''كل من كانت فيه دعابة، فقلبه خال من الكبر''·· لا أذكر، على وجه التحديد، قائل هذه الجملة، وأظنه علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، حضرتني هذه العبارة وأنا أقلب الفكرة على أختها في نسج فقرة عن فقيد الشعر العربي الكبير محمود درويش، تلقي أضواء عن سيرته كإنسان اختارته عناية الجمال أن يكون واحدا من أبرز الأصوات الشعرية في الوطن العربي وفي العالم ·· رسم، كثير من الناس، صورة لهذا الشاعر النجم ·· رجل وسيم يتوشح وقارا أضفى عليه لمعانا ذلك الهدوء النادر فيه حد الشرود والغياب، شاعر إذا قرأ الشعر غناه بصوت صادح يربي في القلب الأمل والألم ·· هكذا كان شاعرا في الصمت وفي الشعر وفي النثر وفي الكبرياء، وهو في ذلك كان دائما ''يمشي على أطراف القلب'' كما قال ذات يوم يربي أملا عاش على حلم إشراقه عمرا من الوجع أو وطنا من الفقد· وربما تضافرت أسباب عدة لتجعل من هذا الشاعر ذي الحضور البهي في وجدان الناس، صورة أكثر إلغازا وغرائبية، في مقدمتها مسار حياته الذي كان مسلسلا من التعب والتجوال، ثم ارتفاعه إلى مقام الساسة الكبار الذين لا يتحركون بسهولة إلا فيما ندر، مسار سياسي خاض في دروبه الوعرة هذا الشاعر كل المهالك من أجل أن يبقي على شعرة معاوية بينه وبين الانخراط الأعمى في مشروع سياسي محاط بالألغام والأسلاك الشائكة قد يعيش حياة فراشة حفاظا على ذلك الشاعر الذي لا يقبل أن يترك حصان القول وحيدا· هي صور عدة، إذن، تجمعت لدى الكثيرين، لا سيما المعجبين من البسطاء، قالت في النهاية إن هذا الشاعر الكبير المحبوب أصيب بجنون الخيلاء والكبرياء حتى لقبه بعض الناس ب ''الشاعر الطاووس''، متحاشين القرب منه، كما لو كان إلاها على عرش·· وهي صورة لا أدعي أنها لم ترتسم في مخيلتي وما أكثر ما نرسمها لكل من نحب من الشعراء والكتاب ولكني وجدت لها سبعين عذرا، وربما تكفي نرجسية الشعراء عناء البحث عن الأعذار الأخرى· عود إلى العبارة الأولى التي تفتتح هذه الخواطر لنسحبها، بكثير من الحب، على شاعرنا درويش، هل كانت فيه دعابة، هذا ما يجمع عليه من عرفوه، عن كثب، من الأصدقاء والأحباب، ولقد وجدتها فيه حقا يوم أن التقيناه، وكنا جمعا من الصحفيين والكتاب في آخر زيارة قام بها درويش إلى الجزائر في فندق سان جورج· كان درويش يعرف كيف يعصر من ليمونة الجدية عصير الدعابة والفرح، لكنه لا يقبل، بأي حال من الأحوال، رائحة استفزاز مكني أو مقنع فتحت معه، للأمانة، سؤال البورجوازية في حياة درويش ومع ذلك تراه يتعامل مع السؤال المستفز وقد زلزله الغضب كطفل صغير بهدوء يصطنعه لأنه شاعر لا يحسن إخفاء ما يقول القلب وما تصرخ به الروح البريئة بعد اللقاء نزلت غشاوة الصورة الأولى إلى أسفل الذاكرة وأبحرت في الغياب حتى رأيته قبل شهور في لقاء تلفزيوني أجري معه قبل سنوات يرد، بكثير من الحياء، عن تهمة ''الطاووسية'' التي تطارده عقودا من الزمن الغشيم ·· قال درويش ساعتها ''أحزن كثيرا عندما أتهم بالكبرياء ·· كل ما في الأمر أنني حيي جدا، لذلك لا أتواصل بسهولة وبكثرة مع الناس، الحياء صنع، إلى حد ما، حاجزا بيني وبين الناس، ولكن لا علاقة لسلوكي هذا بالكبرياء، أبدا، مع أن هذا لا ينفي الاعتداد بالنفس'' ·· وقال، من صدقوه وصادقوه، أنه كان كذلك، إنسانا مدججا بمناعات الحياء، وعاش عمره يتلقى الحب به كما يتلقى العواصف التي لم يسلم منها كنجم جمع بين ألق الشاعر و هالة السياسي المحنك، هكذا كان درويش شاعرا يعيش حياته كقصيدة تتأبى الاكتمال كأني به خط على شغاف قلبه ''لا أريد لهذه القصيدة / الأسطورة أن تكتمل'' لأن الاكتمال يعني النهاية، ودرويش اختار منذ أن كتب ''أعراسه'' أن يحيا، أن يتجدد، أن يغني، وأن يربي الأمل· ها أنا أذكر في ختام ضروري عبارة كاتبنا الكبير عمي الطاهر وطار عجل الله عودته إلى قلوبنا وهو في طريقه إلى قبر ماركس رفقة الشاعر الكبير عمر أزراج، فقال وقد نال منه التعب ''أتعبتنا حيا وميتا'' ·· ها نحن نقول ''أتعبتنا يا درويش حيا وميتا'' أتعبتنا بالحب الذي غنيت، مع ''ريتا'' التي عشقناها، وبالأمل الذي ناديت، وبالدموع التي ذرفت، وبقبيلة الأسئلة التي تركتها معلقة في أفئدتنا كنواقيس الكنائس القديمة ·· أتعبنا يا درويش فمازلنا نحن كل وقت للكسل العام نلوك الهزائم التي يخيطها الإخوة الأعداء في الوطن العربي، ومع ذلك، عقدنا العزم أن نردد بعدك ''نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا'' إذن ''لا تعتذر عما فعلت'' ونم قرير العين على حلم·