصحيح أوضاع البلاد". وعقد الرئيس كيتا قبل أيام, سلسلة لقاءات أيضا, مع عدد من الشخصيات الوطنية والسياسية المؤثرة في مالي, من بينها ممثلوا العائلات المؤسسة لمدينة باماكو, لما تتمتع بنفوذ من نفوذ سياسي واجتماعي كبير, وكثيرا ما تساهم في تسوية الأزمات. وفي هذا الصدد, يوضح المكلف بالبحوث بمعهد الدراسات الأمنية ببماكو, أبوبكر يانغاري, - في مقبلة مع وكالة الأنباء الإفريقية (آبا) - أن "الحوار الذي يقترحه الرئيس المالي قد يسمح بربح الوقت من أجل تهدئة الوضع على الفور وتسيير هذا الظرف", غير أنه من الأكيد, أن "بذل مجهودات حقيقية من أجل الأخذ بعين الاعتبار انشغالات الشعب وتقديم الحلول اللازمة لها, وحده من سيمكن من مواجهة الأزمة على المدى الطويل". ويسعى الرئيس كايتا جاهدا "للم شمل" الشعب المالي و"تحقيق التوافق في الصف السياسي بهدف العمل كرجل واحد من أجل انتشال البلاد من الأزمات المتعددة الأوجه" التي تتخبط فيها منذ سنوات. فقد أشرف شخصيا على مجريات "الحوار الوطني الشامل" الذي نظم في ال14 ديسمبر الماضي بدعوة منه, وشهد مشاركة ممثلين عن أحزاب سياسية ومجتمع مدني وحركات سياسية-عسكرية لمنطقة الشمال, للبحث عن مخرج توافقي وخارطة طريق تقود البلاد نحو الأمان, كما تعهد بمرافقة تنفيذ توصيات الحوار. غير أن التحديات الكبيرة التي تواجهها مالي على كافة الأصعدة, تبقيها على صفيح من نار وتحول دون التقدم الحقيقي في مسار الإصلاح, وعلى رأسها التحدي الأمني , خاصة في ظل استمرار الهجمات الارهابية التي أودت بحياة آلاف الأشخاص منذ 2012.