كانت السنوات الأولى من حكم الشاذلي بن جديد عاصفة وصاخبة ومليئة بالنزاعات والصراعات في أروقة أجهزة الحكم، وفي دهاليز المعارضة السرية وداخل المجتمع·· ما أن توفي الكولونيل هواري بومدين حتى ظهرت كل التناقضات المكبوتة على السطح، إندلعت في سبتمبر من العام 1979 شرارة الإضراب الشامل الذي شنه الطلبة المعربون، وكان شعاره التطبيق الفوري للتعريب، كنت حينها في السنة الأولى جامعي بمعهد العلوم السياسية والإعلامية، وتحولت في تلك الفترة معظم المعاهد الجامعية بالعاصمة إلى ميدان معركة أيديولوجية شديدة وعنيفة بين أنصار الإضراب وخصومه من الفرنكوفونيين والشيوعيين من حزب الطليعة الإشتراكية، وبرز وقتها قياديون جدد من المعربين، أذكر منهم الطالب في معهد الحقوق نور الدين نموشي الذي كان يملك موهبة خارقة في إثارة الجموع، وخيراني ذو السحنة السمراء والقامة القصيرة والدهاء الخطير، ومنصور بلرنب ذو الميولات الفوضوية، ومختار مزراق الذي كان يدير الخلايا التابعة لحزب البعث العراقي وصاحب الطموحات السياسية الكبيرة، وحميد فية الطالب بمعهد العلوم السياسية والذي غادر إلى جانب قادة آخرين الجزائر إلى إنجلترا بعد حصولهم على منح دراسية، وكان خيراني أحد الرؤوس المخططة والمدبرة للإضراب بحيث كانت تعقد عدة اجتماعات في غرفته '' 3 L'' بالحي الجامعي بابن عكنون، ولقد دخل في اتصال مباشر إلى جانب طلبة آخرين مع حجار، السفير الحالي بمصر، والذي كان في ذلك الوقت مقربا من وزير الداخلية بوعلام بن حمودة·· ولقد وجد هؤلاء القادة الجدد كل الدعم من وزير الداخلية في شن هجوم على يساريي حزب الطليعة الذين كانت مواقفهم معارضة أو غير واضحة من إضراب الطلبة المعربين·· وفي تلك الفترة تم زحزحة الشيوعيين من داخل جهاز الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية، وتدعم ذلك فيما بعد بالمادة 120 التي راحت تلاحق الكوادر الشيوعيين الذين كانوا يحتلون مناصب قيادية داخل أجهزة الدولة، وكان منسق حزب جبهة التحرير الحاكم محمد شريف مساعديه هو صاحب هذه المادة، وبعد أحداث الربيع الأمازيغي عام ,1980 جندت الأجهزة المعربين ليكونوا في واجهة المعارضين للحركة الثقافية البربرية، وبالفعل شكل قادة حركة التعريب عام 1981 داخل الحي الجامعي بابن عكنون الذي تحول إلى حصنهم المنيع كتائب مسلحة بالسلاح الأبيض، (خناجر، سلاسل، وسواطير) وكانت هذه الكتائب التي وصفت كل الأساتذة الذين عارضوا التعريب بالخونة، وراحت تعلق على جدران كل المعاهد الجامعية، شهادات خيانة·· ثم راحت تقدم ''محاكمات شعبية'' داخل الحي الجامعي بابن عكنون للذكور، لكل من كانوا يخالفون حركة التعريب (صوت التعريب)، وهم العناصر الناشطة في حزب الطليعة الإشتراكية، لكن أيضا من كانوا ناشطين داخل الحركة الثقافية البربرية، وبالفعل تحولت هذه المحاكمات إلى محاكم تفتيش حقيقية، تثير الخوف والرعب·· وكان يتم كل ذلك تحت أنظار قوات الأمن، ورجال الدرك الذين كانت ثكنتهم بالقرب من الحي الجامعي بابن عكنون·· لقد تعرض الكثير من الطلبة القبايل للمحاكمة وتم جلدهم داخل الحي الجامعي وأمام أنظار الطلبة الذين كانوا يجبرون على حضور المحاكمات!! وبعد إلقاء القبض على عدد من قياديي الحركة الثقافية البربرية نظم أنصار