شيء من الأسف والكآبة أصابني وأنا أتلقى نبأ وفاة المفكر والفيلسوف الجزائري عبد الله شريط· أجل، أسف، لأن الرجل ضرب عليه ستار من التجاهل والصمت من طرف الدوائر الفاعلة في الجزائر خلال العشريتين الأخيرتين·· كان عبد الله شريط من أساتذة جيل بكامله·· كان مثالا للمثقف العضوي بالمعنى الكامل للمفهوم القرامشي للمثقف·· ربط الفكر بالممارسة، وانخرط في القضايا الرئيسة للوطن الجزائري وكان من الفاعلين في دفع الفكر الجزائري إلى الأمام، وأثناء السبعينيات تقدم الفيلسوف عبد الله شريط قافلة المعارك الفكرية والإيديولوجية في الجزائر، أدلى بدلوه في معارك شتى تعلقت بمسألة التعريب، وقضية الصحراء الغربية بحيث دخل في سجال مع المفكر المغربي الكبير عبد الله العروي، وقضية فلسطين بحيث وقف إلى جانب قضايا التحرر والعدالة، وقضية بناء الاشتراكية وما تعلق بها من بناء إنسان جديد في ظل مجتمع يتوق للحرية والخروج من أغلال التخلف·· كنت في السنة الأولى جامعي عندما اطلعت على كتابه المهم وهو في الأصل عبارة عن رسالة دكتوراه، بعنوان ''الضمير الخلقي عند ابن خلدون''، لقد فتح هذا الكتاب ذهني على أهمية ابن خلدون لنا كمغاربة، من حيث هو معلم ومرجع أساسي للفكر المغاربي من أجل فهم الماضي العمراني والسلوك الاجتماعي، وقد قادني هذا الكتاب للإهتمام بكل تلك الجهود الفكرية التي انبثقت في تلك الفترة في سبيل بناء ثقافة مغاربية ذات بعد نقدي وأفق إنساني، فتعرفت على أعمال مهمة سعت إلى احتكار علم اجتماعي جديد متأصل في تراثنا وفي دورة الفكر الإنساني الحديث مثل أعمال عبد الغني مغربي حول ابن خلدون، عمار بن الصغير حول الفكر العلمي عند ابن خلدون، والراحل عبد القادر جغلول الذي سعى إلى تأسيس نظرة خلدونية متجددة من خلال مقاربة للمغرب الأوسط في العصر الوسيط، والراحل عبد المجيد مزيان الذي أنجز كتابا مهما حول الأفكار الاقتصادية عند ابن خلدون·· كما تعلمت على يد عبد الله شريط من خلال كتاباته حول المجهود الإيديولوجي للحركة والثورة الجزائرية تلك الروح النقدية والابتكارية في قراءة وتأويل النصوص المؤسسة للإيديولوجيا الوطنية ولمحاولات بناء الدولة الوطنية وذلك منذ المحاولات الأولى للأمير عبد القادر وانتهاء بالمحاولات الفلسفية والإيديولوجية للشيخ عبد الحميد بن باديس·· وعندما نذكر عبد الله شريط، نذكر كل هذا الجيل الذي انخرط في الفكر والممارسة من أمثال مصطفى الأشرف، ورضا مالك وأبو القاسم سعد الله أطال الله عمره، وعمار طالبي، ليليهم جيل آخر كان حلقة مكملة لمجهودهم النظري والفكري مثل محمد بوخبزة وبنون وعلي الكنز والهواري عدي ومحمد حربي وعمار بلحسن الذي اختطفته الموت وهو في عز العطاء وغيرهم·· وبعد كل ذلك الجهد الفكري من أجل تأسيس فكر فلسفي واجتماعي وسياسي في الجزائر نلاحظ اليوم هذا الشحوب، وهذا الانغماس في الأني المجرد من الفلسفة والتفكير وإعادة التفكير· نحن اليوم أحوج إلى إعادة قراءة هذا التراث الفكري من أجل الخطو نحو الأمام·· فلا سياسة، ولا مستقبل لها بدون مثقفين نقديين، مثقفين يتمتعون باستقلالية الفكر واستقلالية المبادرة··· لقد التقيت بالمفكر منذ سنين قلائل في رحاب المكتبة الوطنية وتواعدنا على أن نلتقي·· لكن للأسف ذلك لم يحدث·· وكم أنا حزين على ذلك··· وما أتمناه اليوم بعد الرحيل أن تقوم وزارة الثقافة بإعادة طبع أعمال الفيلسوف عبد الله شريط ونشرها وهذا أضعف الإيمان، كواجب اعتراف لرجل ظل منخرطا في معركة من أجل أن تبقى الجزائر منارة فكر وثقافة·