منذ سنوات خلت، تعرفت على عمار مرياش، كان ذلك في الثمانينيات، كنت للتو انتهيت من نشر رواية ''ذاكرة الجنون والإنتحار'' بلافوميك، وكان قد اطلع عليها وأعجب بها، وكان من القراء الجدد الذين كنت أحلم بهم، قراء متحررون، في قطيعة مع الموروث التقليدي، وفي نفس الوقت كنت قد اكتشفت عمار من خلال قصائد قدمها إلي في ذلك الوقت الشاعر عاشور فني الذي كنت أقضي أوقاتا طويلة معه، في مقهى صوفيا، نتحدث عن التوجهات الجديدة لدى الشعراء الشباب، وكان من بينهم، لخضر فلوس، وعياش يحياوي، وعز الدين ميهوبي، ونتحدث أيضا بحب وإعجاب عن تجربة أبو الياس، مجنون فازو، هذه الفتاة التي سكنت ذلك الشاعر العجوز، ذا العينين الخضراوين والمسحة البوهيمية التي وسمت حياته وانتهى في نهاية عمره بدار العجزة·· صرت وعمار مرياش صديقين مجنونين، كنا نتحدث بشراهة، ونتسكع بجنون، ونجول كالمجانين ببارات العاصمة في ذلك الوقت ورؤوسنا مليئة بالأحلام، والتمردات على كل شيء، على كل ما كان مقدسا عند الآخرين·· كان عمار يسكن بخميس الخشنة، وكنت مقيما بالحي الجامعي ابن عكنون·· ولست أدري لماذا كان عمار دائما يذكرني بالشاعر الفرنسي راميو، الذي قال كل ما عنده وهو في مقتبل العمر ثم طلق باريس وصالوناتها الأدبية، وطلق الشعر، ورمى بنفسه في مغامرات أخرى لا علاقة لها بالكتابة والشعر والحضارة في أدغال إفريقيا، في الحبشة، حيث كانت نهايته هناك حزينة وكئيبة·· في التسعينيات عندما انتقلت الجزائر دفعة واحدة وبدون مقدمات ظاهرة من بر الإطمئنان والآمان إلى بحر الموت الأسود والدامي، التقيت عمار مرياش، الذي كنت معجبا بعمله الرائع·· اكتشاف عادي في أحد شوارع العاصمة، قرب مركز البريد بالعاصمة، دعوته على تناول فنجان قهوة، كان شارد الذهن، كئيب الملامح ومسكونا حتى النخاع بفكرة الموت·· كان الموت يطل من كل نظراته·· رحنا ندخن بشراهة·· وقال لي، أنه سيخلص من الشعر، وأن الشعر لا يستأهل أن يموت من أجله صاحبه·· وأحزنني حزنه آنذاك ورحنا نلتقي في ظروف كانت محكومة بالصدف وسخريات الصدف·· في تلك الفترة رحنا نفقد في وقت قصير الكثير من الأصدقاء·· فقدنا بختي بن عودة وفقد هو الكثير من أصدقائه الشعراء·· قرأت له في تلك الأوقات بعض نصوصي المتناثرة، وقرأ لي هو أشعارا مجنونة لم تعد ذاكرتي تحتفظ إلا ببقايا ظلالها··· ثم لم أعد أراه ولم يعد يراني أيام الموت الكثير·· عدت أنا لسيدي بلعباس ورحت أشتغل على فتوحات ابن عربي والمسرح، وذهب هو إلى هناك، إلى باريس·· وبعد وقت، عندما خفت شدة الموت، تواصلنا بالصدفة وبسرعة··· وها أنا أشعر بكل ذاك الدفء، دفء الصديق الشاعر النقي أو ذو النقاء المحاصر والمأزوم وهو يتكلم عن تلك اللحظات الشفافة والرقيقة والإنسانية التي جمعته بالروائي الراحل الطاهر وطار على أعمدة العدد الأخير من ''الأثر'' تدعونا الذكريات واللحظات التي يحتفظ كل واحد منا بجزء منها في أعماقه إلى إعادة تأمل الذات والآخر وهذا الكون الذي يلفنا كحروف وأشكال وجمل بين دفتيه·