حركة التعريب تجمعا داخل الجامعة المركزية وكان ذلك بمناسبة يوم العلم، ورفعوا يافطات تدعو الحكومة إلى تطبيق حكم الإعدام في حق رؤوس الحركة الثقافية البربرية التي وصفوها ''بالعمالة للخارج''· كان ياسين قلقا تجاه هذا الوضع، وكان يقول لنا نحن الذين كنا نروي له تفاصيل ما يحدث، ''هذا غير معقول، يبدو أن الجناح اليميني داخل السلطة يريد أن يتجه بالبلاد نحو حرب أهلية··!'' وكان الفصل الثاني من هذا التوجه الجديد هو بروز الإسلاميين على الساحة، لقد أنشأ الإخوان المسلمون الذين أفرج الشاذلي عن زعيمهم الشيخ محفوظ نحناح معاقلهم داخل الأحياء الجامعية وذلك عبر سيطرتهم على المصليات وتحويلها إلى حصون منيعة لبث فكرهم وسيطرتهم، كما قام تيار الجزأرة بالإستيلاء على جامع الجامعة المركزية وعلى جامعة باب الزوار وكلية الطب بلابيرين، في حين تمكنت القوة السلفية الصاعدة بزعامة علي بن حاج من تجنيد الأنصار الجدد لنظرتها داخل المساجد الشعبية بباب الوادي، والقبة وبلكور ودرارية والعاشور·· وأدى ذلك إلى ظهور صوت جديد على الساحة هو صوت مصطفى بويعلي الذي أسس للإسلام المسلح، ونادى لأول مرة في الجزائر منذ الإستقلال باستئناف الجهاد ضد حكم الشاذلي بن جديد ومؤسسات الدولة،و وصفه ''بالطاغوت'' وفي ظل هذا المناخ، تم اغتيال الطالب كمال أمزال في 2 نوفمبر ,1982 داخل الحي الجامعي بابن عكنون على يد أحد الإسلاميين، يدعى عسولي، وقد حكم عليه بثماني سنوات سجنا نافذا، لكن بعد ثمانية أشهر أطلق سراحه عن طريق عفو رئاسي، وقتل هذا الإسلامي في نهاية التسعينيات بسيدي بلعباس من طرف قوات الأمن·· فلقد كان ناشطا ضمن الجماعة الإسلامية المسلحة التي كان يقودها قادة بن شيحة، مؤسس جماعة حماة الدعوة السلفية فيما بعد·· صعد الإخوان في تلك الفترة من حملاتهم ضد مسرحية ''محمد خذ حقيبتك'' وهذا ما كان يزيد من انزعاج كاتب ياسين، واعتبر أن المحركين الحقيقيين لهذه الحملة يختبئون وراء توظيف الإسلاميين لمصلحتهم·· وسألت ياسين ببراءة، لكن من هم هؤلاء الذين يختبئون وراء توظيف الإسلاميين؟!'' حدق طويلا في وجهي، ثم قال باقتضاب ''إنهم الرجعيون الجدد الذين يريدون الإنتقال بالجزائر من الإشتراكية إلى الضفة الأخرى·· ضفة الجهل والاستغلال والظلام''، في 12 نوفمبر إمتلأ شارع ديدوش مراد بالسلفيين والإخوان المسلمين·· كانوا بالآلاف، وضعوا حزاما أمنيا، ووضعوا على جباههم عصائب خضراء كتب عليها شعار ''لا إله إلا الله، محمد رسول الله''·· وداخل الجامعة المركزية إصطف أمام المنصة كل من الشيوخ عباسي مدني، وعبد اللطيف سلطاني، وأحمد سحنون، ألقى شاب بصوته الجهوري، ما أسماه الإسلاميون ''بيان النصيحة'' الذي كان مؤلفا من 12 نقطة، تلخصت حول تطهير المجتمع وإصلاح منظومة العدالة والتربية بتطبيق الشريعة الإسلامية، وإبعاد بعض الوجوه من هرم السلطة··! كان ذلك إيذانا ببداية مرحلة جديدة، وفصل جديد··! في ذلك المساء، إمتلأ بيت ياسين بابن عكنون بالكثير من أصدقائه ورفاقه، كانوا شبه مصدومين وحائرين·· كان سؤال ''ما العمل؟!'' يحاصرهم·· كانت علامات الشك بادية على الوجوه·· هل كانوا على أبواب خسران معركتهم مع الإسلاميين؟! لا أحد كان قادرا على الإجابة، لكن كان الصمت أكثر فصاحة من كل كلام··