مع مرور السنوات يحدث تغييب رهيب لتاريخ 5 أكتوبر 1988 من كل التواريخ المهمة للجزائر المعاصرة·· الخامس أكتوبر 88 كان في رأيي أهم تواريخ البلاد منذ الاستقلال، فهو الميلاد الثاني للجزائر، واللحظة الحاسمة التي حرّكت مياه التاريخ الراكدة المستسلمة لسلطة الحزب الواحد والقانعة ببريق شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع·· الأطفال والمراهقون والشباب الذين ثاروا في ذلك الوقت أصبحوا الآن كهولا بعد 22 سنة، بعضهم مات وبعضهم حرف إلى أوربا، والبعض صعد الجبل ووجد الحل في ممارسة الإرهاب، والبعض الآخر لم يفعل شيئا وانخرط في تبعات الأزمة المقيمة، والذين ولدوا عشية ذلك التاريخ هم الآن في ريعان الشباب بلا أمل ولا أحلام· التغييب المريب لأهمية اللحظة الأكتوبرية أخفى الكثير من الحقائق، وجعل للحقيقة أوجها عدة ومتعددة، كل القراءات لم تلامس قلب الحقيقة، تكلم الكثيرون وكتب الكثيرون، والتغييب مستمر، ويزداد سنة بعد أخرى·· ومعه تخفت رمزية اللحظة، لكن التاريخ يعلمنا أنه يحتوي كل شيء، يسع كل شاردة وواردة تحدث فيه، لا أتحدث عن تاريخ ما وقع لأن له الكثير من التشويق الأدبي، ولكن المهم هو تحليل اللحظة بكل عنفها وثوريتها سواء في الدماء التي سالت والأرواح التي زهقت والتعذيب الجسدي الذي تعرّض له أطفال أكتوبر أو في تحويل مسار التاريخ السياسي للبلاد·· لقد أتاح أكتوبر للأفواه التي كانت مكممة حرية الصراع، والكلام العلني عن الفساد والرشوة والتسلط، وأتاح للأفكار المكبلة الانطلاق من عقالها· لكن المشكلة تقع على عاتق النخبة التي لم تستطع الحفاظ على الإرث الأكتوبري، فقد ضاع هذا الإرث على مرّ السنوات، لأن الحفاظ عليه والسعي لاستثماره يقع بالدرجة الأولى على عاتق النخبة التي ضاعت هي الأخرى بين الإغراءات المتعددة والتهميش· إننا نجد صعوبة في تسمية هذه اللحظة تسمية دقيقة، نظرا لفجائيتها، ونظرا لما حدث لها من توجيه وتشويه، فالاضطرابات الشعبية التي تحدث في العالم، تكون لها في الصباح مطالب اجتماعية بحتة، فجأة وبقدرة قادر تتحوّل إلى مطالب سياسية في المساء· وهنا يكمن مربط الفرس، أعتقد أن الأطفال والشباب الذين أحرقوا الأروقة الجزائرية وأسواق الفلاح والإدارات العمومية في ذلك التاريخ لم يكن لهم أي وعي سياسي أو قاعدة إيديولوجية، كانت النكت الساخرة السياسية هي متنفس الناس· اليوم، وبعد 22 سنة من أكتوبر ,88 نجد أنفسنا في لحظة شبيهة· ورغم هذا وأكثر، مازال تاريخ أكتوبر 88 يغيّب كل سنة، ومازال له ذلك الألق الذي تحوّل إلى نوستالجيا حارقة·