يذكر علي هارون في كتابه ''خيبة الانطلاق أو فتنة صيف 1962''··· ''وبلغ اللفظ أوجه·· ونهض المؤتمرون، واندفع علي منجلي في طعن عنيف ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، وفي حين كان رئيس الجلسة يحاول جاهدا إعادة الهدوء إلى القاعة، شرع بعض مناصري بن بلة في شتم الوزراء، وبعد أن يئس رئيس الجلسة من عودة الأمور إلى مجراها، أمر بتعليق النقاش تفاديا لتفاقم الوضع وتعفنه··· وفهمنا من مرحلة العنف بين الإخوة التي ستطبع هذا الصيف، صيف الخيبة الكبرى، أن ذلك كان آخر عهد لنا بجلسات المجلس الوطني للثورة الجزائرية··· لأن هذه الجلسة كانت هي الأخيرة··.''· حدث ذلك في ليلة الخامس إلى السادس جوان من عام 1962 في القاعة المخصصة لاجتماعات مجلس شيوخ الملك الليبي إدريس بطرابلس·· حلم الأخوة الثورية كان على عتبة التبدد، وبالفعل ما إن تم الإعلان عن الميلاد الرسمي والفعلي للخطة الاستقلالية حتى تحول هذا العنف اللفظي إلى تقاتل بالسلاح·· لقد ولدت الخطة الاستقلالية في حالة من الصخب والصخب المعلنين بشكل سافر··· وظهرت هذه الخطة منذ البداية هشة ومحفوفة بالمخاطر··· لقد تراجعت الحكومة المؤقتة أمام تصميم جيش الحدود الذي كان يقوده العقيد هواري بومدين وأصبح أحمد بن بلة المدعوم من طرف وزير الدفاع بومدين أول رئيس للجزائر المستقلة·· لكن هذا النصر السياسي الذي حققه جيش الحدود كان حاملا في ذاته لهشاشته، لأنه نصر حاول تدشين السياسي على أساس سلطة وشرعية مزدوجة·· سلطة يتقاسمها الرئيس من جهة ووزير دفاعه من جهة ثانية· ما يعرف عن أحمد بن بلة، أنه كان دائما يحرص أن يكون اللاعب المدلل، فحتى عندما كان لاعبا لكرة القدم، كان يطلب من زملائه أن يمنحوه الكرة ليسجل، كان مفتونا بالمجد، مولعا بالشهرة، ما كان يهمه هو الظهور أمام الجمهورز وافتتان الجمهور به··· دائما كانت اللعبة بالنسبة إليه مرتبطة بسلطة السحر الذي يثيره في نفوس الآخرين·· المظهر هو الأساس عند بن بلة، هو أداته في اكتساب رضى الآخرين، لذا كانت السياسة عنده هي هذه الألشيمية المتحولة والمتغيرة والمتقلبة، وهذا ما كان يجعله عند البعض يجمع بين السذاجة السياسية والخطورة المتمثلة في تحوله بالرغم من نيته إلى حاكم متسلط·· كان مثل هذا التوجه والسلوك عند أحمد بن بلة مصدر قلق وانزعاج لبومدين·· كان هذا الأخير النقيض الأساسي لأحمد بن بلة·· كان يفضل الصمت بدل الافتتان بالكلام والانسياق نحو جاذبية الخطاب أمام الجموع، والعمل والتخطيط في الخفاء بدل الإعلان الصاخب عن الخطط والمشاريع، والمناورة الصامتة والوئيدة بدل المواجهة والصدام·· لقد ظل هواري بومدين يراقب أحمد بن بلة وهو يخسر المقربين منه الواحد تلو الآخر، وقد ساعده الكولونيل بومدين لأن يحث الخطى في هذا الاتجاه··· هل كان بومدين بالفعل يخطط ليكون خليفة لأحمد بن بلة؟! الكل كان يدرك ذلك، إلا الرئيس الذي كان يثق في وزير دفاعه، لكن هذه الثقة لم تكن متأتية من عمق العلاقة ببومدين، بل كانت صادرة عن سوء التقدير الذي كان عند أحمد بن بلة تجاه وزير دفاعه··· كان يعتقد أنه يمكن التخلص منه في اللحظة المناسبة التي يريدها هو،، وهنا كان خطأه القاتل··· نحن هنا أمام طرازين من الرجال·· وأمام لحظة إسمها لعبة التاريخ·· كان أحمد بن بلة يمثل الطراز الأول، وهو طراز يعتمد على العفوية والانبهار بالجمهور وسلطة الجمهور والتي كانت تسمى بسلطة الشعب، لكن في الحقيقة يخفي مثل هذا الخطاب حقيقة أخرى،، وهو انبهار الزعيم بنفسه من خلال إذابة الشعب في شخصيته، بحيث يتحول إلى صدى لصوته ومرآة لنفسه، مرآة لا تريه إلا صورته وهي مضخمة ومتعددة في الأصوات التي تهتف به وبحياته وبعظمته·· يتحول هذا الطراز من الرجال أو من القادة إلى مرادف للسلطة والدولة·· أما الطراز الثاني والذي كان يمثله الكولونيل بومدين، فهو طراز معقد، إنه يقوم على محو صورته ضمن الجماعة، لكن هذه الجماعة تبقى غائبة الملامح وخفية وقريبة من المطلق، لتتداخل والنظام البيروقراطي للدولة، بحيث تصبح الصورة ذات اتجاه شمولي وعائم وهذا من خلال إضفاء القداسة على الدولة، وهنا يزول الجدار الفاصل بين قداسة الزعيم وقداسة الثورة وقداسة الدولة·· فعندما كان بومدين على سبيل المثال يتخذ قرارات سياسية، لم يكن ليقول أنه اتخذها، بل كان يحول ذلك إلى الثورة، فالثورة هي التي تقرر والثورة هي التي تحكم·· والثورة تتخذ الإجراءات الحاسمة، هذا التماهي مكن بومدين من أن يتخذ صورة متعالية ساعدته على ترسيخ ثقافة نظام يقوم على التخفي والتستر وعلى تمجيد السرية،، التي من فضائلها إخفاء الكثير من العيوب والخطايا المقترفة من الحاكم أو من فريقه الذي يساعده في إدارة الحكم··· لقد تعرض بومدين لمحاولة انقلاب من طرف الطاهر الزبيري وتعرض لمحاولة اغتيال في عام ,1968 لكن بفضل تلك الثقافة القائمة على التستر والتخفي استطاع أن يغطي على الصراعات حول الحكم ويدفع الأنظار إلى مراقبة ما اتجه إليه من تحريك لقضايا كبرى، مثل التأميم والإصلاح الزراعي، وتنظيم مؤتمر حركة عدم الانحياز، ومواجهة الأمبريالية ودعم حركات التحرر الوطني في إفريقيا وفي العالم العربي·.· لقد كان أحمد بن بلة يفضل لعبة المشهدية، وبالتالي كان يريد إعادة إنتاج صورة الزعيم الذي جسدها مصالي الحاج بشكل قوي ولافت، في حين تمكن هواري بومدين من الانتصار عليه وذلك من خلال اختلاقه للعبة التخفي التي كانت مزيجا بين الرهبة التي يثيرها حكم الجماعة والسحر الذي يحدثه الفرد، وهذا ما تحقق له خلال السنوات الثماني الأخيرة من حكمه·