إنها المعايشة اليومية للواقع التي تجعل همومه الصغيرة تمطر ارض الخاطر فتعشب في براريه ألوان الرؤى، نسعى إلى نظمها في باقة ورد تهدى للإنسان حيثما وجد ليزين بها مزهرية الوقت والحياة· الكتابة تبدأ كالوليد الذي لا يدرك في البداية أن له جسما منفصلا عن جسم أمه، وان له حدودا حسية خاصة به مستقلة عن كيانها، الكتابة تبدأ كردة فعل ممتزجة مع ذاتية الإنسان فتأخذ نصوصه شكل خواطر هلامية شكلا ومضمونا، ولكنها تحمل أمارات تميزه اللاحق كشاعر أو قاص أو ناقد أو روائي، ثم تتحول إلى ردة فعل تحمل طابع الإنسانية والشمولية قادرة على استيعاب وإعادة إنتاج واقع الحياة والناس وما اتصل بهما من هموم، ولهذا نكتب، لأننا نحاول إنتاج الواقع من خلال ملكة الفن الموجودة فينا، من خلال توظيف الخبرات واستثمار المعارف، إننا بذلك لا ندعي الإلمام بكل ما يوجد حولنا من موضوع وظاهرة وقضية، ولكن سعينا الحثيث للإحاطة بالجوانب المتاحة من خلال القدرات المتاحة هو مبرر وجيه في نظري وسعي مشروع لإعادة صياغة الواقع بصورة أدبية تحاول التبرؤ من الخطأ والجمود· بالنسبة لي أخذت محاولاتي الإنشائية شكل القصة منذ سنة ست وتسعين، فظهرتُ على الساحة بقصة /الوعي الشقي/ التي استوحيت موضوعها من كلمة قالها رئيس حكومة أسبق عبر التلفزيون، وإن بقيت كتاباتي فيما بعد متسمة بعبق الأنفة عن وطن يترعنا خيبة كلما اترعناه حبا، فلأن صوت ذلك الرجل بقي مقيما في نفسي·ثم ظهرت قصة خفقان التي نالت قسطا من رضا القراء والنقاد، ومع ذلك كان نفسي السردي الطويل واضحا من البداية ينحو بي إلى ممارسة الرواية أكثر من أي فن آخر، حتى إن بعض القصص وجدتها تلقائيا تظهر ثانية كفصول أو مشاهد في رواية لاحقة، ربما أعتبر نفسي أخوض تجربة عكسية، فقد ينزع نفسي الطويل إلى تقصيب نفسه واختزال تمططاته لأكون جديرة بممارسة هذا اللون الأدبي القصة القصير فن حديث يتطلب نضوجا أدبيا وفلسفيا وقدرة متقدمة على التركيز، وحذق بادي في امتلاك ناصية الحيل السردية والتقنيات الفنية الخاصة، تتعدى قدرة التناول لديه إلى توظيف البساطة في حد ذاتها، لتقديم لقطة وجيزة في الحياة قد تمر كلمحة برق، أو قضية اجتماعية أو رؤية ما في مجال من مجالات الحياة في ثوب قصة، محتفظة بالفكرة، فن أدبي مستقل تماما، ولا أعتبره مرحلة يمر بها المبدع ليتمرن ويكتب الرواية فيما بعد، هذا في نظري تقليل من شأنه، بالإضافة إلى القصة القصيرة جدا، أو الأقصوصة كما يروق للبعض تسميتها، أعتقد أن ذلك يتطلب امتلاك ناصية حكيمة، جامعة ومانعة في اللغة والأسلوب لتقديم عمل ناضج ومسؤول فنيا وتقنيا· بالنسبة لي أظن أنني بحاجة لمزيد من الاطلاع وتشرب العديد من التجارب حتى أتكمن من المحافظة على حضور القصة القصيرة في هاجسي الإبداعي وتطويرها بشكل لائق· إن الحديث عن القصة القصيرة في الوطن العربي له وجهان، من حيث الكم وعدد الأقلام التي تمارس هذا الفن، ومن حيث الجودة وعدد النصوص التي تثير التقدير، فأغلب الروائيين العرب بدؤوا قصاصين، وأكثر من ثلث من جيل الكلمة الناشئ يتعاطون القصة القصيرة، كما ويسجل اهتمام ملفت بهذا الفن بتنظيم مسابقات خاصة محلية وعربية، وهناك