السيل الجارف من الكتابات حول الحج لا بوصفه شرعة خامسة من شرائع الديانة الإسلامية وجملة مكتملة من الطقوس التعبدية والنسك والإبتهالات ولهج المهج بل بوصفه أدبا ونصا ويوميات، هذا السيل الجارف يعسر حصره أو تبويبه، أو التدقيق في ألوانه وفسيفسائياته، أدب رحلة مشحون، انفعالي، متوتر، خائف، به رجفة ورهبة، جزالات بيان وتخريجات أسلوب ومرجعيات متعاكسة، إن أدب الحج هذا هو وحده من أدب يستطيع الجمع بين الصدق العقيدي وأخلاق الإيمان مع التحقيق الكتابي والإنشاء النثري وفنيات الترسل البلاغي، ويجمع ما تراه العين من مشاهدات ومصادقات بصرية مع متخيلات ولواحظ وانطباعات، أدب الجمع هذا هو أدب ديني ولا ديني، تربوي ولا تربوي، معمق وعميق في صورة الملحمة وعابر، مزاجي في صورة التحقيق الصحفي، والروبورتاج والنقل المباشر، فضلا عن كونه أدب استطلاعات وجوسسة وصيد ثمين لتقارير العالم الإسلامي وأخباره·· ''قد يعتبر ما سأقوله اعترافا واعتراضا، أو زندقة، أو أي شيء آخر لكنني كنت أبحث في هذه المرحلة عن أخي، وكل إخوتي والآخرين، أكثر من يخشى عن الله فالله موجود في كل مكان، لمن يؤمن به'' ··· ''أن قشة في الميقات''· هو من هذه النصوص الجريئة، المتحفزة التي عبّرت عن شقاء الحاج أو المعتمر أو الزائر المشعر الحرام··· نص مسروق، مهرب، مفزع، مرعب للمفكر الإيراني جلال آل أحمد، وجلال آل أحمد كغيره من مفكري إيران معهودة إليهم هذه الجرأة والوثابة والشفافية في ترتيب الأحاسيس وتربيتها فما هو إيمان ومواجيد وابتهالات وتبتل ليس هو ما يفصل الإنسان عن نزعاته المتفرقة من أنانيات وميولات نحو الامتلاك أو النقص أو الظلم أو الرغبة المتوحشة وفكرة أن يعود الإنسان كما ما ولدته أمه هي أقصى المنازل والرتب وتراقي المراقي التي تتعذر على ذوي النفوس الهشة، الهينة، والعقل النائم السادر في غيّه، المتوزلين بين الجهلوت والظلموت، ولذلك لم يذهب آل أحمد إلى الأرض المقدسة إلا لمكاشفة نفسه أولا ثم الاقتراب من الآخر المسلم الفقير، الغني، المحزون، الموجوع، المريض، المهوس، المعقد، المنشق على نفسه مع نفسه، الذي يعيش رجّة الهوية واهتزاز اليقين والخوف من المجهول، فلا يذهب مسلم هناك كي يرى الله، فالله موجود في الصدور والوجدان، في التاريخ العاطفي للإنسان المسلم، في خريطة قلبه النزّاعة إلى الدنيوي، بإكراهاته وإحباطاته· إن كتابا توثيقيا هائلا من هذا النوع لا يصدر إلا ممن تقدرت موهبته الأدبية وبلغت شكلها النهائي والتوب ''/ذدش فلا يغرّن أحدهم بأي كتابة أو توصيف أو سجل إذا لم تنصهر روحه وأفكاره في التجربة ذاتها، تجربة الحج كونها مغامرة المغامرات ومحطة المحطات وذاك ما كان مع جلال دينه وديدنه كما يقول البلاغيون العرب، اجترح لنفسه هذا الإيراني البلدان غير، والأيديولوجيات غير والتفكرات غير والرحلات غير، لقد زار قبل مكةالمكرمةموسكو وتماهى معها غداة التحاقه بحزب تودة الشيوعي، وغادرها إلى باريس واعتنق السارترية هناك حيث سارتر وألبير كامو، قبل أن ييمم وجهه وشطره نحو الديار الشريفة كانت هنالك كتابات ومفكرات عن العرب والمستنيرين وخيانات المثقفين المبهورين بالغرب، الموبوئين بوبائه وماديته، حتى جاء هذا القفز نحو الروح، ومن الداخل، نحو آخر المختبرات النفسية لعالم المسلمين، إذ هم يتأذنون بالحج رجالا وعلى كل ضامر مركوب، متخففين من العادات والعاديات من أطايب الملبس والمشرب والمركب، متقصدين الله والكعبة، منى ومزدلفة، الجمرات ورمي الشيطان بالحجرة والدعاء ضده بالويل والثبور