تعرّض شعبنا الفلسطيني إلى العديد من المحن والمصائب·· فما أن يستفيق من مصيبة حتى تدهمه أخرى·· وهكذا في متوالية تشاركه كل تفاصيل حياته ولا تنفك عنه في تكرار أصبح قريبا إلى الملل·· ولكن جميع ما سبق من محن وكوارث كانت بفعل العامل الخارجي، لذا فإننا استطعنا أن نجتاز الكثير منها لأننا أمام العامل الخارجي نتوحد ونزداد صلابة وقوة·· فقد نخسر جولة أو جولات ولكننا أبدا لا نرفع الراية البيضاء ولا نعلن انتهاء الحرب·· وذلك لقوة إرادتنا وعزيمتنا وتصميمنا الذي لا يكل ولا يلين·· ومثلما يقال: احذر أن يحتال عدوك روحك·· انتهت الحرب إذا احتل عدوك روحك، ولكن أرواحنا ما زالت تنبض بالأمل وتتمسك بحقها في الحياة على هذه الأرض المباركة·· ولكن جاءت أم المصائب والكوارث المتمثلة في الانقسام بين الضفة وغزة وما علق به من حوادث مفجعة من تقتيل وتعذيب وممارسات لم يكن يتخيلها أي انسان فلسطيني أن تقع بين أبناء الشعب الواحد والقضية الواحدة والمصير الواحد·· ممارسات رهيبة وفظيعة أصابتنا في مقتل وجعلت الانقسام ينتقل من المستوى الجغرافي إلى المستوى النفسي والوجداني·· ومن المستوى الأفقي إلى المستوى العمودي، أي أن تاثيره امتد إلى كل فرد فينا·· أصبح هذا الانقسام النتن يعبر عن نفسه في كافة تفاصيل حياتنا في مأكلنا ومشربنا وملابسنا وطريقة كلامنا وغيرها من الأمور·· أي أنه ينتج نفسه ويتجدد وكلما طالت المدة لا يتوارى أو يختفي بل يعود بكل قوة مع أي احتكاك ولو كان بسيطا· أمام هذا الواقع المخجل نحتاج إلى اعادة إنتاج قيم جديدة من أجل أن تحكم تصرفاتنا وأفعالنا في المرحلة المقبلة من أجل أن نحاول الانعتاق من هذا الواقع النكد والخانق، قيم تعمل على انتشالنا من هذا الواقع البائس إلى واقع أجمل وأفضل، من أجل اعادة الاعتبار إلى آمالنا وطموحاتنا جميعا وليس للاعتبارات الحزبية والفصائلية التي تزيد من الانفصال والانقسام والتباعد والشقاق· ومن أهم هذه القيم·· قيمة التسامح، هذه القيمة التي نحتاج إليها بشدة حتى نطوي صفحة الماضي بكافة مآسيها وكوارثها ومصائبها·· ونفتح صفحة جديدة من الوحدة والوئام والالتحام والتماسك في مواجهة العدو التاريخي الذي يعمل على تعميق انقسامنا ويمده بكل أسباب الحياة من أجل أن يتجذر على أرض هذا الوطن المحتل، ويكون هو الأصل والباقي هوامش تتوارى وتختفي·· نحتاج إلى التسامح كي ننسى الماضي الأليم بكامل إرادتنا، إنه القرار بألا نعاني أكثر من ذلك، وأن نعالج قلوبنا وروحنا، إنه الاختيار ألا نجد قيمة للكره أو الغضب وإنه التخلي عن الرغبة في إيذاء الآخرين بسبب شيء قد حدث في الماضي، إنه الرغبة في أن نفتح أعيننا على مزايا الآخرين بدلا من أن نحاكمهم أو ندينهم · فما أجملها من قيمة وما أروعها من صفة، وهي المرتبطة بالعفو كما قال الله تعالى في سورة الأعراف: ''خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين''، وكما قال نبي العفو والتسامح صلى الله عليه وسلم:''أفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك''، ولنا في فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أكبر مثال على التسامح حينما فتح مكة وأصدر قراره الرائع بالعفو عن المشركين الذين أذاقوه وأصحابه أفظع صور العذاب والمعاناة·· ولكنه عندما امتلك أسباب القوة آثر أن يجعل هذه القوة في ميدان الخير والصفح والتسامح فعفى عنهم وقال لهم ''اذهبوا فأنتم الطلقاء''، حتى يضع حدا لسفك الدماء والانتقام، وكان من نتيجة ذلك أن التحقوا جميعا بركب الإسلام العظيم وتم كسبهم لصالح الاسلام والمسلمين بدلا من نشر العداوة والبغضاء والاقتتال· وقد ثبت علمياً أن من أهم صفات الشخصيات المضطربة التي تعاني من القلق المزمن هو أنها لا تعرف التسامح·· ولم تجرب لذة العفو ونسيان الإساءة· فما أجمل لو جعلنا التسامح عنوانا لأفعالنا، سنشعر عندها بالارتياح والطمأنينة وراحة الضمير والإقبال على الحياة بروح جدية وآمال عريضة يزينها الحب والخير·· فالقوة ليست في الانتقام بل القوة في العفو·· لأن أي شخص ممكن أن تحركه دوافع الانتقام ورد الإساءة·· ولكن الشخص القوي الواثق من نفسه هو الذي يكظم غيظه ويطوي أحزانه ويعفو عمن ظلمه أو أساء إليه·· فلنفكر جميعا كيف سيصبح حالنا لو أننا متسامحون·· متحابون·· نبحث عما يجمعنا ونبتعد عما يفرقنا·· أتصور آنذاك بأن الكثير الكثير من مشاكلنا ستحل، بل أزعم بأننا لم نكن لنصل إلى الواقع المأزوم الذي نحياه اليوم·· فهل لنا أن نتسامح؟؟!!