مجلات لها سمعة محترمة، عريقة وقوية تخصص في بعض أعدادها ملفات عن القصة القصيرة، فتنشر نصوصا لبعض الكتاب والمبدعين الناشئين أو القصص المترجمة، أو تفرد دراسة في السياق، هذه المعطيات وغيرها أفسرها في صالح عدم تراجع هذا الفن في الساحة الثقافية العربية، فهو يتماشى مع حجم وعمق الحراك الفكري والعلمي والثقافي العام في الوطن العربي والمتسم عموما بالتهميش والضآلة ···وبأن الغناء والمغنيين أهم من المفكرين والأدباء، لكن ذلك لا يمنع من جانب آخر للإشارة إلى غياب آلة ناقدة تغربل التراكم وتؤسس لذوق ناضج لتلقي منتوج هذا الجنس الأدبي المهم· كما أشير إلى وجود نوع من التداخل بين أزمة القراءة في المجتمع العربي تلقي بظلالها ليُعتقد بتراجع لون من الألوان الأدبية، سواء القصة أو غيرها، ولهذا ينبغي في رأيي التمييز بين الإشكاليتين لندرك أننا أولا بحاجة إلى مجتمع قارئ حتى نتكلم عن اهتمامه بهذا اللون الأدبي أو بذاك· ففي المجتمعات الغربية هناك دور نشر وشركات إعلامية مهتمة أو متخصصة في إنتاج القصص القصيرة والقصص المصورة ونوادي تسخر مكتبات وقاعات لهذا النوع من القراءة، بالنسبة لنا مازلنا في مرحلة التصور ولم نلج مرحلة النموذج والإنتاج والتسويق رغم مرور زهاء القرنين على احتكاكنا بثقافة القصة القصيرة، ومع أن المبدع العربي حذق وأشهر تميزه في العديد من الأجناس الأدبية الدخيلة عليه كالرواية والمسرح والشعر الملحمي، إلا أن فن القصة القصيرة لم يحظ بنفس الاهتمام والشهرة والانتشار وحتى المقروئية، وذلك راجع في بعض أسبابه، في نظري، إلى أن فن القصة القصيرة هو منتوج إنسان تجنس بالمدنية الحديثة وتعقيداتها وإشكاليات حياتها الفلسفية التي تطرحها روحه القلقة، كما أن القصة القصيرة في حياة المثقف أو القارئ الغربي عموما شبيهة بالساندويتشات التي يتناولها لماما بين ساعات العمل، بينما قراءة رواية هي الجلوس لوقت كاف لتناول وجبة عشاء على مهل، خاصة إذا كان عشاء سهرة مميزة· بالنسبة لنا لا نلتمس هذا التمييز وهذه الوظيفية للأنواع الأدبية المختلفة، كما أن الإنسان العربي قطن المدينة منذ قرون لكنه مازال محتفظا بجنسيته البدوية، وبالتالي بعض تعقيدات وإشكاليات حياة العصر الزاخمة لا تثير اهتمامه، كما أن أسئلة التاريخ والمصير النهائي للإنسان لا تثير حيرته لأنها مسائل فصل فيها النص الديني· اتفق مع الرأي القائل بغياب نبض مميز ومستقل للقصة القصيرة في المنتوج الأدبي العربي المتراكم، مما يعني تتويج أسماء متخصصة، فنحن نسمع عن أسماء كتاب يضيء نجمهم إثر نجاحهم في مسابقة مهمة أو إثر إصدارهم عمل يحدث ضجة في الساحة الثقافية، معظمها أعمال في الشعر والرواية، ولم نسمع بعد عن قصة قصيرة أو مجموعة قصصية أحدثت وقعا بمستوى وقع رواية الخبز الحافي مثلا، أو خماسية الكاتب الليبي إبراهيم الكوني أو رواية عزازيل الحائزة على البوكر العربية، ولكن من جهة أخرى وإثر رؤية شمولية متغاضية عن بعض الحيثيات والتفاصيل يمكن القول أن للقصة القصيرة حضور وممارسة مستمرة حتى إن كانت تدعو للاعتقاد أن هذا الفن الأدبي ما يزال في طريق النضوج ليؤسس له استقلالية كاملة على الساحة الثقافية·