والوعيد الإلهي· لم يختر للرحلة زادا باذخا، لم يختر قافلة المرفهين المزودة بأجهزة الراحة والتكييف، لم يختر التشريفات وامتيازات الوفد الذي لا تنقصه ناقصة، فالحج ليس مناسبة وفدية ينعم صاحبها بالمكافآت وتخلع على صاحبها صفة الانتساب الفخري إلى عالم جديد، فهذا من التسطيح والتشيؤ والاستهلاكية التي غالبا ما حذر منها المثقف الإيراني في كتاباته وأنشطته ودروسه، وبتعبير زوجته اختار حج المتسكع يتبين في ذلك نوع الطعام والمساكن، وسائط النقل، وطبيعة المرافقين، ولقد كانت وسيلته من أجل الهروب من مشاغل النخبة وارتياباتها، المتعالية على حياة الشظف والمعاناة والتقشف· حقّق هذا النص الحجّي فرادة لا توصف في التفصيلة والجمع لما تراه عين وما لا تراه، وفرادة لا توصف من إعجابات المثقفين الفارسيين الكبار، انتزعها بلغته الوعرة، بانسياباته أسلوبا ولفظة وكلمات··· إن ''خسي درميقات'' ترد في معاجم اللغة الفارسية بمعاني جفة، جلفة، خشنة، معان كالتبن أو العلف أو الشوكة أو النتف التافهة من الخشب، أو الحشائش الجافة المضمحلة وهو المجاز الذي يطلق عليه معان كالحقير والوضيع والسافل، أما الياء في خسي فهو للتنكير وتنكير الاسم وإخراجه من كونه معرفة إلى معنى شائع، وتتوافق دلالة الكلمتين خسي بالقشة، في الاصطلاحين العربي والفارسي· بيد أن جلال آل أحمد يخير العنوان لمكتوبه فقشة في الميقات هو عنوان غير مشغول ليس له نظير، ليس له شبه ولا شبيه ويتقارب مع وصف على شريعتي له، حاد، موجز، ساخر، صريح، إنساني، عفوي، جرئ، عميق، فاضح، متين، جزمي، أحادي، تقريري ··· '' وعنه ''رضي الله عنه'' قال:: قصدت مكة ذات مرة ولم أر هناك إلا البيت، فخالجني أن حجّي غير مقبول، لأنني شاهدت الكثير من الأحجار، حججت مرة أخرى فرأيت البيت ورب البيت مع ذلك قلت إني لم أبلغ حقيقة التوحيد بعد، وقصدت الديار تارة ثالثة، رأيت رب البيت ولم أر البيت، وكأن أحدا يناديني يا أبا زيد إذا رأيت العالم كله ولم تر نفسك، فلست بمشرك، وإن رأيت نفسك كنت مشركا حتى ولم تر من العالم شيئا، عندها أتيت إلى الله وتبت ···من رؤية نفسي''· يقدم جلال استهلالا منقولا عن كتابات الأولين وآثارهم، حاملا هواجس واعتمالات الحاج العائد إلى نفسه وإلى ربه بعد ترحال على المكان المقدسي، المعنوي، الروحاني وهو ليس كذلك فقط عند جلال رغم الزخم المستعمل من الملفوظات والتعابير ذات الإيحاء الديني، لكن جلال يقوم في نصه على دنيوة المكان وتجريده من الاستغراق الديني فهو يتلبس بالمسالك البشرية كما بسلوكاتهم الإنسانية، العفوية التي لا تراقب درجات إيمانها واحتسابها بل منجذبة أكثر إلى الأرضي وشهوات الأرضي· كما يذكر في مقدمة هذا المكتوب يحمل معلومات هامة انبت على التدوين اليومي للشاهد الزائر لبيت الله الحرام، وهو تصوير للمحيط بكامل حواراته، عمارة البيت الحرام، الجغرافيا السكانية العمرانية لمكةالمكرمة والمدينة المنورة، الأسواق والمتاجر، الشوارع، عربات النقل، المناسك في عرفات، مزدلفة ومنى، أشكال مخيمات الحجاج فيها، إحصائيات عن المتنسكين وجنسياتهم، وأشياء أخرى صاغها المثقف الإيراني بحرارة النبض الذي تسارع في دمه وفي قلمه، مسكوبة في الموروث الحكائي، الفلكلوري، الفارسي وعلى الترنيمة نفسها كتب أعمالا أخرى لها الجدارة والفضل كالتغرب، خدمات وخيانات ونون والقلم· منذ بدء ترحاله من مطار ''مهر آباد'' نحو جدة من عام وشهر أفريل ,1964 والسخرية الحارقة تكتب نفسها وتستأثر بالحكايات في سرد شيق كأنه تمسرح درامي وقطيع من الوجدانات والاختلاطات والمشاعر ··· يقول جلال'' طرنا في الخامسة والنصف صباحا من مطار ''مهر آباد'' وكنا هناك في الثامنة والنصف ··· السابعة والنصف بالتوقيت المحلي ··· والضيافة في الطائرة، الإفطار خبز وقطعة دجاج وبيض في علبة عليها علامة شركة الطيران بلا شاي أو قهوة ··· لكن الحجاج ''أو الحجاج لاحقا'' ظلوا في شك من أمرهم مريب هل بإمكانهم أن يأكلوا أم لا؟ بأسلوب كهذا يروض جلال السخرية نحو أقصاها، فالرحلة عذاب والضيافة شحيحة إلا عن رئيس القافلة الذي حظي ببرتقالة إضافية غير مدفوعة التكاليف'' أشعر أني أرائي فلا أؤدي الصلاة كما ينبغي وحتى ولم تكن رياء، فهي خلو من الإيمان لمجرد الذوبان في الجموع·· · أفتسافر إلى الحج ولا تصلي ؟ 1 - من أول سطر في وصف الرحلة الحجية للحاج جلال آل أحمد - باسمه الزاخر بالدلالات والأركيولوجيات- تنتابك الحيرة الوجودية البالغة حتى العذاب النفسي· إنه يحب أن يقول لك دائما مع كل سطر، بعد كل فاصلة، أثناء كل وقفه، يقول لك قف: ليس الحج ما تعتقده، ما ستحوزه وتحصل عليه· بلى إنه مصابرة ومكابرة وجلد ورفعة وأسئلة خانقة، إنه ذهاب دون حزام آمان ومخاوف وتوجس، هناك حيث تنزل·· · سيرمقونك بإعجاب وأنت بثوب إحرام بالغ البياض ويرمقونك بحقارة هؤلاء غير الحجاج في بزاتهم الرسمية، موظفو شركات الطيران، بوليس المطار وجماركه، هؤلاء لهم شفرات الحلاقة، الوجوه الناعمة المصقولة، ربطات العنق ··· أما الحجاج فهم قرويون، وكسبة سوق، عجائز، متحجرون وعدد قليل مثلي مختلفة ملامهم على شيء من الأوربة أو الأمركة··· مئة بالمئة صحيح ما يقوله جلال، لا يتجنى، لا يتكلف، لا يسرق، ولا يستشرق ··· إنه هناك حيث الأمر مختلف عن مطارات باريس ولندن وأمستردام وأوسلو ونيويورك، فحتى في جدة نفسها وفي عواصم العالم العربي والعجمي، دائما يمايزون بين مطار الحجاج وبقية العالم، فمن يذهب إلى فطرته الأولى، بداوته، حجارته، شيطانه الذي يرجمه، مبيته في العراء دونما حجز مسبق··· من سيفعل ذلك يجب أن يكون مختلفا تماما عمن يذهب إلى باريسه أو لندنه أو نيويوركه· لا يجب أن يصدم بمشاهدته لمن يحمل صندوقا على كتفه، كيس خبز يابس ولبن وتوانه · صدمة التمييز هي الأولى التي يراها المسلم الحاج، فيشعر أن دنيا غير تلك خلفها وراءه ظهريا لأيام معدودات من أشهر معلومات، إن الميقات في زمانه ومكانه وفي روحيته ووجدانيته ليس هو القشة وسقط المتاع وأرطال الأثقال المحشوة داخل الأكياس والحقائب المهترئة مصاحبة لصراخات نسوة ندابات يتباكين وولدان خارجين من نادي الصبا ومرابع اللهو إلى مكان جدي، طقسي، صارم حيادي، غير أرضي وإلهي· لقد كتب جلال هذه الكتابة العارية الفضّاحة للسلوك المسلم حيال رمزية هذه الشعيرة العظيمة، العظيمة الطلب، العظيمة في أجرها والمأجورين عليها والعاملين ليلا ونهارا من أجل وصالها· واصل يكتب جلال في قشة الميقات بنزق، بهروب، بروح غير مسؤولة متجاوزا تلك النصوص الدعوية المكرورة أو الإنشاءات الإستشراقية التي كتبها الأشخاص العاديون أو الرحالة الأجانب أو المستكشفين· لا يترحل المسلم الحقيقي نحو البقاع ناشدا سلامته الداخلية، اطمئنانه العقيدي، حسن إسلامه وكماله بل يذهب كي يختبر موقعه من العالم ومن الآخر·· · والآخر هم غير الحجاج، ولذلك سنحتاج مرة أخرى لانطباعات كثيرين ممن انتموا إلى ديننا أو كانوا مسلمين بالفطرة كمحمد أسد، ومراد هوفمان ومالكوم آس وعلى شريعتي ومالك بن نبي وعبد الله حمودي فضلا عن الملوك والرؤساء كضياء الحق و الحسن الثاني وصدام حسين·